تحت تصفيقات متواصلة، لا ينعم بها إلا المبدعون الذين يحتلون مكانة مرموقة في قلوب عشاق الفن الراقي والرفيع، صعد إدريس المالومي والابتسامة تعلو محياه إلى منصة قاعة العروض بمدينة تارودانت حاملا آلة العود الموسيقية، التي أعطاها صادق عشقه، وعميق مشاعره، لتمنحه فيضا عارما من الحب الذي يعكسه التجاوب الجماهيري الذي يلقاه في كل مرة أحيى فيها سهرة فنية. حل هذا الفنان المتألق، الذي يصفه الكثيرون ب»شاعر العود» صحبة أعضاء فرقته «مدار» للموسيقى الإيقاعية المكونة من ضابطي إيقاع استثنائيين، هما الحسين باكيز وسعيد المالومي، ضيوفا على الدورة 11 من «المهرجان الوطني للدقة والإيقاعات» الذي نظم مؤخرا في مدينة تارودانت، حيث حظيت هذه الفرقة بشرف افتتاح هذا الملتقى الثقافي السنوي الذي غدا واحدا من أبرز المهرجانات الفنية الوطنية الموضوعاتية. وسط سكون مطبق ساد داخل قاعة العروض، كانت أنغام العود تتردد بمهل ينفذ إلى أعماق وجدان جمهور حرص، تلقائيا، على إقفال الهواتف النقالة حتى لا تشوش رناتها على أجواء حفل غير معتاد. كانت تموجات طبلة الإيقاع تسبح في بحر الصمت الذي يفرضه المقام دون أن يغطي رنين الوتر على إيقاع الطبلة، ومن غير أن يهيمن وقع النقر على تحريك الوتر. استطاع الفنان إدريس المالومي أن يأسر مشاعر القاعة خلال مدة قاربت ساعة ونصف، دون الشعور بالملل أو الرتابة، كانت ملامح وجهه تعبر طيلة هذه الفترة الزمنية على القوة النافذة ل»سلطان» هذه الآلة الوترية على المشاعر العميقة لهذا الفنان الذي ظل أسير حركات تلقائية كانت ترتسم على محياه، وكان «يرتعد» لوقعها كامل جسده. لم تكف قدم الملومي عن الحركة طيلة فترة العزف، عيناه المغمضتان وهو يعزف لم تحولا دون تحريك حاجبيه من حين لآخر، حركة الكتفين كانت تتماهى مع الإيقاع، الجسد بدوره كان ينط بخفة إيقاعية بين الفينة والأخرى، كف يده اليسرى كانت تتجول بطلاقة فوق الأوثار دون إحداث أدنى رنة نشاز، حتى الشفتين انخرطتا في هذا المشهد التعبيري الفريد من نوعه. يرفع من صوت رنات العود أحيانا، ثم يشرع في تخفيض صداها رويدا رويدا وفقا ما يقتضيه المقام. بحركة بسيطة من رأسه يتواصل مع ضابطي الإيقاع لتغيير الإيقاع أو الرفع من مستوى وقعه، وفي حالات أخرى قد يوظف الوتر بذكاء متناه لإبلاغ هذه الإشارة التي لا تنكشف للمتتبع إلا بعدما يتغير إيقاع الطبلة أو الدف، وقد يصمت الوتر لفترة زمنية قصيرة لإخلاء المجال للإيقاع وحده كي يغمر فضاء الحفل. يجتهد إدريس المالومي وفرقته «مدار» على أكثر من صعيد لإمتاع الجمهور العاشق للموسيقى والإيقاع الراقيين، فقد استطاع هذا الفنان المتفرد أن يجعل المستمع يخال النغمة الموسيقية للعود وكأنها عزف على الكمان. كما استطاعت فرقة «مدار» أن تبتكر نمطا أصيلا من التناغم بين الأدوات الإيقاعية العربية مثل «الطبلة» (البندير) ، والدف (الدربوكة)، ومثيلاتها غير العربية مثل ال»زارب» المنتسب للحضارة الموسيقية الفارسية. ويعكس هذا التطويع الناجح للآلات الوترية والأدوات الإيقاعية من طرف الفنان إدريس المالومي تمكنه الأكاديمي ودرايته الواسعة لفنون الموسيقى، ما أهله ليصبح سفيرا فوق العادة لجيل جديد من المبدعين الموسيقيين المغاربة، الذين استطاعوا أن يفرضوا كفاءاتهم الفنية خارج الحدود الوطنية، حيث اصبح المالومي فنانا ذائع الصيت وسط نخبة من المبدعين الموسيقيين من ذوي الصيت العالمي. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن إدريس المالومي شارك عددا من الاسماء العالمية على صعيد القارات الخمس في إبداعات موسيقية متفردة من ضمنهم المايسترو الإسباني جوردي سافال الذي عزف معه في أكثر من 13 اسطوانة نالت تقديرات وجوائز عالمية .وعازف القيتارة الهندي الشهير ديباشيش باتشاريا، الذي شاركه العزف بعمله الموسيقى المتميز الذي يحمل عنوان «نغمة». وعزف إدريس المالومي إلى جانب الفنان العراقي الراحل منير بشير، كما أدى معزوفات مشتركة مع الفنان العربي مارسيل خليفة، والمايسترو الفرنسي آرمان أمار. وأصدر الفنان المالومي مجموعة من الأسطوانات الموسيقية ابتدأها سنة 2005 بإصدار أسطوانة «رقصة الروح» عن «بودا ميوزيك» في باريس، ليتبعها بأسطوانة «ثلاث ميمات» ضمن إصدارات «كونر جور» البلجيكية سنة 2008، ثم أسطوانة «عين القلب» التي صدرت عن معهد العالم العربي في باريس سنة 2013، وكان آخر إصداراته أسطوانة «مكان» التي صدرت ببلجيكا سنة 2014. وإلى جانب الأسطوانات، ألف مجموعة من الإبداعات الموسيقية لفائدة المسرح وبعض الأفلام السينمائية من ضمنها فيلم «عين النساء»، و»مولود بمكان ما»، و»البحر الأبيض المتوسط الطبيعي». كما الف كتابا بعنوان «مارسيل خليفة ضرورة موسيقية، تأمل بالمنجز الموسيقي». وتجدر الاشارة، في هذا السياق، إلى أن المالومي حاز على مجموعة من الألقاب والتوشيحات من ضمنها جائزة «زرياب المهارات» سنة 2011، التي يمنحها المجلس الوطني للموسيقى العضو بالمجلس الدولي للموسيقى التابع لليونسكو، وألقاب أخرى كان آخرها توشيحه بالوسام الشرفي لوزارة الثقافة الفرنسية من درجة «فارس للفنون والآداب» خلال سنة 2016.