تتمتع رواية المغاربة (2016) لعبد الكريم جويطي بكثافة عالية في اللغة والإيحاء، كثافةٍ نتصوَّر صعوبة الإحاطة بها وبمختلف أبعادها. فقد رَتَّب الروائي مفاصل عمله المرسلة بعناية فائقة، وسَمَح لنفسه طيلة صفحات الرواية (400 صفحة) بالإبحار بعيداً وعالياً، في بناء شبكة من المواقف والخيارات السياسية والتاريخية والميتافيزيقية، وذلك بكثير من العناية والصبر. ولأن الرواية تُجَرِّب طرائق في السرد وفي الحديث عن الذات والمجتمع وتنسج صلات من الوصل مع أبرز إشكالات الراهن المغربي، فقد أنتجت نصاً مركباً تؤثثه وتتعايش معه وفي قلبه، مجموعة من النصوص والتداعيات والأزمنة والغرائب والحكايات الساخرة والماكرة.. ظل الكاتب طيلة صفحات عمله وفياً لآلية في السرد والجمع والترتيب، لا علاقة لها بنمط السرد الكلاسيكي في التعامل مع الشخوص والأحداث، بل إننا نستطيع القول بأن القارئ الذي تَعَوَّد السَّبْك الروائي المعتمد على منطق البداية والنهاية، سيضيع في قلب متواليات الرواية وتداعياتها ونظامها في البناء والترتيب، ليكتشف أنه أمام سردية تحمل فيها بداية النص بعض علامات نهايته، وتتحول النهاية في مستهل الرواية إلى مقدمة للحكي، وذلك بهدف الإمساك بشجونٍ وفنونٍ وأحلام، حيث تمتلئ صفحات الرواية بكثير من الدروب والوقائع والنصوص والأغاني والأحلام. يتصدى جويطي في روايته لأسئلة الراهن المغربي، يواجهها بآليات فنية متعددة في الكتابة والسرد، ولأنه يستعمل ريشة الفنان الذي يرسم بالكلمات فإنه لا يتردد في الغناء، كما لا يتردد في إطلاق اللعنات الْمُجلجلة على الزمن الذي أوصل المغرب والمغاربة إلى ما هم عليه، حيث حصلت تراجعات وإخفاقات تدعو إلى لحظة مراجعة حاسمة. ومن هذه الزاوية بالذات، نقول لقد وُفِّقَ صاحب العمل في تركيب نص غنائي، يستعرض بحس تاريخي وإنساني جوانب من تراجيديا المغاربة في الحاضر والماضي، جوانب من حماقاتهم وعاهاتهم ونزواتهم.. ولأن متعتنا بالنص كانت متواصلة طيلة صفحاته المكثَّفة، فقد اخترنا للقارئ الذي لم يتمكن من الاطلاع على النص، جملة من الفقرات ووضعنا لها عناوين تُسَهِّل عملية الاقتراب منها وولوج عوالمها. تحضر في النصوص المختارة حالات نفسية، ومعطيات سياسية وتاريخية وأسطورية كذلك، تحضر فيها مواقف نقدية منحازة لخيارات سياسية وتاريخية محدَّدة، ويحضر فيها باستمرار افتتان باللغة والحكي ومحاذاة الأقاصي، حيث يشعر قارئها أنه أمام كاتب مفتون بالكلمات، متطلع إلى الجميل يستطيبُه ويُنشئه بكثير من اليفاعة واليناعة في العبارة، وكثير من الجهد والصبر في البحث عن الوسائل التي تمنح النص كثافة وعمقاً..
1 – من هم المغاربة؟ صَدَّ البحر المغاربة الأوائل، فأداروا له ظهورهم. كل هذه الشطآن المديدة، كل هذه الأمواج، والزّرقة الهائلة، ولا أثر لها، حضارةٌ بُنيت بين حواجز ثلاثة: بحر وجبل وصحراء. حضارة رأت في هذه التضاريس ما يصدّ وينهي ويخيف لا ما يفتح ويبشِّر.. لأن المغرب كان بعيداً جداً، في طرف سحيق من الإمبراطوريات، حيث تخفّ قبضة الدولة والدين والتاريخ، فقد كان دوماً مُلكاً مشاعاً للمدَّعين والحالمين بالسلطة والكذابين الكبار.. (ص122). بلد ببحرين وأنهار جارية وأراضٍ خصبة وغاياتٍ، حَكَمَتْه الصحراء، ومنحته قادَة وزعماء ومنظّرين أشدّاء، محتدِّين دوماً، وضائعين بين النقائض، لكنهم بلا خيال ولا طموح.. (ص 123) شعب بلا خيال لم يحلم بمجتمع آخر إلاّ من خلال متنبئين فاشلين ومدَّعين بئيسين للمهدوية. أينما وليت وجهك ترى الشعب وزَّع كل آلامه على القبور، وخصَّ كل واحد منها بشفاء مريض وقعدَ على قارعة التاريخ ينتظر الكرامات… بلد كطاولة نردٍ حكم الطاعون والمجاعات أكثر مِمَّا حكمته الأسر المتعاقبة. بضربةٍ خاطفة كانوا يهزؤون بالجيش والعصبية القبلية ويحوِّلون الديار إلى أطلال ودمن.. (ص122). شعب خرج من أفدح ما في التراجيديات اليونانية. قتل والده وهو لا يعرف، تزوَّج أمه وهو لا يعرف. وهكذا فكل حقارات الإنسان وغرائزه البهيمية، وانقياده لحبّ التسلط والتملك واقترافه لأفظع الجرائم في حقّ أخيه الإنسان لا يعود لدواخله المعتمة، حيث تمتزج وَضَاعَة النار بصَفاقة التراب، بل لأقدار ومشيئة بعيدة عنه.. لا أحد يتحمَّل المسؤولية هنا، حتى الذين أضاعوا أجيالاً. أو الذين عذبوا وقتلوا وشرّدوا، لا أحد يعترف أو يعتذر، كل شيء حدثَ ويحدث بلا علم ولا إرادة منا. شعبٌ من الملائكة يقترف ما يُذهل الشياطين نفسها.. (ص 123). كم ازدهرت الشروح في هذا البلد، وشروح الشروح، والحواشي، والمختصرات ومختصرات المختصرات، والأرجوزات التعليمية، وطمرت، شيئاً فشيئاً، المصادر! كم حفرت من خنادق عميقة بين العقل وأصول المعارف! في تلك الأوساط التعليمية المتحجِّرة والتي صاغت عقلية المغاربة لقرون، كان كل شيء قد قيل والمعاني والمعارف قد استنفدت، ولم تعُد هناك حاجة إلى بذل جهد في الإبداع والابتكار، يكفي الحفظ والقدرة عل الاستظهار. كانت تلك الأوساط تَصْدَحُ منتفخة الأوداج: تحيي الذاكرة، تسقط المخيلة.. (ص 122). ولأنني أعرف أن المخزن لم يعد يتضايق في سريرته من المنذرين بالطوفان والكارثة والفوضى القادمة والارتطام بالحائط، بل يسخر من سذاجتهم ومن خلطهم الْمُحْزِن بين ما يتمنونه، وبين واقع اشتغل عليه لعقود ليفرِّغه من الحالمين والغاضبين ومن القادرين على تجميع الناس، واقع يستطيع فيه طبل وغيطة أن يلهبا الجموع أكثر، بما لا يُقَاس، من زعماء الوقت الذين أعدوا إعداداً لكي يفتِّتوا ما تبقى من ثقة في السياسة، وفي تغيير هذا البلد نحو الأفضل. وحتى إذا تحرك السيل يوماً، فإنه سيحطِّم كل ما يعترض طريقه، ويهدأ بعد ذلك. لأن لا هدف له غير التنفيس المؤقت عن قهر وأحزان متراكمة منذ سنوات.. (ص 303). 2 – المغاربة وعمى البصر والبصيرة أعطني يدك أيها الصوت الذي ينادم الذرى فوق عطشي. أعطني يدك وأنت تهشّ للريح والضوء وزهر الأودية والندى البكر لأشياء بعيدة لا تبصرها، لكنها تأتيك طائعة وأنت تلتقطها واحداً واحداً بمنقار حاذق يفصل الحب عن الزوان. أعطني يدك أيها الشوق والوعد الحق.. (ص 212) أنا أعمى غرّ، بلا تجربة، ولا مكر دفاعي، وعليَّ أن أشحذ حواسي الأخرى لتعوِّض فقداني البصر. في أيامي الأولى، كنت أدفع صرخة وحشية قوية تتجمع كعاصفة في حلقي، لعلها تُحدث ثلمة في جدران الظلام التي أطبقت عليَّ، وأدفعها بتصنُّع هدوء خادع، بابتسام يائس، بالثرثرة مع مَن حولي، بمحاولة التفكير في عميان انتصروا على العاهة. وأقول لنفسي لماذا ليس للإنسان كبرياء بعض الكائنات الصغيرة مثل النحلة التي تموت بمجرّد فقدانها شوكتها؟ لماذا يقبل الإنسان الاستمرار في العيش وهو ناقص مشوّه ومثير للشفقة؟ ولم تَعُد تفارقني صورة جدي وهو يدعو الله بأن يجعل نهاية بصره وعمره واحدة، فلا يتأخر الموت ثانية واحدة عن موت نور العينين. وكنت أشغل نفسي بجدال داخلي رهيب، ما الأرحم والأفضل لي: لو كنتُ قد ولدت أعمى. أو عماي وقد بلغت الحادية والعشرين من العمر! ومن الأفضل، أن تولد مثل آلاف الكائنات غير المبصرة التي لا تتعذب بما فقدته، أو تصاب بالعمى بعد أن تكون قد أخذت نصيباً ولو قليلاً من العالم، وعرفت الشمس، وألوان الفصول، والأشجار، والطيور، ولون السماء والخبز والشاي، والحمرة الشفيفة للخجل حين ترتسم في الخدين، والدموع حين تنفجر في العينين، ورأيت الحناء في أيدي الصبايا، والماء جارياً في السواقي، والغمام الهارب، وقطرات المطر، وقوس قزح، والأصيل حين يسفح دم النهار ويضرج به الأفق، والندى متلألأ فوق الزهور، وضحكات الشيوخ، وحدب الأمهات حين يرتسم في وجوههن، ووجوه الأطفال، والزهر، وخزَّنت بداخلك الصوَّر والوجوه والأشكال والحركات، وصرت تمدّ يدك كلما عَنَّ لك أمر، وتخرج من ذاكرتك الصوَّر المخزنة بداخلك، تُخرِج ما يُعينك على التعامل مع الشيء كأنك تُبصره. ما الأرحم لك أن تتعذب بما لم تَرَه أو تتعذب بما فقدتَ رؤيته؟ كانت وقائع عمى مُعلن، وكان لديَّ متسعُ سنين من الوقت لأوطِّن نفسي على قبول العاهة. انتظرتها كما ينتظر الأرق ليلَ العذاب. أقبلتُ بحمية على تسميم علاقتي مع كل ما أراه، وعلى ادِّخار كل الآراء التي ترى بأنَّ العالم قبيح والحياة «كارثة مخزية»، وأن الإنسان خُلق ليشقى، وما يميِّز الناس هو نوع الشقاء ودرجته. (156-157) بعد شهر، جاءني العسكري بالعدة الرسمية للأعمى: عكاز ونظارة سوداء. اشتراهما من بائع خردة. خنقني إحساس بالضَّيم يومها، وأغلقتُ باب المرحاض عليَّ وبكيت بحرقة. عليَّ أن أودع في هذا القضيب من الألمنيوم البارد واليد البلاستيكية المعدَّة بشكل يلائم الأصابع رجائي، وضياعي، وترددي، أودِع فيه تهجّي المتصاغر للعالم. عليَّ أن أُؤاخِي هذا القضيب البارد فهو الذي سيصبح دليلي وعنواني، ولن أقدِم على العالم إلاَّ وهو يسبقني ويضبط مسافة الأمان التي تفصلني عن الارتطام والسقوط. إنه رِجْلٌ ثالثة لا تملك إلاّ قدرتها على الاستشراف الأصمّ للحيِّز الذي أتقدم فيه. بكيتُ لأنني صرتُ في عيني العسكري أعمى تماماً وكاملاً بلا أمل ولا رجاء. وبكيتُ لأنه وفي الوقت نفسه والحجرة نفسها صار هناك عكازان، وعجزان، وكآبتان. فاجأني العسكري وأنا أنتحب لهول الهدية تحت اللحاف. جلس بجانبي وربتَ على كتفي وبعد صمت طويل قال لي: «ستتعوَّد، وستقبل، فهي حين تحطمنا تماماً تمدُّ لنا يدها، وتساعدنا على الوقوف، بل إنها تزرع بسمة مدهشة في شفتينا وذواتنا وأملاً وسط حطام ودخان صدورنا، ستتعود يا أخي ففي يدها الزمن تلاعبه كيفما شاءت». (158-159). لو كنت أرى لزرعتُ لهفتي في ابتسامة عابرة لامرأة أخرى، وبدَّدتُ حرقتي في نظرة حالمة لصبية تمرّ حاملة قبطة نعناع. لو كنت أرى لسللت جسدي في أجساد مثيرة مشتهاة، ولتهالكت على أوّل عينين توجهان لي رفات عاشقة، ولاقتفيت مرتعشاً خطى عجيزة أيقظت بداخلي عصف كلّ الشهوات، لكن العمى اللعين لا يدَع لك في كل غوايات العالم وإمكاناته المفتوحة إلاّ ما يأتيك وتتلمسه وتحس بأنفاسه تتحكَّك بأنفاسك كهرَّة محبوبة. العمى عناد ما في يدك فقط ويأس ما تتشبَّث به وتهبه أهمية عظيمة تشبه أهمية خشبة عائمة لغريق. أعطني يدك أيها الضياع.. (ص 220). 3 – في تبجيل الليل والظلام هادئ ورتيب وخاوٍ كَلَيْل الدواوير.. أتعرفون، يا سادة، بأنه لا يمكن أن يكون عندنا فنّ كبير بليل الغطيط والتقلب والفساء. الليل سخاء وجنون وحدس وتحرير للقوى الغافية بداخل كل واحد منا، فإن كان النهار مشاعاً للجميع، فالليل انتقائي وأناني يصطفي خيرة الناس، فالبشرية بأرقيها ومتسكِّعِيها في الأزقة الخالية، ومشرَّديها في الحانات والمَراقص، ومتهالكيها على حاجات اجسادهم، تدين له بأفضل وأسوأ ما فيها. العتمة تحرّر وتشجّع كل شيء على إخراج ما هو حقيقة، ليلُ اللذة والأفراح والدسائس والمكائد والصفقات.. الليل الذي لا ترى فيه اليد التي تُعطي والتي تأخذ، والتي تغتال، والتي تتلمس طريقها على جسد مشتهى، لم تعرف هذه المدينة، باستثناء بيوت أندلسية قليلة، ثقافة واقتصاد الليل اسألوا أصحاب سيارات الأجرة الذين يشتغلون في الليل سيقولون لكم أشياء مذهلة عن مدينتكم. (ص 237) كأنني لم أفقد صلتي بالعالم فقط، بل فقدتها أيضاً مع اللغة.. أسمع كلاماً فوق رأسي لكنني لا أفهمه. وتتفكَّك الكلمات في ذهني وتصلُ أشلاء حروف أشبَه بثغثغة الأطفال. أعرفُ بأنها حبلُ نجاتي إن أردتُ الصعود من البئر، أعرفُ بأنَّ عليَّ أن أتشبَّث بها لتفودني إلى الناس، وإلى نفسي بالأساس، لكنها كانت، هي أيضاً، نائية جداً مثل الشمس وطفولتي والأشجار وماء السواقي، ولا تتجمَّع في ذهني كأنَّ شيئاً يدفعها بعيداً عني. فلا أملك إلاّ أن أراها تتحلَّل وتغيض. لم يعُد لي مكان في اللغة، ولم يعد لها مكان بداخلي، أتمايل بين الحدين. ولا أقدر على إصدار أنين مثل حيوان جريح.. (ص 326) كأن الزمن هو أيضاً، وحين فقَد شمسه، لم يَعُد قادراً على أن يهبني ذلك التقطيع الذي يمتزج بين الماضي بالحاضر ويشكِّلان عبر الأحاسيس والعواطف والأفكار وأفعال الإرادة مجرى واحداً. كنت بلا وعي، وبالتالي بلا زمن، مثل بركان خامد يرقد تحت طبقات جيولوجية متراصَّة. كيف للزمن أن يطالني وأنا في هوَّة سحيقة ومظلمة، بل في كهف تتعاقب الساعات والأيام من حولي وأنا في غفلة منها؟! لا تجري الدماء في عروقي، ولا يتحرك نَفَس في صدري، وتبقى شعيرات جسدي على حالها، وتنغلق مسامي فلا عرق سيعبُرها، لا شيء يدعو جسدي ليكافح من أجل بقائه، ولا شيء يفرض عليه بذل جهد لتحريك آلة الحياة بداخله. لم أفقد الزمن فقط، بل فقدتُ معه الحافز والغريزة.. (ص 326-327) السلطة أنانية جداً وغيورة جداً وحقودة جداً ولا تقتسم مع أحد. وكل عهد يريد في قرارة نفسه أن يبدأ التاريخ معه، وأن لا يرى الناس سواء، وأن لا يتذكروا إلاّ مآثره. ولع سلاطين المغرب بالهدم والتخريب والمحو، وحين تُسقِط أسرة ما أسرة حاكمة لا تُطارد فقط ذكورها المؤهّلين للحكم، بل وقبورها وأحجارها، وكل ما يَمُتُّ بصلة ما لها. (ص 243) لا أحبّ سلاطين المغرب حين يهنون ويدارون ويتملّقون شعبهم. أحبهم حين يغضبون ويعنفون ويهزأون. أحبهم حين يكسرون تلك الصورة الحالمة لذاتٍ تعالَت على كل شيء، بما في ذلك العواطف وسورات الغضب. لا أحبّ الوجه الجامد، واللغة المحنطة النقية والمعمقة والتي لا تدع شيئاً يتسلَّل إليها ممّا يجري حقاً من تدافع وكراهية ونقمة وضيق وتعب متبادل بين الراعي ورعيته. أحبّ الزبد المتطاير ورعشة الحنق في الشفتين واليد الملوحة بنقمة تتجمّع في الأفق كعاصفة، اليد العنيفة والتي تشتهي أن تخنق وتُجندل وتبقر وهي تتلاعب بخنجر متوعّد بين أصابعها. أحبهم كثيراً حين يعودون إلى أصل الأشياء ومنبع الطاعة وأس الولاء: القوة ولا شيء آخر. أحبهم حين يرفسون بأرجلهم، في احتداد غضبهم، كل ما بناه الفقهاء والكتبة والمتملِّقون من صيغ مخزنية مقيتة عن حبّ متبادل مكين وتعلق لا تنفصم عراه. (ص 246-247). 4 – احتفاء بالشذرات روحي قلقة، متقلِّبة، وملولة تجدُ نفسها في الكتابة الشذرية لأنها احتفاء بالمتقطع والعابر، بذلك الشيء الذي يتجلى للحظة ويمضي، بذلك الشيء المتلفِّع بكبريائه والمكتفي بذاته وليس في حاجة لأن يسنده أو يبرره شيء آخر. ثم بالكتابة الشذرية أحفظ لنفسي الحقّ في أن أكون متناقضاً، وأن أحطِّم الأنساق التي نسجن أنفسنا بداخلها. أكتب متناقضاً، وأن أحطِّم الأنساق التي نسجن أنفسنا بداخلها. أكتب الشيء ونقيضه في الآن نفسه. إنها كتابة ما بعد الكارثة حين ينهار كل شيء بداخلك ويتمزّق، ويفقد معناه، وحين تصير أنت نفسك شذرات لكلية كُنتها ولكتابٍ تناثرت أوراقه في الريح. هي كتابة الصدوع والدويّ الهائل للانهيار، والجلبة البعيدة لحياة تمضي بعيداً عني.. قلت له بابتسامة ماكرة: يا عيني على الفلسفة يا عيني. فلم يكترث بتعليقي وواصل بجدية مهيبة: حتى الله، ولأنه يعرف ما زرعَ في العالم من فوضى، فقد كَلَّم رسله بطريقة شذرية. لماذا لم يُنزل الكتاب دفعة واحدة؟ لأنه يعرف أنّ ما عدا الشذرات والشظايا والآيات الْمُفردة زيف وتصنُّع وملء غبي للفجوات. كل نسق جريمة واغتصاب. تلوّى في سريره وكأنه فعلَ ذلك ليهدِّئ حماسه، ثم أضاف: في براءة طفولة البشرية، لم تكن هناك إلا الشذرات، لم يكونوا يعرفون زيف وظلم الكتب. ثم خلدَ للصمت، وبدا أن صدره الساخط بدأ يستعيد تنفسه العادي لينحدر في أمان أرض النسيان العظيم. قلتُ بصوت خفيض كَمَن يلقي بحجرة صغيرة في بركة هادئة، وعماذا تكتب؟ (ص 144).