في ذاك الزمن كان التلفاز من الكماليات التي لا يقدر على امتلاكها سوى وجهاء القوم أو «المبذرون» من الجنود، فحدث أن أحد ضباط الصف من أصل جبلي، يقطن بحي «لاشالي»، اشترى دون غيره أول تلفاز شاهدته في حياتي، فدأب «جبالة» على السهر جماعة ليلة كل سبت لدا صاحب الصندوق العجيب وزوجته الظريفة التي كانت تستقبل الجميع في بشاشة لم تذبل أبدا. نتفرج مختلطين على سهرات المدن التي كانت تتبارى في تقديم أجمل أهازيجها وأغانيها الشعبية. وكم كان يطربنا العروصي، والسريفي، والشيخة الحمداوية، وحميد الزاهر، وقشبال وزروال، والشيخة الحمونية، وبناصر وخويا. أفادتني تلك الليالي في استنشاق عبير جبالة وفي اكتشاف «أبناء البلد»، ومن ضمنهم «الصديق» الذي فارقته منذ سنين بغفساي بعد رحلة العودة من وزان. وأتاحت لي جلسات السمر تلك أن أكتشف أول طفلة شغلت مني الفؤاد دون أن يتجاوز اهتمامي بها نظرات خجلاء لم تعرها ابنة الدار اهتماما. عبر «الصديق»، تعرفت على كثير من أبناء الجنود، منهم من كان يتابع دراسته بنفس الإعدادية، ومنهم من كان بالمدرسة الابتدائية المجاورة صحبة أخي. صرنا نشكل حلفا جديرا بالاحترام: رهط من الفتيان المشاغبين الذين لا يتوانون في مهاجمة كل من تجرأ بالإساءة لأحدهم. يذهبون جماعة لسينما «كوليزي» كل أحد لمشاهدة أفلام «البنت» و»الولد»، وللتفرج على «الجانكو» و»الرينكو» والقوة الضاربة ل»صمصام» و»لويس دو فنيس» و «شارلي شابلين»، ويتوغلون أحيانا بين أدغال الغابة في اتجاه مصب نهر سوس، ويركبون مرة دراجاتهم الهوائية لاستكشاف سفوح الجبل، ويتسلون مرة أخرى بغزو دور النصارى وسرقة ما يصادفونه من لعب وأثاث بفناءاتها… ويلعبون الكرة في جل أوقات الفراغ… ويتحاكون الحكايات كلها ، الحقيقية والمتخيلة كل مساء، على درج باب منزل مهجور… لا يهابون مقارعة أي رهط آخر، ولا يتراجعون أمام أي خصم. لم نكن حشدا متجانسا في كل شيء، وإن كنا متضامنين، متحدين في مواجهة الغير. داخل الرهط، تشكلت زمر وفئات حسب الجوار والسن واختلاف الطبائع. زمرة الصقور الذين يعود لهم القرار وينهضون بدور الزعامة، وهم الأكبر سنا، وزمرة الأشرار الذين يتقدمون كل الحوادث «السيئة» ويحرضون عليها، وزمرة الحمائم الذين لا يتورطون إلا لماما في ارتكاب «الذنوب» صغيرة كانت أم كبيرة ويواظبون على الدراسة أكثر من غيرهم. لكن، مهما فرقت بيننا الحياة، كان يوحدنا الانتماء إلى مجتمع «أولاد العسكر»، ويجمع بيننا الشعور بأننا غرباء، والغريب للغريب حبيب. أنهيت السنة الدراسية بنتائج جد متوسطة. نعم، انتقلت للسنة الأولى من التعليم الثانوي آنذاك، لكني لم ارض بما حصلته من نقط، لاسيما في المواد العلمية. أيقنت أنني تراجعت عما كنت عليه بمدرسة أولاد صالح تراجعا لا ينبئ بخير. بدا المستقبل غامضا وراودتني بدائل شتى، من أقربها إلى التحقق العودة إلى الجبل، والعيش بين أهله في أحضان الجدين. تجرعت خيبة أملي في ذاتي. استغرقني شغب الصيف رفقة الأقران اللذين صاروا أصدقاء النهار والشطر الأول من الليل. نهيم بين جنان الدشيرة وساحاتها المتربة، نتسلى بقطف النبق وتسلق الأشجار والقفز فوق الكثبان والعوم بغدران الوادي. ونلعب الكرة … بلا توقف ولا تعب … نلعب حفاة في أي مكان.عند العشي نتفرج على مقابلات الكبار حتى مغيب الشمس. ذاك الصيف زفت أختي إلى زوجها… كان حفلا بسيطا وحزينا. لم يحضر الحفل سوى الأقربين ، وما كان حفلا على الإطلاق. فتاة حسناء لم تتجاوز عقدها السابع عشر تهدى في موكب يتصنع الفرجة والفرح لعجوز أكلته التجاعيد وغزا الشيب ما تبقى من هامته الصلعاء وخرب التبغ الأسود منه النواجد. زواج لم أرضاه لأختي، ولم يرتضيه سوى أبي الذي ربما رأى في الزوج البغيض ما لم يره أحد دونه. حرصت على زيارة العروس في بيتها الجديد فكنت أجدها حزينة، كئيبة. إن استفسرتها، تفجرت رموشها دمعا، وهي ترجو ربها أن يخلصها من زواج لم يكن لها فيه رأي ولا مشورة. عاهدتها أن نعمل سويا من أجل الخلاص، مهما كان موقف الوالد، وأيا كان الثمن. سارت الأيام مسرعة، بين لعب وتسكع وعراك وصلاة وحنين، إلى أن عدت إلى الثانوية. عدت معززا بكتيبة جديدة من أبناء الجند الذين انتقلوا تلك السنة إلى التعليم الثانوي صحبة أخي ع.ن. نسير زرافات في الغدو والرواح ،من الدشيرة إلى الثانوية الجديدة، التي شيدت على مشارف غابة كثيفة تتحول فصل الربيع إلى منتزه رائع. نسير متكاتفين، متآنسين، بين بساتين «تاغزوت». نتبارى في الشعر والنثر… طه حسين، وإيليا أبو ماضي، وجورجي زيدان، وتوفيق الحكيم، والمنفلوطي… والثقافة العامة من قبيل عواصم الدول ورؤسائها… دار السلام، وأديس أبيبا، وبيروت، ومودي بوكيتا، وجمال عبد الناصر ونهرو و… والأحداث التاريخية… واطرلو، والزلاقة، والأرك، وفتح عمورية، والحروب الصليبية، وصلاح الدين الأيوبي… وأسماء العلماء والمخترعين… باستور، وأديسون ،وكوبونيك… وغاليلي. مباريات حفزتنا على المطالعة والبحث والتنقيب في زمن شح مصادر المعلومة والمعرفة، وفي وسط سادته الأمية. لربح الرهان والفوز بالجوائز الرمزية التي رصدت للمتفوقين، وهي حلويات «خمسة بريال»، وضعت معية أخي برنامجا للمطالعة وحفظ الأشعار والاطلاع على خريطة العالم وتاريخ الإنسانية، فعكفنا على قراءة ما استطعنا إليه سبيلا من كتب ومجلات و»أوراق». كانت خزانة الوالد بكتبها الصفراء أول منهل وأقربه إلينا. قرأنا «الرحمة في الطب والحكمة»، و «الروض العاطر،» و»سيف بن ذي يزن»، و»أبو زيد الهلالي». فاكتشفت أسماء الفرج والقضيب جميعها، وتشكلت في مخيلتي كل مشاهد الجنس والجماع، وتبلورت في وجداني كل قيم البطولة والشجاعة والإباء، وكل ألوان العشق والتضحية في سبيل المحبوب، وترسخت في أعماقي كل القيم المثالية الجميلة المتسامية. استهوتني الأزلية وبطولات ملك حمير الذي تحدى الإنس والجن، فاستعبد «سعدون الزنجي» و»ميمون الهجام»، وسخر «عيروض» و»عاقصة» و»إرميش المخالف»، وهزم «برنوخ الساحر» و»الكاهنة»، واستصغر «سقرديس» و»سقرديون»، وفتح «مدينة النحاس» وساد «جزر الوقواق» و»بحر الظلمات». كانت أربع ليال متتالية كافية لمصاحبة سيف في ملحمة أسطورية حسبتها وقائع تاريخية حقيقية، فتفاعلت مع البطل الخير، الطيب، الذي عاش أهوالا يشيب لها الصبيان ، وصبر الصبر الجميل على ما لحقه من أذى السحرة والكهان، فانتصر بعون الله على الطغاة. وعلمت بأقوام «ياجوج» و»ماجوج» الذين سيزحفون يوما على الأرض ليجعلوها خرابا، وعلى البحار التي ستصير يبابا.