يعتبر الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677)، من رواد العقلانية والحداثة الغربية، بل عقلانيا أكثر من عقلانية ديكارت، المعروف بلقب أب الحداثة لأنه ، أي سبينوزا ، تجرأ على الوصول الى أماكن ما كان يستطيع الاقتراب منها سلفه ديكارت، خوفا من جبروت الكنيسة. وهذه الاماكن ،هي النبش في النصوص والكتب الدينية وأخضعها لسلطة العقل والمنهج العلمي. وبالتالي يمكن القول ،حسب تقديري أن سبينوزا هو الذي أرسى قطار الحداثة الأوربي على سكته الصحيحة ،أكثر من ديكارت الذي قال بالكوجيتو « أنا أفكر إذن أنا موجود» وأعطى قيمة كبرى للفردانية الأوربية، لكن الاشكال و الصراع الحقيقي الذي خاضته القوى الحداثية في القرن 17 هو صراع ضد سلطة الكنيسة والإكليروس بدرجة أعلى. وفي غمار هذه التجربة الجريئة التي خاضها سبينوزا ، في سبر أغوار النص المقدس وتحطيم المتخشب فيه، والذي يجعلنا نقول إنه الواضع الحقيقي لقطار الحداثة على سكته الصحيحة ، هو تطبيقه «لمنهج النقد التاريخي للكتب المقدسة «على العهدين القديم والجديد . وهذا المنهج يتضمن آليات علمية للتحليل النصوص المقدسة ،والتي لطالما تم النظر الى النص المقدس في العصور الوسطى ،على أنه متجاوز للفهم البشري و للعقل.وجوهره لا يمكن إدراكه ،ومنفلت من كل تفسير بشري…وهكذا مسلمات، إلا أن ظاهرة الحداثة التي كانت تدرس الظواهر الملموسة بشكل مباشر وخطي ميكانيكي، بعيدا كل البعد عن أي تفسير غائي/أرسطي، فمنهجية التفكير الحداثية قارب بها النص الديني، وأصبح ينظر إليه، أي النص الديني، على أنه جزء من الطبيعة، بل مادة علمية خارجية وموضوعية ممكن دراستها كما تدرس الحجارة والماء والكواكب… وهذا المنهج ، أي منهج النقد التاريخي للكتب المقدسة، أسسه العلمية التي يرتكز عليها هي : التجميع والتصنيف ،أي تجميع الآيات التي تنتمي الى نفس الحقل الدلالي بغية دراستها وكشف تناقضاتها، ومعرفة اللغة الاصلية التي كتب بها النص الاول ،أي اللغة العبرية والإحاطة بكل حيثيات التي تحيط بالكاتب النص ، والرحلة التي قطعها النص حتى وصل إلينا. من هنا وصل سبينوزا الى أن الكتب المقدسة الاوروبية ، بعهديها القديم والحديث، تحمل تحريفات وإضافات وخرافات وأساطير…فانطلاقا من التعامل العلمي مع النص، بعيدا كل البعد عن التقديس اللاهوتي أو التسليم بسلطة فوق سلطة النص أو ما وراء النص. هذا المنهج ، والنتائج التي أفرزها ، خلقت خلخلة في الوعي الاوروبي وولدت ضجة عنيفة وصلت الى إلقاء الجرم على سبينوزا . فقد استطاع أن يحرك المياه الراكدة في المجتمع الاوروبي ،وفحص ما كان يعتبر فوق النقد، وأعطى السلطة الاولى لسلطة النقد والعقل .ولقوة الضربة التي تلقتها الكنيسة ، قيل إن كتاب «رسالة في اللاهوت و السياسة « الذي ناقش فيه النص الديني، مستعينا بمنهج «النقد التاريخي للكتب المقدسة»، إنه «كتبه في جهنم برفقة الشيطان». هنا والآن ، في فضائنا الثقافي العربي الاسلامي المعاصر، قام المفكر الجزائري محمد أركون،(1922-2010) الذي هو سليل فلسفة الانوار الاوروبية ، بمناهجها العلمية من خلال مشروعه الفكري الكبير «نقد العقل الإسلامي» بتحريك المياه الراكدة، والكشف عن «اللامفكر فيه»، وقد اخضع النص الديني لأحدث الدراسات العلمية في العلوم الإنسانية فدرس النص الديني الاسلامي بالمنهج الانثروبولوجي و المنهج الفيلولوجي والمنهج الألسني السيميائي والمنهج التاريخي .فالتفسيرات الفقهية غير صالحة الآن في نظره ، ووجب استثمار أحدث المناهج العلمية وأهمها على الاطلاق هو التاريخ»وهنا تكمن مشكلة التفسير الاسلامي الكلاسيكي أو القديم. فهو إن ربط الآيات القرآنية بما سمي بأسباب النزول،فقد بقي عاجزا عن كشف التاريخية بالمعنى الفعلي والحديث للكلمة.فقد كان ينظر الى المعنى المجازي وكأنه معنى حرفي، فيأخذ العبارات المجازية (الاسطورية)على محمل الجد، ويحاول عبثا إيجاد مقابل لها في الواقع التاريخي.»(محمد الشبة، مفهوم المخيال عند اركون، منشورات ضفاف،2014، ص48- 49). درس محمد أركون في جامعة السوربون ، وأصبح في ما بعد من أساتذتها في تاريخ الفكر الاسلامي سنة 1980. وتأثر في مسيرته الفكرية بمدرسة الحوليات ،التي وجد لها أعرافا في الاكاديميات الفرنسية، ومدرسة الحوليات في التاريخ كما هو معلوم ، كانت تقرب العلوم الانسانية من التاريخ لفهمه جيدا . اقتنع أركون بأن التاريخ هو الكفيل بإزالة السحر والتقديس عن أماكن عديدة في تراثنا الاسلامي، و التي كان يعتقد أنها مقدسة لكنها ليست كذلك، فوجب القيام بمقاربة علمية متحررة من كل المسبقات اللاهوتية لإبطال العجائبية ، وهي خطوة تبدأ بالنقد «يتمحور المدخل الى النقد عند أركون حول إعادة قراءته للإسلام، والتفريق بين معنيين للدين: الاول روحي متعالي ومنزه، والثاني قانوني ورسمي ذو بعد سلطوي.»(د.نايلة ابي نادر،محمد اركون و التراث،دراسة نشرت على مجلة العربي،العدد695،سنة2016ص81)،و العقل النقدي هنا لا يمارس النقد الايديولوجي ،لأن العقل الايديولوجي يقطع فقط نصف الطريق فقط، والعقل يخطئ حينما يكون مدفوعا بإيديولوجيا معينة. حينما تغيب الدراسات العلمية التاريخية للتراث حسب أركون، تحضر الأسطورة والمخيال . وهذا الذي تستغله الجماعات الدينية ، والاحزاب الايديولوجية حينما تعزف على وتر المخيال، وهو الذي يولد نوعا من الخطاب التبشيري النضالوي ، وبالتالي وجب «البحث عن الشروط (أو الظروف) التي يتم فيها إنتاج المعنى وما يشكله بالنسبة للوجود البشري»(محمد اركون، قضايا في نقد العقل الديني،ص 238) .فهناك صعوبة وجدها أركون عند مسلمي اليوم في التفريق بين المكانة اللاهوتية للقرآن الكريم ، والشروط التاريخية واللغوية التي أنتجت ذلك الخطاب. وهذا لا يعني أن أركون انقطع عن التراث أو أساء الى المقدس الاسلامي، بل على العكس من ذلك فقد كان يشع بروح نقدية وهذا النقد هو الذي أدى به الى الاهمال في الساحة العلمية الاوروبية ،رغم أن أغلب كتبه كانت بالفرنسية. وأركون كما أنه انتقد مساحة واسعة في التراث العربي الاسلامي، وحلل العقل الاسلامي المنتج لتلك الآليات التي أنتجت هذا التراث، بنفس الشكل أو أقل كان ينتقد الحداثة الغربية والعلمانية الفرنسية الصلبة، التي لا تتيح مساحة واسعة لما هو ديني، والأهم أن أركون استطاع ان يكشف عن روح التنوير و»الأنسنة «في التراث العربي الاسلامي و كتب كتاب «نزعة الأنسنة في الفكر العربي» يدافع فيه على أن لكل أمة تنويرها، وأن التنوير الاسلامي سابق على التنوير الاوربي ، من خلال ما أنتجته الحضارة العربية الاسلامي في القرن الثالث والرابع الهجري، وبالخصوص ما كتب في الأدب. و الملاحظ أن أركون لم يتأثر بأي فيلسوف غربي بالرغم من قربه من المستشرقين والاستشراق ، بقدر ما أعجب بأبي حيان التوحيدي وابن مسكويه ،باعتبارهما رواد التنوير و»الأنسنة» في الحضارة العربية الاسلامية. ويواصل تلميذه هاشم صالح، ترجمة مشروع أركون الى العربية ،وتصريف أفكار أركون التنويرية التي لم تفهم، أو أسئ فهمها. * صحفي وباحث في الفكر العربي المعاصر