إذا كانت دولة القانون تعني ضرورة خضوع الدولة وجميع سلطاتها للقانون، وتعني كذلك مسؤوليتها الكاملة عن جميع تصرفاتها تجاه الأفراد؛ مسؤولية منظمة ومضبطة بنصوص قانونية واضحة وصريحة، تعطي للأفراد المتضررين الحق في محاسبتها، وذلك بالاعتماد على الطرق القضائية أو الإدارية، أو اللجوء لهيئات متخصصة، تنشئ لحماية حقوق الأفراد ومواجهة تعسف الدولة وشططها في استعمال السلطة، فإن فعالية دولة القانون أصبحت تقاس اليوم كذلك وأساسا بمدى التقيد بشروط الحكم الرشيد، أي بمدى توافر الآليات القانونية والمؤسساتية للتتبع والتقييم والمساءلة والمحاسبة، وهي آليات كفيلة من أن تجعل من الدولة وسيلة حقيقية وفاعلة لحماية الحقوق والحريات الأساسية للأفراد وتمكينهم من الدفاع عنها والضغط على السلطة من أجل احترامها. إن علاقة الحكامة بحقوق الإنسان علاقة وثيقة ومتبادلة ومتوازية كذلك ، فالدولة الديمقراطية هي التي تعمل جاهدة على توخيهما واحترامهما معا و باستمرار في جميع نشاطاتها، حين تمارس اختصاصاتها. وإذا كانت الاتفاقيات والمواثيق الدولية قد أصبحت تتضمن لزاما اليوم أحكاما و مقتضيات أساسية تتعلق بالحكامة الجيدة، فإن مبدئي عدم التمييز والمساواة أمام القانون، يعدان بدورهما النواة الصلبة لكل المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وخاصة منها المعاهدة الدولية لحماية الحقوق المدنية والسياسية، والتي تضمنت، بالإضافة إلى ذلك، بنودا هامة حول إجراءات التقاضي ومبادئ خاصة بمعاملة المعتقلين والحق في محاكمة عادلة، من قبل محكمة مستقلة ومحايدة. لقد عرفت بلادنا، منذ الاستقلال، كما هو معلوم، تطورا سياسيا ودستوريا غنيا بالعبر والأحداث التي أثرت على طبيعة النظام السياسي المغربي؛ فقد تم إصدار ستة دساتير، بالإضافة إلى التعديلات التي أدخلت على دستوري 1972 و1992، حيث كانت الحياة السياسية ساخنة والعلاقات بين السلطة والمعارضة متوترة. وإذا كان دستور 1996 - الذي جاء في سياق سياسي ودستوري خاص، سيطر عليه هاجس التناوب - قد أدى إلى انفراج سياسي وعلاقات جديدة بين مختلف القوى السياسية، فإن «الإجماع» الذي حصل حول دستور 2011، قد مكن من تكريس المنهجية الديمقراطية وترسيخ دولة القانون وحقوق الإنسان وقيم الحوار والتشاركية ومبادئ الحكامة الرشيدة. وفي هذا الصدد، وبمبادرة من الملك، وتحت عنوان الحكامة الجيدة ، تمت دسترة عدد من المؤسسات الوطنية والمجالس الاستشارية، كما تم تدعيم البناء المؤسساتي الوطني بهيئات جديدة، وذلك بعد الدعوة الصريحة لجلالته، في الخطاب التاريخي ل 9 مارس 2011، إلى دسترة هيئات الحكامة وحقوق الإنسان وحماية الحريات، كأحد المرتكزات السبعة للتعديل الدستوري الشامل، وذلك وفاء لاختيار المملكة المغربية، الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية، يسودها الحق والقانون والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية. وبمناسبة تقديم مشروع الدستور الجديد على الاستفتاء يوم 17 يونيو 2011، أعلن جلالة الملك عن دسترة المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسة الوسيط ومجلس الجالية المغربية بالخارج والهيئة العليا للاتصال السمعي - البصري والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، ومجلس المنافسة والهيأة العليا للنزاهة ومحاربة الرشوة والوقاية منها، إضافة إلى توسيع اختصاصات المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لتشمل قضايا البيئة. كما سيتم الإعلان، ولأول مرة، عن ضرورة السعي نحو إحداث الهيئة المكلفة بالنهوض بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة ومجلس للشباب والعمل الجمعوي . وفي نفس الخطاب، سيعتبر الملك أن دسترة بعض المؤسسات الوطنية، لا يتنافى مع ترك المجال مفتوحا لإحداث هيئات إضافية أخرى، وذلك لتعزيز المواطنة والمشاركة الديمقراطية. ولقد أوكل للمشرع أن يحدد بقوانين تأليف وصلاحيات وتنظيم وقواعد سيرها، كما ألزمها بتقديم تقرير عن أعمالها، مرة واحدة في السنة على الأقل، يكون موضوع مناقشة في البرلمان. لقد كرس الدستور الجديد لما أسماه ب «الحكامة الجيدة»، كأحد مرتكزات مؤسسات الدولة المغربية الحديثة، حيث جعل مبادئها من الأسس التي يقوم عليها التنظيم الدستوري للمملكة؛ فلأول مرة في تاريخ الدساتير المغربية، ينص الدستور على الحكامة، منذ ديباجته - التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من الدستور- كما سيفرد في الوقت ذاته للحكامة الجيدة بابا خاصا، هو الباب الثاني عشر - الفصول 154 إلى 160 تحت عنوان: «مبادئ عامة» والفصول 161 إلى 171 تحت عنوان فرعي هو: «مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية». وهكذا، وزعت المؤسسات والهيئات العشر، حسب الوثيقة الدستورية، إلى ثلاث مجموعات أساسية: - المجموعة الأولى: هي هيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، والتي تضم المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسة الوسيط، ومجلس الجالية المغربية بالخارج والهيئة المكلفة بالنهوض بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز. - المجموعة الثانية: هي هيئات الحكامة والتقنين، والتي تضم الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري ومجلس المنافسة والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها. - المجموعة الثالثة: هي هيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية، والتي تضم المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي. إن اعتبار الدستور في الفصل 159 هيئات الحكامة بأنها مستقلة، رغم استفادتها من دعم الدولة، يعد في اعتقادنا عيبا جوهريا. وللإشارة فسيتم تأكيد معطى الاستقلالية هذا، بالنسبة إلى ثلاث هيئات فقط ، وذلك بمناسبة الحديث المنفرد عنها، في فصول خاصة بها من دون معرفة الأسباب الموضوعية لذلك؛ ويتعلق الأمر تحديدا بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان وبمؤسسة الوسيط وبمجلس المنافسة، غير أن توصيف «الاستقلالية» هنا يثير بعض الأسئلة، ذلك أنه إذا كانت استقلالية المؤسسات الوطنية جزءا من هويتها وطبيعتها، وإذا كانت استقلالية هيئات الضبط والتقنين مكونا جوهريا ووظيفيا لهذه المؤسسات التي لا يمكن تصور عملها، إلا بمسافة مع السلطة التنفيذية، فإن التنصيص على استقلالية هيئات عادية ذات طابع استشاري تنحصر مهامها في إبداء الرأي حول سياسات عمومية معينة لا يبدو مقنعا بشكل كبير. وبغض النظر عن الآثار السياسية الممكنة لهذا التضخم المؤسسي، وكذلك لإمكانية بروز إشكالات تتعلق بتقاطع، بل وتضارب هذا الجيل الجديد من المؤسسات الوطنية مع السلطة التنفيذية، في مجال صياغة السياسات العمومية وتقييمها، فإن التنصيص على أن تنظيم هذه الهيئات وتحديد قواعد سيرها وتأليفها يعود إلى المشرع، يمكننا من القول إننا ننتقل من صيغة «المشورة» التقليدية الموجهة إلى المؤسسة الملكية إلى صيغة «الاستشارة» الحديثة الموجهة أساسا إلى كل من البرلمان والحكومة، وهذا يعني أن عمل هذه الهيئات محكوم ب «تأويل» برلماني متقدم لنظامنا السياسي وبطبيعة «سلطة الاستشارة» داخله. وإذا كانت الشرعية الدستورية ضرورية لترسيخ الديمقراطية ودولة القانون والحكامة الجيدة، فإن المصالحة بين الشرعية الدستورية والمشروعية الديمقراطية يبقى أكثر ضرورة. وذلك من منطلق التخوف من الانسياق وراء الاهتمام بالبناء المؤسساتي وما ارتبط به، وإغفال الجانب القاعدي من هذا البناء، ونقصد به هنا تحديدا المنظومة القيمية والثقافية والحقوقية وما ارتبط بها من أسئلة، تعتبر في تقديرنا المدخل الرئيسي لتأسيس وإنجاح كل تجربة ديمقراطية.