نعم، إنها الرزية، وما أدراك من رزية...برحيل سي محمد العروصي، شيخ العيطة الجبلية، يكون مغرب الغناء قد فقد طيفا أصيلا من أطيافه، وعلما بارزا من أعلامه، زين المشهد الفني المغربي على امتداد عقود من الزمن... سي محمد الفقيه والفنان، في جلبابه الجبلي المطرز بالحرير، وب "رزته" المذهبة، وبكمانه العتيق، بمعية " رباعة" من ذوي الإحساس المرهف، والسحنة الزروالية العريقة، تتقدمها "شامة الزاز" ، سنديانة "العياع" الجبلي، غنى (العروصي9 فأجاد، وأبدع فأطرب، حتى صار مرجعا في العيطة الجبلية، إلى جانب الخمسي والطريرف والسريفي والكرفطي، ورمزا ثقافيا وفنيا رفيعا بالمنطقة، بل بالمغرب من أقصاه إلى أقصاه. صدحت بروائعه حناجر الفلاحين أيام الحصاد عبر الحقول والمراعي، ورددتها الغواني على ضفاف الأودية وفي أعالي الجبال، ورقص على إيقاعاتها جنودنا الأبرار على خطوط النار دفاعا عن وحدة الوطن. روائع العروصي كثيرة يصعب حصرها: العيطة الزروالية، عين زورا، طلعوا الطلبة يزوروا، أيام الربيع، أنا فلاح، أيما يما، دابا يجي ونقولالو... روائع تميزت بتنوع موضوعاتها: الحب والجهاد والأرض والطبيعة والغربة والمعاناة الاجتماعية، وما إليها من قضايا إنسانية ووقائع تاريخية، تناولها سي محمد بلغة راقية وبشاعرية قل نظيرها. لذلك كانت وستظل، ملاذا للثكالى واليتامى والمتغربين، ومتنا مفيدا للباحثين في التاريخ والاجتماع، وينبوع حبور ونشوة واستمتاع لأعراس جبالة ومواسمهم الكثيرة من "غمارة "إلى "سلاس" و"الجاية" ومن "بني قرفاط" إلى "صنهاجة"؛ وكانت ذات الروائع قبلها حافزا على الجهاد والمقاومة ضد المستعمر وأّذنابه زمن القبطان "صولي" وقواده. لم يجعل "العروصي" رحمه الله أبدا من فنه وسيلة للتكسب، وإنما ارتضى لنفسه الأبية الشماء حياة بسيطة، هي أشبه بحياة الزهاد والدراويش ومريدي "مولاي العربي الدرقاوي" دفين بوبريح... على ضفاف "أوضور" و"أوضيار"، وبين وهاد "بني زروال" ومروجها الغناء، وفي ظلال زيتونها، وأعالي جبالها المهيبة، نشأ سي محمد عزيزا، محبوبا، مكرما. فكانت تجربته الفنية ثرية في كل أبعادها الموسيقية والاجتماعية، مما يجعلها جديرة باهتمامات الباحثين في الشعر والموسيقى وسوسيولجية الثقافة والتاريخ. ورثنا عن لعروصي تراثا فنيا زاخرا علينا حفظه من التبديد والاندثار ليبقى مرجعا للفنانين الشباب المولعين بالطقطوقة والعيطة الجبلية. رحم الله محمد العروصي، والصبر والسلوان لأهل بني زروال.