ما يهمنا نحن في هذه «الحلقات الرمضانية» هو إلقاء بعض الضوء على «حياة محمد قبل النبوة»، وتحديدا على الفترة الممتدة ما بين زواجه من خديجة بنت خويلد ونزول الوحي؛ وهي مرحلة «مظلمة» تستغرق 15 سنة وتدخل بالمستطلع، حسب ما يراه الباحث سعيد السراج، «ظلاماً دامساً إلى حيث لايدري كيف يسير وإلى أين يمضي وماذا يلاقي، فهو لا يحس إلا بخشونة الريب إذا مد يده لامساً، ولا يسمع إلا زمجرة الشكوك إذا مد عنقه مصغياً». والسبب في ذلك أن محمدا لم يكن، عموما، قبل النبوة وقبل أن يشتهر أمره «إلا واحداً من قومه وعشيرته، فلا يهم الناس أمره ولا يعنيهم نقل أخباره ولا التحدث بها في بيوتهم ونواديهم، قبل التقائه بخديجة، تعاطى النبي محمد لرعي الغنم مقابل قراريط؛ والقراريط هي أجزاء من الدراهم والدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة. فلم يترك له والده عبد الله، كما جاء في السيرة الحلبية، سوى خمسة أجمال وقطعة من غنم وجارية حبشية اسمها بركة وتكنى بأم أيمن. وقيل إنه ورث عبدا آخر اسمه شقران، وكان حبشيا فأعتقه بعد معركة بدر، وقيل لم يرثه من أبيه، بل اشتراه أو وهب له. وبعد رعي الغنم، تعاطى للتجارة، حتى قبل أن يتجر لخديجة، وحتى قبل أن تهتم بالزواج منه. ذلك لأن قريش كانوا أهل تجارة، وكانت قوافلهم وعيراتهم، يقول الرصافي في "الشخصية المحمدية"، مستمرة في الذهاب والإياب إلى الشام وإلى اليمن، يحملون من بلادهم الأدم من جلود مواشيهم وما يتبعها من وبر وصوف يبيعونها في أسواق تلك البلاد، ثم يرجعون حاملين إلى بلادهم ما تحتاج إليه من ميرة وبز وغيرها من المنسوجات والمأكولات، فيبيعونها في أسواقهم، وكانت سائر قبائل العرب تأتي أسواقهم في المواسم فيبيعون ويشترون (...) ولا شك أن تمخض الأسواق في المواسم بهذه الحركة في البيع والشراء كان يدر لقريش الخير والبركة لأنهم تجار هذه الأسواق، ولأنهم ولاة البيت المهيمنون على الحج، فلهذا السبب كانت قريش أغنى العرب، ولهذا السبب أيضا كانت لقريش رئاسة دينية على العرب، ولا ريب أن رؤساء الدين في ذلك العهد هم رؤساء الدنيا في كل مكان. وإذا علمنا أن أهل مكة، أعني قريشا، كانوا أهل تجارة فقد علمنا أنهم كانوا أهل أسفار أيضا، لأن التجارة هي أم الافار في جميع الأمم، ولذلك قل منهم من لم يسافر في البلاد المتاخمة، وقل فيهم من لم يضرب في الأرض متاجرا". وإذا كان هذا أمر قريش مع التجارة، فما هو أمر النبي محمد معها، بصرف النظر عن سفره مع عمه إلى الشام للتجارة وهو صبي ابن تسع سنين، كما ينقل لنا رواة السيرة الذين تحدثوا عن ظل السحابة الملازمة للصبي والراهب بحيرى، وبصرف النظر عن سفره مع أبي بكر وهو ابن عشرين سنة (وقد جاءت الرواية بسند ضعيف)؟ يذهب الرواة والإخباريون إلى أن السفرة الثانية للنبي كانت إلى الشام وهو في سن الخامسة والعشرين. قال ابن الأثير: "كانت -خديجة- امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه. فلما بلغها عن رسول الله صدق الحديث، وعظم الأمانة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، ومعه غلامها ميسرة". غير أن هناك رواية أخرى تقول إن الشخص الذي دفع النبي إلى العمل لصالح خديجة هو عمه أبو طالب، حيث تنقل لنا السيرة الحلبية "أن عمه أبا طالب قال له: يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر حضورها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرانها فيتجرون لها في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها، لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت لأكره أن تأتي إلى الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا تجد لك من ذلك بدا. فقال رسول الله: فلعلها أن ترسل إلي في ذلك، فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك فتطلب أمرا مدبرا. فاقترقا فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه أبي طالب له، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، ثم أرسلت إليه فقالت: إني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، ففعل رسول الله، ولقي عمه أبا طالب فذكر له ذلك، فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك، فخرج مع غلامها ميسرة يريد الشام". فهل يمكن الاطمئنان بسهولة إلى هاتين الروايتين؟ وهل فعلا لم يرتمي محمد في حجر التجارة إلا بعد أن استأجرته خديجة؟ وهل كانت خديجة تجهل عمل محمد بالتجارة وسمعته فيها، وأخلاقه التي اشتهر بها في قريش؟ يرى الرصافي في "الشخصية المحمدية"، نقلا عن السيرة الحلبية، أن خديجة كانت على معرفة بمحمد، وأنها سبق أن أرسلته بتجارتها إلى اليمن قبل أن ترسله إلى الشام. ففي السيرة الحلبية عن النبي قال: "أجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوصين". الأولى: مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة، وهو مكان بأرض اليمن بينه وبين مكة ست ليال، كانوا يبتاعون منه بزا ورجعا، والثانية أرسلته مع ميسرة إلى الشام. وفي معجم البلدان قال: وحباشة سوق من أسواق العرب في الجاهلية، ذكره عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: لما استوى رسول الله، وبلغ أشده وليس له كثير مال، استأجرته خديجة إلى سوق حباشة، وهو سوق بتهامة، واستأجرت معه رجلا آخر من قريش. قال رسول الله وهو يحدث عنها: ما رأيت من صاحبة أجير خيرا من خديجة، ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبئه لنا". ينبه الرصافي إلى أن قوله: "كلما رجعنا أنا وجدنا عنها تحفة من طعام تخبئه لنا" يحمل معنى أن محمدا سافر أجيرا لخديجة مرارا كثيرة.. وينتهي الرصافي إلى أن محمدا قد سافر لخديجة أربع سفرات، واحدة إلى سوق حباشة، واثنتين إلى جرش، وواحدة إلى الشام، وهي التي انتهت بزواجه منها.. وهذا يؤكد، أيضا، أن خديجة كانت تعرف محمدا وتعرف أخلاقه قبل أن تستأجره إلى الشام، ومما يثبت ذلك أن ما جاء في السيرة الحلبية من أن محمدا سافر مع عميه الزبير والعباس إلي اليمن، وهو ابن سبع عشرة سنة. ما نريد التأكيد عليه، هنا، هو أن النبي كان قبل الوحي جواب أفاق. كان تاجرا يسافر مع القوافل، ولم يكن مكتفيا بارتياد أسواق مكة أو تسلق جبالها. حيث تصل أسفاره المعلومة التي ذكرها الرواة سبع سفرات: ثلاث إلى الشام، وأربع إلى اليمن. وإذا كانت سفرات النبي إلى اليمن وصلت إلى أربع، فهذا يعني أنه كان على معرفة بما كان يعتمل في اليمن من أحداث ومعتقدات، حيث يخبرنا التاريخ أن الديانة اليهودية كانت متفشية هناك. يقول عبد الرزاق بالرجب: "لقد تهوّد قوم من اليمن وقوم من الأوس والخزرج لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنّضير، وتهوّد قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من غسّان وقوم من جذام، إضافة إلى قبائل يهوديّة صميمة منهم بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعوراء وبنو الهصيص وبنو زيد. وبصرف النّظر عن الاختلاف بين الدّارسين عن القبائل اليهوديّة إن كانت أصليّة أو قبائل عربيّة متهوّدة، فإنّنا نستنتج أنّ الدّيانة اليهوديّة لم تكن منغلقة على نفسها وإنّما كانت لا تخلو من صبغة تبشيريّة، وهو ما شجّع أحمد أمين على القول "عمل اليهود على نشر ديانتهم جنوبي الجزيرة حتّى تهوّد كثير من قبائل اليمن". وقال: "لا شكّ أنّ أحمد أمين قد بنى رأيه هذا على ما تداولته كتب الإخباريين من استقدام تبّع لحبرين من أحبار اليهود إلى اليمن واعتناقه هذا الدّين وإبطاله عبادة الأوثان. وبذلك أصبحت اليهوديّة الدّيانة الرّسميّة للملكة الحميريّة، غير أنّ اليهود لم ينشروا ديانتهم في اليمن فحسب، بل كان شمال الجزيرة العربيّة بادية الشّام وفلسطين، ووسطها يثرب وخيبر وفدك وغيرها مأهولة بجماعات يهوديّة". ويروي ابن سعد في الطبقات: قيل لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنّ هاهنا ناساً من كندة يزعمون أنك منهم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنّما ذلك شيء كان يقوله العبّاس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب ليأمنا باليمن، معاذ الله أن نزني أمنا أو نقفو أبانا، نحن بنو النضر بن كنانة، من قال غير ذلك فقد كذب". إن ما ينقله عبد الرزاق بالرجب، وما يرويه ابن سعد في الطبقات يؤكد أمرا واحدا هو النبي كان على علم بما يجري في اليمن، وخاصة المنازعة بين اليهوديّة والمسيحيّة في اليمن، وفي شبه الجزيرة العربية، التي صورها المؤرخون والإخباريون كأنّها نزاع دينيّ محض، في حين أنّها تنقل لا حقيقة النزاع السياسي بين ملوك الأحباش والحميريين، رغم اللبوس الديني الذي يرتديه. غير أن السؤال هو: ما سر هذا الخوف (الفوبيا) من اليهود قبل النبوة؟