كان اليوم صيفياً، والوقت يقارب الظهيرة، وكل شيء حولي وفي داخلي يغرق في بياض مطلق دون أن يغادر أحساسي بالمكان الذي كنت فيه، بياض غير منتمٍ إلى أي معنى أو دلالة أو رغبة… كنت أسير في ضوء لا أرى مصدره، يالتأكيد لم يكن مصدره مصباحاً أو ما أشبه؛ كان البياض يملأني ويكسو كلَّ ما حولي، ويغيب صورة من يتحركون في عالمي القريب، وبين يديّ كتاب، وكنت أمشي صاعداً أقلب صفحاته، وأرى مافيه، لكن دون أن أقرأ، كتاب أعظمته دون حتى أن يدور ببالي أن أتمنى…، مجرد التمني أن أكتب. لم تكن الكتابة بين متمنياتي بل كانت بعيدة ، بعدَ مستحيلٍ لا يُدانَي، عما كنت أتمنى… كان الوقت أبيض، وكان الكتاب الذي بين يدي أبيض، ولم أكن أعرف كيف توضع الكلمات على صفحات أي كتاب، ولا مصدر الحبر الذي تمتليء به ديابيجه قد يكون ضوء نهار أو ظلام ليالٍ، فإن معرفة الصغير كانت دون ذلك، كما أن أقدامي الصغيرة لم تكن تقوى على الشعور بالأرض التي نقف عليها، بل كان ذلك الطفل يسير وكأن لا أقدام له، بل إنني كنت أجول مثل فراش، أو أحلق كما يحلق عصفور، غير متخوِّفٍ من عصفٍ مفاجيء، أو ريحٍ هوجاء. ولذلك لم تكن تشعر الأرض بأي وقع لخُطواتي. وأنا كنت اسير على أرض واقع ولم أكن أحلم، بل إنني أتذكر إلى حد الآن، موقع خطوتي على الأرض، في الجهة التي كنت أتوجه منها صاعداً في إحدى طرقات مدينتي، نحو الحي الذي كان به بيت أهلي. كان عنوان الكتاب يشير إلى أيام كانت، ولا يتحدث في ما تقوله صيغته عن زمن آتٍ، لكن تلك العبارة اخترقت كياني، بسحر قدرتها على الإيحاء ، إلا وكأنها تعنيني أنا وتعني مستقبل أيامي. رغم أنني لم أكن أحس في أي مرحلة من صباي وطفولتي بأي وقع للزمان على مساري، وكنت أضحك من تشبيهه بالسيف فلا يعتصم بالسيف إلا عدوٌ أو جبانٌ، كان ذلك حِينَ بياضٍ، وقبل أن تتسارع الألوان إلى صبغ وجه حياتي، فيشتد حنيني إلى ما كانت عليه من نقاءٍ، أيام طُهْري وبراءاتي. مازلتُ لم أنسَ مِمَّا مضَى أو فات عن عابرٍ محمومْ كانت له كلماتْ: سارتْ مع النسيان أوهاماً صارتْ مع الأيامِ كالأحلام شدَّت بفتنتها بلُبِّ مَجنونٍ مارٍّ ب «باب العين» تبدو له رغبات ْ خابت،وظَلَّ لَهُ منها على صفحاتْ بِيضٍ يُحدّْثُهُ بالحلم عصرٌ آت يا ممعناُ في الحلمِ ،هل تصحو؟ يا مُطمع الاًهام في ذاتي فلْتنْأَ عنْ دُنياي ً، لا تأتِ؟