1- "وحين أغدو إلى الحانوت يتبعني شاو مشل شلول شلشل شول ". الأعشي ميمون 2 -" بخلطه الكحول بهذه المساحيق العطرة وتحويل عطرها إلى محلول عابق خلَّص العطر من المادة ثم منحه روحانية جمة. واخترع بالتالي الرائحة الخالصة. إجمالا، لقد أبدع ما نسميه العطر ! يا له من نصر عظيم. إنه لأمر شبيه بالانتصارات الإنسانية الكبرى مثل اكتشاف الكتابة من طرف الآشوريين والهندسة الأوقليدية وأفكار أفلاطون وتحويل العنب إلى نبيذ من طرف الإغريق. إنه فعل برومتيوسي حقيقي.. (باتريك من الثروات الدالة على حضارة أمة من الأمم: الكروم والعطور. فهما يشتركان في مصدر واحد هو "الروح " وهي محلول منه تندلق الروح من ضَوْعها وأريجها و ثمالتها. مشترك آخر هم الآلهة: ذلك أن "روح الخمرة" هي الدم الخالد لأفروديت مثلا، ويسمى في هذه الحالة إيشورأو إيخور (Ichor / Ikhor) " ذلك ? حسب هوميروس ?هو Vinosus Homerus الدم الذي يجري في عروق الآلهة الذين لا يقتاتون من الخبز ولا من الخمرة". لكنهم يشربون من العطر: l?ambroisie مثلا. وهو رحيق أحلى من العسل وكأنه الكوثر (Le nectar). والبخور العطرة تقدم للآلهة مع القربان وتُستعمل عادة بُخُور اللبان والمرُّ المكاوي.. وكانت الأسطورة تعتقد أنها بُخور ترفع دعوات وصلوات الناس إلى الآلهة. فلفظة "parfum" مأخوذة من اللاتينية per-fumum وتعني "من خلال الدُّخان"و هي في اليونانية "تومايمة"thumaima . نعثر في الإلياذة وفي النشيد إلى أفروديت... كيف أن هذه الأخيرة قد تعطرت واغتسلت بزويوت خالدة واتشحت بأهداب نسائية شفافة يفوح منها ضوع الروائح الزكية حبا واقترابا من الأمير الطروادي الجميل أنشيز (Anchise). نفس التبرج والتعطر قامت به هيرا (Héra). وجرى التقليد الهوميري على استعمال الرحيق من طرف الآلهة للبشر؛ فهذه الإلهة ديمتر Démeter كانت تطعم الولد سيلي (Célée) ابن ملك إليوسيس (Eleusis) بالرحيق المعسل. وهذا أبوللون (Apollon) رشح وغسل جسد البطل صاربدون (Sarpedon) بنفس زيت الرحيق المذكور. وكذلك فعلت أفروديث مع جثمان هيكتور، ذهنته بزيوت خالدة حتى لا يتأثر جراء جره في الأرض من طرف أخيل... و فعلت تيسيس (Thésis) مع باتروكل (Patrocle) حتى يسلم جثمانه من العفن. واستعملت أثينا نفس الرحيق والكوثر على بطن أخيل حتى يقاوم الجوع.. الخ.. الرحيق والكوثر من ثروات عالم الآلهة. واليمام هي من حملتها إلى زوس -حسب الأوديسا ? حملتها بعد أن تخطت الأحجار التائهة والمسالك الرهيبة. وهي مياه وزيوت تجري من تحت تخوم الكون كما يؤكد ذلك هيبوليت يوربيديس (Hippolyte d?Euripide): "عيون الرحيق توجد في حدائق بين إسبانيا والمغرب تسمى (Hesperides). أما حسب هيرودوت فمنبعُ الرحيق والكوثر يوجد في خصة للإثيوبيين تدعى Makrodioi (حياة ? طويلة): "حين نستحم في هذه الخصة نخرج منها أكثر لمعانا.. مياهها أو زيوتها خفيفة أكثر من الخشب أو الخش". وهناك من يسمي هذه المياه بماء ستيكس وهو نهر من أنهار جهنم. هي نفسها المياه التي اغتسلت فيها هيرا... إذا كان الرحيق عطرا وزيْتا فالكوثر نبيذا. وهما يؤكلان ويشربان في أن واحد. في الصناعة ننتقل من الفاكهة أو النبتة بالطحن والعصير والتصفية إلى الماء أو الزيت. ترى كيف تصنع الخمور والعطور ؟ لقد بدأ فن صناعة العطر من جزيرة كريت لدى اليونان. وكان ينقل إلى أغورا لبيعه في حوانيت خاصة بالعطور. بلور الإغريق فنَّهم هذا من خلال سلق الأعشاب وبتلات الزهور، حتى تمكّنوا من عزل العطر وخلطه بالزيوت. المكونات المستعملة آنذاك كانت من حدائق محلية مزدانة بالأزهار مثل السوسن والزعتر البري والورد والزنبق والبنفسج. أما البهارات فكانت الكامون، السالمية (الميرامية) واللبان والمرُّ المكاوي. وارتبطت هذه الصناعة الفنية بالفلسفة من حيث علاقتها بالإيروتيكا والتصوف وما هو روحاني(2). رغم الموقف السلبي الذي أبداه سقراط من العطر معتبرا إياه مادة خادعة قد تحول العبد إلى سيد...لم يكن العطر في الحياة اليومية الإغريقية رحيقا أو أريجا فقط إنما كان كائنا أنثويا.يستعمل كاكسير للحياة يمنح أمل الخلود تيمنا بالآلهة وتشبها بهم كان الإغريق يشربون ويأكلون العطر.ففي غابة جزيرة الفضة (حاليا قبرص)أستخلص العطر من لحاء الأشجار ومن الحنة المسماة باسم الجزيرة و استخلصت الزيوت وطبخت الأعشاب المسماة كوبيريخو أي العطور القبرصية .لقد أحصى بلين في تاريخه الطبيعي ما يفوق 22 نوعا من الزيوت العطرة بما فيها الخمور المعطرة .لقد كانت هيلين الجميلة زوجة مينيلاص تقدم لضيوفها كؤوسا من الخمرة المعتقة المعطرة.وكانت للعطوروظائف جمة كربط الصلات العاطفية والإيروتيكية بين الناس وتهيئة أجساد الرياضيين و تطويعها ، والعلاج الطبي لمختلف الأمراض كالبثور الجلدية وعسر الهضم ويقظة العقل ..كما أكد على ذلك ثيوفراسطوس. أما الكروم فتأتي بعد الزراعة وتستغرق كل أيام فصول السنة: في الشتاء يتم تقليم الكروم وتهذيبها وفي الربيع يحرث تراب الكروم ويتم تأهيله وفي الصيف تحذف العشب الضارة وتعالج الكروم وفي الخريف يجنى العنب ويحصى.. تسمى الخمرة في اليونانية القديمة كرازي (Krasi). توجد كرومها حسب الأركيولوجية ثانيا فلاموتي (Tania Valamoti) من جامعة أرسطو التيصالونية، في شمال اليونان. ويذكر هيزيود في كتابه "الأعمال والأيام" انتشارها في كل بقاع اليونان. كما يصف تيوفراسطوس في كتابه "الأحاسيس" وخاصة الجزء المخصص "للرائحة" أهمية التربة والري والمزدرع في زراعة الكروم ويعتبر تيوسديد "بأن شعوب المتوسط بدأوا التخلص من وحشيتهم حين باشروا زراعة الزيتون والكروم". وحسب ?يرجيل يمكن عدُّ حبّات رمال البحر ولا يمكن إحصاء مراكز النبيذ في اليونان". - فن صناعة الخمرة... في اليونان له علاقة بالبحار مثلما هي علاقة الفلسفة بالتين والزيتون. انطلق من كريت على يد المينيين ثم بعدهم على يد الميسيين من ميسين. وكان قَبْو الملك نسطور في بيلوس (Pylos) يتّسع ل 6000 لتر. لقد كانت الخمرة في بادئ الأمر علاجا. يداوي الأمراض ولكل مرض نوع من النبيذ. بشهادة هيبوقراط الطبيب: ففي داء المفاصل " نمدُّ الفخذ والرِّجل ثم ندهنهما بمرهم شمعي ونضمدهما بخرقات مغموسة في الخمر. وينصح أن تكون دافئة لأن البرودة تثير التشنجات". والخمرة علاج للعيون والحمى. ويقال : معاقرة الخمرة تذهب الجوع، والتتائب والحزن... لهذا ربما كان الإغريق يمزجونها بالبهارات والعسل وغالبا ما يخلطونها بالماء (وبماء البحر أساسا). فمن لا يقوم بهذا المزج يبحث عن السُّكْر لا عن اللذة !! طرق المحافظة على الخمرة لدى اليونان تبدو الآن غريبة: كانوا يخلطونها بالماء العذب ويخضعونها للحرارة إلى حدود التبخر، ويمزجونها بصمغ البُطم، ومحلول الرماد، والقطران.. ولم تكن تتجاوز الثلاثة سنوات من عمرها. فهي لم تكن خاضعة للتعصير، بقدر ما كانت العناقيد تتراكم على بعضها البعض وبفعل ثقل وزنها تنزل منها قطرات الكوثر الثخين المعسل الغني بالسكر. من أشهر خمور الإغريق نبيذ تيصالي (Thassalie)... كانت الخمرة توضع في جرات مدموغة بعلامة خاصة. وهي مصنوعة من التراب لا تؤثر في الذوق، تتنفس، تقوم بمحافظة جيدة، وتبقى دائما على طراوتها. مخزونها يقارب 40 ليتر. كما كانت تقدم في قرب جلدية، وأقداح طينية. تناول النبيذ لدى اليونان مرتبط بطقس غدائي معروف هو المأدبة، تحت رعاية الآلهة، وهي مناسبة للنقاش والجدال السياسي والثقافي للتعبير عن المواطنة. ولا تكتمل المأدبة إلا بلحظتين. لحظة أكل لحوم القرابين (الشواء) مع مزج الخمرة بالماء المهداة لديونيزوس. ولحظة السامبوزيوم (Symposium) وهي ندوة يسيرها رئيس الجلسة يحرس فيها على تنظيم النقاش وتوزيعه مناصفة بين المتدخلين سواء أكان الأمر يتعلق بالحرب أو بشؤون الدولة أو بوضع النواميس. وهو نفسه من ينظم المسابقات الشعرية أو الخطابية والفلسفية وحتى الترفيهية. وفي اللحظتين يجب المحافظة على الاتزان في الكلام والتصرف، والتحكم في الذات واندفاعاتها لأن هذه الأخلاق هي أخلاق النظام والكوصموس وهي صورة المدينة المثالية المنظمة والعاقلة. وبالتالي السكر والعربدة أمران مرفوضان لأنهما من طينة الفوضى والكاووس، والمبالغة والاستهتار الندوة هي مكان المقدار والتقدير لا مكان المزايدة و والتبذير. و أخيرا "من تحكم في العطور تحكم في قلوب الناس". "و من تحكم في المفهوم تحكم في عقول الناس".