في أي عَصْر عاش طاغية نجدان ؟ و أين كانت توجد دولته ؟ في الشرق أم في الغرب ؟ في الشمال أم في الجنوب؟ علْمُ ذلك عند علّام الغيوب. كل ما تَذْكره كتبُ التاريخ هو أن المستبدّ بالله - و هذا هو لقبه - كان ينتمي إلى سلالة من الطغاة الظالمين ، الذين حكموا بلادَ نجدان و مارَسوا فيها ضروبا من الطغيان ، و اشتهروا بأخبارهم العجيبة و ألقابهم الغريبة. و لعل أهمّ كتاب وصلَنا عن نزوات المستبد بالله هو كتاب « إتحاف الخلان بأخبار طاغية نجدان مع الشعراء و الوزراء و الأعيان « ، الذي نقدمه على حلقات ، خلال هذه الفسحة الصيفية . و هو من تأليف الشيخ أبي منصور البغدادي ، المشهور بلقب « رِيق الدنيا .» و يحكي الشيخ أبو منصور في كتابه هذا أمورا لا تُصَدق عن هذا الطاغية ، المولع بالشعر و الأدب، و الذي كان يَحدث له أن يرتجل دستورا جديدا للبلاد، إذا امتنعَ عنه الرقاد ! كما يسجل له التاريخ أنه أول مستبد يعين وزيرا للشمس و القمر، و وزيرا للرعد و المطر، و وزيرا للألوان و وزيرا لنوائب الزمان و آخرَ للظلم و الطغيان . حدثنا نصر بن منصور البغدادي، عن شيخنا أبي الفضل النجداني، قال: استيقظ الطاغية مرة من نومه في الهزيع الأخير من الليل، وهو يشعر بألم شديد في إبهام القدم اليمنى مع احمرار وتورم، وذلك في شهر رمضان، فدعا صاحبَ الشرطة و أمره أن يجيئه في الحال بوزير الأسقام ، الطبيب النطاسي الشيخ حماد بن محمد الأسدي، الملقب بسارق النار . فلما جاء الشيخ، حيا المستبد بالله بتحية الطغاة، ثم استفسره عن الألم الذي يعاني منه، و شرع بعد ذلك يجس الإبهام المتورمة برفق شديد، والطاغية يزم شفتيه حتى لا يصرخ . فلما انتهى الوزير الطبيب من فحص إبهام الطاغية ، توجه إليه بالكلام قائلاً: - يا مولاي المستبد ، هذا الألم الذي تعاني منه في الإبهام الأيمن سبَبُه داء النّقْرس. فنظر إليه الطاغية نظرة منكرة وقال له: -ويحك ، كيف قلتَ الإبهام الأيمن ولم تقل الإبهام اليمنى؟ قال الشيخ سارق النار : - ذلك من لغتنا، نحن بني أسد ، يا مولانا الطاغية . وقد قال الشيخ ابن جني في كتاب الخصائص :» الإبهام مؤنثة و لكنّ بَني أسَد يُذَكرونها .» و لم يبْدُ على الطاغية أنه انتبه لكلام الشيخ سارق النار ، إذْ تقلصتْ ملامحه من الألم و تمَعّرَ وجهه ، لكنه تماسك و عاد يسأل الوزيرَ : - إذن فالنقرس هو السبب ؟ فنظر إليه الشيخ متوجسا وقال: - أجل يا مولاي. هو النقرس و لا شيء سواه . و قد كان الأطباء يسمونه داء الملوك، لأنه لا يَعرض، في اعتقادهم، إلا لذوي النعمة والترف. أما أول من اكتشف سببه الحقيقي فهو الطبيب الروماني جالينوس. قال الطاغية: - لقد اختلطت عليك الأمور أيها الشيخ، فجالينوس ليس رومانيا. إنه طبيب يوناني ، كان يمارس الطب في روما. وقد ذكره المتنبي في بيت من أبياته المشهورة، حين قال: يَموتُ راعي الضأن في ضأنه = موتة َ جالينوسَ في طبهِ قال الشيخ حماد بن محمد ، وزير الأسقام : - الصواب ما نطقَ به مولانا المستبد بالله . أما العلاج الذي كان يصفه الفاضل جالينوس لمرض النقرس فهو فصد الباسليق . قال الطاغية و قد عيل صبره : - وما شأني أنا بهذا الفصد الذي كان يقترحه جالينوسك هذا؟ ألا تعلم أنه كان مجرد طبيب للمجلودين في ذلك الزمن السحيق؟ ثم إن الطاغية أمسك بإبهامه المتورمة ، وقد انقبضت أساريره وبدا كأنه موشك على الصراخ ، وعاد يقول للطبيب الوزير: - أخبرني ، رعاك الله، هل تحفظ شيئا من أشعار العرب عن مرض النقرس؟ فاضطرب الوزير وتلعثم قبل أن يجيب: - كلا يا مولاي، كل ما أعرفه في هذا الباب هو قول الفضل بن إسماعيل العباسي : أشكو إلى الله ما أصبْتُ بهِ = منْ ألَمٍ في مفاصل القدم قال الطاغية : - حسبي الله ! حسبي الله ! لقد كان السلطان سليمان القانوني - بعد إصابته بالنقرس - يدعو وزراءه و يستنشدهم ، فيسمع منهم عشرات القصائد عن هذا الداء اللعين . و هذا وزيري في الأسقام لا يعرف سوى بيت يتيم . فلما لم ينطق الوزير بكلمة، التفت الطاغية إلى صاحب الشرطة وقال له: - أبغني طبيباً غير هذا الواقف أمامي، فإني لا أريد رؤيته في قصري من جديد. قال شيخنا أبو الفضل النجداني: فلما طلع الصباح علمْنا أن الطبيب الوزير ، الشيخ حماد بن محمد الأسدي ، قد اقتيد في عز الليل إلى سجن الكثيب ، و بقينا و الله نأسف لمصير ذلك العالم الأريب.