في أي عَصْر عاش طاغية نجدان ؟ و أين كانت توجد دولته ؟ في الشرق أم في الغرب ؟ في الشمال أم في الجنوب؟ علْمُ ذلك عند علّام الغيوب. كل ما تَذْكره كتبُ التاريخ هو أن المستبدّ بالله - و هذا هو لقبه - كان ينتمي إلى سلالة من الطغاة الظالمين ، الذين حكموا بلادَ نجدان و مارَسوا فيها ضروبا من الطغيان ، واشتهروا بأخبارهم العجيبة وألقابهم الغريبة. ولعل أهمّ كتاب وصلَنا عن نزوات المستبد بالله هو كتاب « إتحاف الخلان بأخبار طاغية نجدان مع الشعراء و الوزراء و الأعيان « ، الذي نقدمه على حلقات ، خلال هذه الفسحة الصيفية . وهو من تأليف الشيخ أبي منصور البغدادي ، المشهور بلقب « رِيق الدنيا .» ويحكي الشيخ أبو منصور في كتابه هذا أمورا لا تُصَدق عن هذا الطاغية ، المولع بالشعر والأدب، والذي كان يَحدث له أن يرتجل دستورا جديدا للبلاد، إذا امتنعَ عنه الرقاد ! كما يسجل له التاريخ أنه أول مستبد يعين وزيرا للشمس والقمر، ووزيرا للرعد و المطر، ووزيرا للألوان ووزيرا لنوائب الزمان و آخرَ للظلم و الطغيان . من المستبد بالله ، طاغية نجدان ، إلى إكسيليوس ، عظيم الفرنجة الحمد لله الواحد القهار، الذي نصرَنا في مواطنَ كثيرة على الفَجَرة الأشرار، وبَعد فقد بلغني أنك أمرتَ تَراجمتَك بنقل المعلقات السبع إلى لغة الفرنجة. وإني لأعجبُ كيف سولتْ لك نفسك القيامَ بهذا العمل المنكر، مع أن لغتكم الهجينة لا تتسع لأشعارنا ولا تستطيع التعبير عن أفكارنا، ولا تمتاز بتلك الموسيقى التي خصّنا بها الخالق، نحن أبناء الضاد، دون سائر العباد. وإني أتساءل كيف واتتك الجرأة - أيها العلج الكافر - على ترجمة السبْع الطوال، و أنتَ من قوم أعاجم ، ليست لهم بحور شعرية في سعة بحورنا، و لا صوَر فنية في بهاء صورنا، و لا ألفاظ في غنى ألفاظنا؟ لقد كان يكفيك - ما دمتَ تعرف نزرا يسيراً من لُغَتنا - أن تتأمل معلقة الملك الضليل ، امرئ القيس ، التي يقول في مطلعها : قفَا نَبْكِ منْ ذكرى حبيبٍ و منزل بسِقْط اللِّوى? بين الدَّخُول فَحَوْمَلِ و سوف تَرى معي أن الشاعر قد خاطبَ الواحدَ بخطاب الاثنين ، فقال :" قفَا نَبْك "، و ذلك جَرْياً على عادة من عادات العرَب، لا يمكن للفرنجة أن يفهموها . و اعلم - أيها الجاحد - أن الله سبحانه و تعالى قد ثَنّى في مخاطبة الواحد ، و ذلك في قوله ( ألْقيا في جهنم كلَّ كفَّارٍ عَنيد ) ، بينما الأمرُ موجه لمالك ، خازن النار. فأخبرني كيف ستنقلون بيتَ امرئ القيس هذا إلى لغتكم ، و أنتم قد حُرمتم نعمة المثنى ، لحكمة لا يعلمها إلا الخالق جلّ جلاله . ثم أخبرني كيف يستطيع تراجمتُك أن ينقلوا إلى لغة الروم قولَ الملك الضليل في هذه المعلقة : ألَا رُبَّ يومٍ لك منهنّ صالحٍ و لا سيّما يومٌ بدارة جُلْجُلِ هل يوجد في لغتكم افتتاح للكلام مثل ( ألَا )؟ و هل عندكم حرفُ جر مثل ( رُبّ) ، يَدخلُ على النكرات ، و يُفيدُ التقليل تارة والتكثير تارة أخرى ؟ و هل في لغتكم مقابل خفيف لطيف ، تستعذبه الأسماع ، لقولنا نحن ( لا سيما ) ؟ و أنّى لآذانكم - و هي آذان غير موسيقية - أن تُحسَّ بالكَفّ الحاصل في مفاعيلن ، في صدر البيت المذكور ؟ و لننتقل الآن إلى قول هذا الشاعر ( أفاطمَ مهلاً بعض هذا التدلُّلِ ) . فالمقصود من قوله " أفاطمَ " هو : يا فاطمة ، و لكنه رخَّمَ فأسقطَ الهاء و ترك الميمَ مفتوحة . و لو أنه قال " أفاطمُ " بضَمّ الميم ، لجازَ له ذلك . و لشيخِنا الفرّاء الكوفي حديث طويل في هذا الباب ، ليس بوسعكم أن تفهموه ، لأنكم كفرة أعاجم ، قد حرمكم الله نعمة الإعراب ، فلستم تتذَوقون تلك المتعة الكامنة في نصب الأسماء أو جرها أو رفعها ، حسب مواقعها في الجُمَل . ثم انظر معي الآن - أيها الكافر إكسيليوس - إلى قول الملك الضليل : تَقُولُ و قدْ مالَ الغَبيطُ بنا معاً عقرتَ بَعيري يا امرأ القيس فانْزلِ و تأمل حلاوةَ واو الحال في قوله (وقد مالَ) ، ثم تأملْ طلاوةَ ( قد) ، بعد هذه الواو ، علماً بأن الماضي عندنا لا يَكُونُ حالاً إلا بِقَدْ. و هذه أشياء غير ممكنة في لغتكم الهجينة . و تمعنْ بعد ذلك في لفظة ( الغَبيط)، التي تَعني " الهودج " ، حسب أبي عمرو الشيباني ، أو قَتَب الهودج ، حسب الأصمعي. ثم اسأل تراجمتَك كيف سيجدون مقابلا لهذه الكلمة التي تجمع حرفي الغين و الطاء، و أنتم لا تعرفون حرف الطاء ؟ و كيف ، يا تُرى ، يبقى الغبيط غبيطا ، إذا نحن نزعنا عنه طاءه ؟ فإذا جاءك كتابي هذا - أيها الرومي الأغلف - فاصرف النظر حالا عن هذه الترجمة ، و إلا فسوف آتيك بجيوش لا قبَل لك بها . فإني من الملوك الذين أرضعَتهم الحربُ بلبَانها ، و الذين يتصدون للخطوب في أوانها . وإياك أنْ تظن أن اجتماع حلفائك الغور و السقْلاب على حربي سيثنيني عن عزمي . فقد تعودتُ، كلما رأيتُ جحافل الأعداء مجتمعة عليّ ، أن أتمثل بقول الفقيه العالم جار لله الزمخشري: لا أبالي بجمعهمْ = كلَُّ جَمْعٍ مؤنَّثُ و السلام على من اتبع الهدى.