سبق للفلاسفة أن جعلوا في المؤسسات التعليمية موضوعا للتفكير والتأمل. بل أسسوا مثل هذه المؤسسات قصد التعليم والتدريس. فهذا أفلاطون أسس الأكاديمية (نسبة إلى أكاديموس صاحب الأرض الذي بنيت عليها المؤسسة) وهذا أرسطو أسس اللوقيوم (نسبة إلى...) دون أن نغقل المدارس الأخرى المتعددة كالرواقية (رواق ومنتزه للتربية) والأبيقورية (حديقة وجنان للتحصيل) والسفسطائية.. (أغورا وساحة للجدال). كان لهذه المؤسسات التعليمية الفضل الكبير في تدريس وتعليم شتى العلوم والفنون «وتخريج» العديد من العلماء والفلاسفة والأدباء... كما سبق، فيما بعد، لكانط أن تحدث عن «صراع الكليات» (الرقابة وحرية الصحافة والمسؤولية) وسبق لهيجل أن أعد تقريرا لوزير التعليم العمومي وللدفاع عن الجامعات وكذلك بادر فيكتور كوزان في فرنسا... وأثار ديريدا إشكاليات الجامعات في مؤلفه «عن الحق في الفلسفة». وسبق لنيتشه أن تساءل عن «مستقبل مؤسساتنا التعليمية». يحق لنا بدورنا أن نتساءل ما هي الجامعة المغربية ؟ ما هو دورها في المجتمع (مجتمع المعرفة) ؟ ما واقع هذه الجامعة الآن ؟ وآفاقها ؟ كما يحق لنا أن نفخر من حيث العدد والتنوع ونشر المعرفة بالانتقال من جامعتين أو ثلاثة في المغرب (فاس - الرباط - مراكش) إلى العشرات من الجامعات في ربوع المملكة ومهما يكون ارتهان هذا الافتخار بالكم والعدد فلاختلاف الجامعات والكليات وتقريبها من الطلاب مزايا عدة في التحصيل والوعي والتثقيف المقرونة بالنوع. من أقدم الجامعات المغربية، جامعة سيدي محمد بن عبد لله بفاس، (سنة1961) كانت في الأصل مؤسسة تابعة (بحيها ومطعمها) لدار المهراز، وهذه الدار كانت عسكرية فرنسية متخصصة في المدفعية وما زالت إلى يومنا هذا. من هنا اسم المهراز. أما «ظهر» فتلحين للفظة «دار». اقتصرت هذه الجامعة في بدايتها على كليتين أو ثلاثة : كلية الآداب، وكلية الحقوق، وكلية الشريعة.. أما الآن فهي جامعة عامرة بإضافة كليات العلوم والتقنيات والطب.. وكلية سايس للآداب والعلوم الإنسانية... كانت هذه الجامعة وفي بدايتها تفتقر لأطر التدريس والإشراف والتأطير فاستعانت بالجامعيين العرب (مصر، سوريا، العراق).. كما استعانت بالجامعيين الغربيين (فرنسا إسبانيا...) أما الآن ففيها فيض من الأطر يؤهلها للتبادل الجامعي المندمج.. كان هناك ميل حتى لا نقول صراع بين جامعة العاصمة الإدارية (جامعة محمد الخامس) وبين جامعة العاصمة العلمية (جامعة سيدي محمد بن عبد لله) واستطاعت الأولى أن تستقطب جل الأساتذة بفاس ربما حبا منهم في تغيير المنازل، أو التواجد قرب القرارات السياسية والثقافية.. وإن أثر هذا الترحال سلبا في مردودية ظهر المهراز إلا أنه أفرز طاقات وأُطر شابة هي التي ترفع راية التحصيل الأكاديمي عاليا الآن. كانت ظهر المهراز وما تزال بؤرة للنضال السياسي والإيديولوجي. عرفت كل الأطياف السياسية وأكثر... وتخرج منها رجالات السياسة الوازنين في المغرب الآن (قيادة وتنظيما وتنظيرا) .. لكن مردوديتها في هذا المجال لم تكن بدون أضرار صميمية أو جانبية: اعتقالات، محاكمات، اغتيالات، اقتتال تيارات.. حتى أن هذه الأضرار أخيرا شوّهت «معالم المدرسة السياسية» بفاس وحطت من قيمة الاختيارات السياسية الطلائعية وغلبت كفة الأمن والاستقرار والطمأنينة على كفة النضال والصراع والمناظرة. أكثر من ذلك بدت التحركات السياسية والنضالية في الجامعة وكأنها دعوة لمقاطعة التحصيل العلمي والأكاديمي، ولمتابعة الدروس والتقليص من الحصص.. يا حسرتاه ! كانت ظهر المهراز عين قبلة منها تفتقت سيولة خميرة الانتلجنسيا المغربية الحداثية. لكنّ عيونها جفّت الآن فيما يبدو. أكان ذلك بسبب الصراعات السياسية الفارغة ؟ أم بسبب الاختيارات الرسمية البيروقراطية ؟ أن بسبب التساهلات الأكاديمية ؟ أم بسبب التهافت وراء شهادات تضمن الخبز ولا تتضمن الخبر ؟ ... أخشى أن أنسى الأسماء إن أنا ذكرت خريجي ظهر المهراز في الشعر أحمد المجاطي والخمار ال?نوني. وفي النقد نجيب العوفي و في المسرح حسن المنيعي و محمد مسكين، وفي الرواية أحمد المديني ... و اللائحة طويلة بطول البلاد. أما الآن فلا أرى -أنا الأعمى بحجاب المعاصرة - روافد ولا إرهاصات ولا إفرازات للمستقبل الفكري والأدبي فيما «سيتخرج» من ظهر المهراز... ما سبب هذا العمى ؟ أهو منطق الأجيال: السابق يقلل من شأن اللاحق؟ أم هو منطق الكثرة والقلة ؟ أم هو منطق البساطة والتعقيد ؟ مهما يكن من أمر، لابد من التساؤل مجددا... أنتقدم أو نتأخر في التحصيل ؟ في المستوى (المعرفي والفكري) ؟ في الإنتاجية... وفي المردودية، في ظهر المهراز.. ؟ يبدو لي أننا لا نتقدم إلا كميا : في عدد الطلبة، في عدد الشهادات، في عدد المحتذيات، في عدد الكليات، في عدد التخصصات. ونتأخر في فرز النخبة، وفي قيمة الشواهد، وفي اكتساب المعرفة، وفي الصرامة والأكاديمية وفي الأمانة العلمية. ما العمل، هل الخوصصة هي الحل كما يلوح أصحاب القرار ؟ يبدو لي (مرة أخرى) ومعذرة، أننا لا نملك فرص التقويم والمحاسبة، لذا لا يجوز لنا مساءلة المستقبل. ولا عجب إن تحولت دار المهراز إلى ظهر المهراز ./.