في أي عَصْر عاش طاغية نجدان ؟ و أين كانت توجد دولته ؟ في الشرق أم في الغرب ؟ في الشمال أم في الجنوب؟ علْمُ ذلك عند علّام الغيوب. كل ما تَذْكره كتبُ التاريخ هو أن المستبدّ بالله - و هذا هو لقبه - كان ينتمي إلى سلالة من الطغاة الظالمين ، الذين حكموا بلادَ نجدان و مارَسوا فيها ضروبا من الطغيان ، واشتهروا بأخبارهم العجيبة وألقابهم الغريبة. ولعل أهمّ كتاب وصلَنا عن نزوات المستبد بالله هو كتاب « إتحاف الخلان بأخبار طاغية نجدان مع الشعراء و الوزراء و الأعيان « ، الذي نقدمه على حلقات ، خلال هذه الفسحة الصيفية . وهو من تأليف الشيخ أبي منصور البغدادي ، المشهور بلقب « رِيق الدنيا .» ويحكي الشيخ أبو منصور في كتابه هذا أمورا لا تُصَدق عن هذا الطاغية ، المولع بالشعر والأدب، والذي كان يَحدث له أن يرتجل دستورا جديدا للبلاد، إذا امتنعَ عنه الرقاد ! كما يسجل له التاريخ أنه أول مستبد يعين وزيرا للشمس والقمر، ووزيرا للرعد و المطر، ووزيرا للألوان ووزيرا لنوائب الزمان و آخرَ للظلم و الطغيان . من مرداس بن الأسود ، ملك بلاد الكشتبان، إلى المستبد بالله طاغية نجدان السلام عليك أيها الطاغية المُهاب ، و بعد فإنّا نَحْن معاشر الملوك قد أسبغَ علينا الله سبحانه و تعالى من فضله و غمرنا بإحسانه و أعطانا العزة في الدنيا و وعدَنا الثوابَ في الآخرة ، و حكّمنا في مصائر الناس، و أناط بنا أمرَ حماية الأوطان و الذود عنها . و قد أخبرني من أثق فيه أنّ عدو الله أنطونيوس السابع عشر- عظيم الروم - قد جمع الجموع لغزو مملكة الكشتبان ، و أنه ينوي - إن هو ظهر علينا و احتل بلادنا- أن يتوجه بعد ذلك غازيا إلى مملكة نجدان . و سمعتُ أن ضخْم اللغاديد هذا قد قال لقادة جنده :" قاتلوا رعاة الشاء ، أكلة الشيح و القيصوم ، فإما الانتصار أو الموت ." و اعلم أيها الطاغية المبجل أننا سنلقى ابنَ الكافرة بالمشرفية و العوالي ، كما كان أجدادُنا يَلقون أجدادَه في القرون الخوالي. فما من واحد منا إلا و يتمثل بقول صريع الغواني ، مسلم بن الوليد ، في مدح داوود بن يزيد ( يجودُ بالنفس إذْ ضنَّ الجوادُ بها / و الجودُ بالنفس أقصى غاية الجود.) و كتابي إليك - أيها المستبد الهمام - كي تُوَجه إليّ مَدَداً من جيشك الظافر ، يَلقى معنا أعداءَ الله في وقعة مهولة تترك الشجاع مذهولا . و اللهَ أسأل أن يمدنا بنصره حتى نهدَّ أركان المشركين و نقطعَ دابرهم فلا نَسمع لهم ذكْراً أبد الآبدين . و السلام عليك و رحمة الله و بركاته . من المستبد بالله طاغية نجدان إلى مرداس بن الأسود، ملك بلاد الكشتبان السلام عليك و بعد فاعلم أني قرأتُ كتابك و أعدتُ قراءته ، فعجبتُ كيف تخطئ في اللغة و أنتَ ملك و ابن ملك و من سلالة عريقة في المُلك . فقد وصفتَني بأني طاغية مُهاب ، و الصواب هو " مَهيب" ، لأنه مِنْ هابَ يهابُ هيبة . و قلتَ إن الله سبحانه و تعالى حكّمَنا - نحن معاشر الملوك - في مصائر الناس، و كان ينبغي أن تقول " مصاير" ، بالياء، لأنّ الياء في كلمة مصير أصلية و ليست زائدة . و قد سمعتُ ملوكاً غيرك يخطئون في مثل هذا فيقولون " مشائخ " و " مكائد " و " معائش" ، و الصواب أن يقولوا " مشايخ " و " مكايد " و " معايش." و قلتَ إن الله قد أناطَ بنا حماية الأوطان ، و كان ينبغي أن تقول " ناطَ بنا " ، لأن الفعل هو ناط يَنوطُ نوطاً . و أما عن قول عدو الله لقادة جنده " فإما الانتصار أو الموت " ففيه خطأ واضحٌ بَيّن ، لأن " إما "- التي تفيد التخيير أو الإباحة أو الشك أو الإبهام أو التفصيل - يلزمها التكرار . و كان على الكافر الفاسق أنطونيوس السابع عشر أن يقول :" فإما الانتصار و إما الموت." و قد قال عزّ من قائل ، في سورة التوبة ( إما يعذبهم و إما يتوب عليهم ) و قال في سورة الإنسان (إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا ) وقال سبحانه في سورة الكهف( قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب و إما أن تتخذ فيهم حُسنا.) و هذا شاعرنا أبو الطيب لم تغب عنه هذه القاعدة حين قال في مقصورته الشهيرة ، متحدثا عن إبله ( ضربتُ بها التيهَ ضرْبَ القمار / إما لهذا و إما لذا ). و الأمثلة الشعرية كثيرة لا تحصى في هذا الباب. و أما من يحتج بورود ( إما ) غير مكررة في بعض كلام علي بن أبي طالب أو الحسن البصري ، فذلك في رأينا من غلط النساخ . و جاء في كتابك إليّ ، أيها الملك الهمام ، أنك تتوعدُ الكفرة بوقعة " مهولة " . و إني لأعجبُ كيف استعملتَ اسم المفعول في موضع اسم الفاعل ، و ما كان ينبغي لك ذلك ، لأن الصواب هو أن تقول : " وقعة هائلة " . و ذلك من قولنا : هالني الأمر يَهولني فهو هائل. و كتبتَ أن الشجاع سيبقى مذهولاً ، و الصحيح هو أنه سيبقى " ذاهلاً " ، لأن الفعل هو ذَهلَ يَذْهَلُ . أما عن بيت صريع الغواني ، في مدح داوود بن يزيد ، فالصواب هو أن تكتب" داود " بياء واحدة . و السلام عليك و رحمة الله و بركاته .