في السياق الدولي،يعتبر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أن طبيعة المجتمع الدولي، والتطورات المتسارعة التي حولته إلى عامل أساسي ُمتحكم في التوجه العام للسياسات الوطنية، لا ُيمكن تجاهل تأثيره على أوضاع بلادنا، وتموقع حزبنا في المشهد السياسي. فانتقال المجتمع الدولي من مجتمع تنافسي إلى غاية إرساء دعائم نظام العولمة (المحور الأول)، أدى إلى تشابك وترابط التحديات العالمية التي علينا واجب الوعي بها، قصد الاسترشاد بخلاصاتها في وضع استراتيجيتنا الحزبية بشكل يستحضر هيمنة الرأسمالية المتوحشة، وتنامي الحركات المحافظة والمتطرفة، وتأقلم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية مع هذه الأوضاع من خلال مراجعة استراتيجية عملها (المحور الثاني). المحور الأول: نظام المجتمع الدولي بين التنافس والهيمنة شهد المجتمع الدولي جملة من التطورات والمستجدات المتسارعة التي انعكست، بشكل جلي، على طبيعة التأثير الذي يُمارسه، إذ أصبح يتخذ أشكالا وصيغا جديدة لم تكن قائمة من قبل. فقد زال الاستقطاب الثنائي المقترن بمجتمعات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وزالت معه الانعكاسات التي تتجلى بشكل ظاهري متخذة، في الغالب الأعم، أشكالا مباشرة. وهكذا، ولى زمن التدخلات العسكرية المباشرة للدول العظمى المتصارعة من أجل تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ تابعة تُستغل لأغراض سياسية واقتصادية وينزع عنها أي تميز أو خصوصية. ومن ثمة، اندمج العالم ضمن كتلتين كبيرتين متباينتين لم يخفف من تجاذباتهما وجود كتلة لعدم الانحياز ما دام أن الصراع في جوهره أفرز نوعا من الانحياز لطرف أو لآخر. لقد كانت الإيديولوجيا، بالمعنى المداول في منظومة الاستقطاب الثنائي، وسيلة لتعميم وترسيخ القيم سواء على صعيد المجتمع برمته أو على صعيد الأفراد مباشرة. ونتجت عن ذلك وضعية كارثية بكل المقاييس بحكم استناد الاختلاف أو التميز إلى منطقين، اعتبارا لفترة طويلة، متناقضين: – منطق فكري يستلهم أسسه ورؤيته من فلسفة الأنوار وما خلفته من تراكمات سياسية وثقافية، ترتكز على مجموعة من المفاهيم الرئيسية من قبيل: الحقوق والحريات والديمقراطية؛ – منطق فكري يستقي منطلقاته وتصوراته من الفلسفة المادية التاريخية التي تعتمد التمكين الاقتصادي بوصفه الأساس الذي لا محيد عنه في السعي إلى بناء مجتمع بديل. وفي ظل الاستقطاب الثنائي،كان طبيعيا أن تتأثر المجتمعات الوطنية بتداعيات هذه الصيرورة بحكم كونها مجتمعات "مغلقة" تخضع للتنميط بأشكال متعددة لعل أهمها شكلان متباينان: إما عبر التدخل العسكري المباشر المفضي إلى الانقلابات والاغتيالات ودعم الحركات الانفصالية وفرض الحصار، وإما عبر التدخلات غير المباشرة المعتمدة على المساعدات الاقتصادية (مساعدات مشروطة، وإعانات موجهة…) التي كان لها دور حاسم في رهن اقتصاديات البلدان المستفيدة عبر إملاء سياسات تتحكم فيها المؤسسات الدولية المالية أو رؤوس الأموال الوطنية الكبرى.وعلى هذا الأساس، أصبحت المجتمعات الوطنية رهينة بتموقعها داخل المجتمع الدولي القائم على آلية الاستقطاب التي أضحت التنظيمات المجتمعية نفسها خاضعة لها. فبعد أن كانت الأحزاب السياسية إما رأسمالية أو ليبرالية، وإما اشتراكية أو شيوعية، خضعت لتصنيف آخر طفا إلى السطح ترجمته مصطلحات ومفاهيم مختزلة للتوجهات إما في المحافظين والتقدميين، 4 وإما في اليمين واليسار. ولم تسمح حدة الصراع الدولي بفتح المجال للحلول الوسطى إلا عندما بدأ هو ذاته في التحول من منطق الصراع إلى منطق التعايش السلمي، وبعد ذلك إلى منطق الوفاق الدولي. وتبعا لذلك، تراجعت حدة الاستقطاب بشكل تدريجي فاسحة المجال لظهور تيارات وسطية انبثقت عنها تركيبات تختلف طبيعتها باختلاف درجة ميلها إلى أحد النمطين التاليين: – نمط الديمقراطية السياسية الذي يتأسس على آلية التمثيل التي تعد تفويضا في المجتمع لتنظيماته المجتمعية التي يختارها لتنفيذ برامجها، ولمنح الدولة دورا محصورا في "الحراسة" تاركة ما تبقى لآليات السوق الكفيلة لوحدها بتنظيم الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية المختلفة؛ – نمط الديمقراطية الاجتماعية الذي يتوجه بشكل مسبق إلى جعل الدولة في خدمة فئات المجتمع الهشة عبر معالجة الاختلالات الناتجة عن آلية السوق والاقتصاد الحر، وذلك لحمايتها من الإقصاء والفقر وإدماجها في منظومة الإنتاج مع ضمان عيشها الكريم، ليصبح مبدأ التمثيل وكالة آمرة ملزمة للتدخل، لا مجرد جهاز للحراسة. إن التغيرات التي طرأت على طبيعة المجتمع الدولي نتيجة الوفاق الدولي لم تكن تفيد أبدا نهاية الصراع أو الاستقطاب الثنائي، بل تعني فقط تغيير أدوات تكوين مناطق النفوذ. وهكذا، تعاظم دور الإعلام والدعاية والتضليل والضغط الاقتصادي وربط التعاون الثنائي أو المتعدد الأطراف بمدى الانخراط في المنظومة الرأسمالية العالمية، وخاصة احترام حقوق الإنسان واعتماد الآليات الديمقراطية لفض المنازعات المجتمعية. وكان من تداعيات ذلك بداية انحسار المد الاشتراكي الذي لم يعد قادرا على مواكبة هذه الآليات الجديدة إذ حولته من منطق المواجهة والهجوم إلى منطق التراجع والدفاع. ومن ثمة، أرهقه سباق التسلح ليسقط عند أول امتحان يتعلق بتطبيق سياسة الشفافية والانفتاح، مما أدى إلى تبلور مفاهيم مغايرة أخذت بعدا عالميا وشكلت مادة خصبة للإعلام والتحاليل والنظريات، لعل أبرزها الحديث عن "نهاية الإيديولوجيا" و"نهاية التاريخ". في هذا السياق، شهد المجتمع الدولي، ومعه المجتمعات الوطنية، تطورات عميقة مطبوعة بالبحث عن توازنات أخرى تحل محل الاستقطاب الثنائي حيث برز التنظير لاحتمالات كثيرة من قبيل العودة إلى نظام التعددية القطبية. وانبثق هذا التوجه بفعل المؤشرات المتنوعة التي تمثلت أساسا في توسع دور القارة الأوروبية وتنامي الدور الاقتصادي للصين وللمنطقة الآسيوية بوصفها رهانات ممكنة لمواجهة الهيمنة الأمريكية. غير أن العالم سيستسلم، في ما بعد، لواقع جديد كانت معالمه تترسخ أكثر فأكثر لتكتمل صورته على شكل عولمة اقتصادية تعم كل الاقتصاديات الوطنية مشكلة بذلك نظاما عالميا جديدا. المحور الثاني: في مواجهة تحديات الانعكاسات الكبرى لنظام العولمة إن نظام العولمة بما فرضه من آليات وأساليب جديدة للتعامل قد أحدث تغييرا جذريا في طبيعة التحديات التي ينبغي مواجهتها. فالأمر أصبح يتعلق بتحديات أعقد مماكانت مطروحة سابقا. فالتحديات ذات البعد الجغرافي أصبحت متجاوزة باعتبار أن أي تحد قطري أو إقليمي/جهوي أو حتى قاري أصبح غير معزول عن التحديات العالمية، ويصعب فصله عنها.كما أن طبيعة التحديات لم تعد أحادية بشكل يسهل الإحاطة بها. لقد أصبحت التحديات بدورها ذات بعد عالمي، معقدة ومتشابكة لا يُمكن معالجة جزء منها دون استحضار الأجزاء الباقية، بل لا يُمكن محاصرة جزء منها إلا بالعمل على الحد من دور التحديات الأخرى. فهل يُمكن معالجة التحديات البيئة والمناخية دون استحضار البعد التنموي؟ وهل يُمكن مواجهة الإرهاب دون استحضار مختلف تأثيرات الهجرة المرتبطة بدورها بعامل التحدي الديُمغرافي، المؤثر في البعد التنموي ودون استحضار آثار الثورة التكنولوجية التي غيرت من طبيعة القيم المساندة وحولتهامن طبيعتها الكونية إلى خصوصيات تبرز على الصعيد الاجتماعي والديني والثقافي …؟ وتبعا لذلك، أصبح المجتمع، بغض النظر عن طبيعته الدولية أو الوطنية، رهينة عوامل لم يعُد قادرا على التحكم فيها لوحده، ولم تعد السياسات الحمائية قادرة على إغلاق الحدود التي تحولت لحدود وهمية ما دام الإعلام الرقمي لوحده قادرا على اختراقها حاملا معه كل أشكال الاختراقات الأخرى الاقتصادية (التجارية، المالية، …)، الثقافية، الاستهلاكية، الدينية … فلا أحد الآن، بما في ذلك الدول نفسها، قادر على الحديث عن الاستقلالية والخصوصية إلا بقدرته على فرض التعامل معها. وإذا كان من غير اللازم معالجة كل التحديات العالمية، فإنه من اللازم على الأقل استحضار المظاهر الصارخة التي أصبحت جوهر السياسات الدولية لكل كيان قطري. إن الأمر يستوجب الإشارة إلى التبادل الحر، والإرهاب بمختلف أنواعه، والهجرة والثورة التكنولوجية الرقمية، والمسألة الدينية والثقافية، والتحدي البيئي والمناخي، والانفجار الديُمغرافي، ومخلفات مرحلة الاستقطاب الثنائي والحرب الباردة، والأمن الغذائي، والاحتكارات الكبرى، … وهي تحديات يصعب تأطيرها كلها دفعة واحدة بقدر ما يصعب عزل بعضها عن البعض. إن تحويل هذه التحديات إلى أرقام ملموسة وحده الكفيل بإبراز جسامة المهام التي أصبحت على عاتق المجتمع الدولي من زاوية تضامنه، وعلى عاتق المجتمعات الوطنية من زاوية إيجاد موقع ملائم أقل تعرضا للآثار السلبية. وسيظل التحدي الأعظم ما سيكشف عنه المستقبل، إذ يتعين من الآن، وفي أفق 2050، استحضار المعطيات التالية: – 9,7 مليار نسمة؛ – ارتفاع نسبة التبادل الحر إلى 50 % من الناتج الداخلي العالمي؛ – ارتفاع عائدات العملة الصعبة لتصل مبلغ 700 ألف مليار دولار علما بأن 76 % منها ستستفيد منها دول آسيا والصين أساسا؛ – هيمنة نفس المجموعة على 54 % من القيمة المضافة للخيرات الاقتصادية العالمية؛ – ارتفاع الطلب على الحبوب إلى 44 %، والماء إلى 55 %؛ – ارتفاع تكلفة تأثير النفط، لوحده، على البيئية إلى 5000 مليار دولار سنويا؛ – الآفاق غير المضبوطة لظاهرة الإرهاب. إن الوضعية الحالية، والآفاق المستقبلية، قد أسست، بشكل يبدو أنه لا رجعة فيه، منظومة رأسمالية عالمية تنحو إلى ترسيخ نظرية القطبية الأحادية الأبدية التي لن تسمح بأي خلاف أو اختلاف خارج قيمها إلا بالقدر الذي لا يعيد النظر في أسسها أو يُمس بتوازناتها، ومن هنا أصبحت كل القوى العالمية الحية تعمل لإيجاد الحلول الملائمة الكفيلة بالانعتاق من هذه الهيمنة،كل بمرجعيته وآلياته التي قد تختلف في ما بينها، لكن يجمعها خيط ناظم واحد يتمثل في تحطيم المؤسسات التي ترعى هذه المنظومة، أحيانا بالعنف، وأحيانا أخرى بتفكيكها من الداخل ُمستغلة لذلك كل أشكال التطرف الإثني، والديني، والثقافي. إن الاتحاد الاشتراكي للقوات للشعبية، يستحضر الانعكاسات الثلاثة لنظام العولمة، ويعتبر أن تدقيق المعرفة حولها، مدخل أساسي لوضع الأسس السياسية والتنظيمية التي ستؤطر مرحلة ما بعد المؤتمر الوطني العاشر. ويتعلق الأمر بهيمنة الليبرالية المتوحشة، وتنامي الحركات المحافظةوالمتطرفة، وتأقلم الاشتراكية الديمقراطية. أولا: هيمنة الليبرالية المتوحشة تتمثل السمة البارزة للانعكاسات المترتبة عن نظام العولمة في إعادة النقاش من جديد حول ماهية الدولة ومؤسساتها، والمهام المرتبطة بها قصد إعادة ترتيب الأوراق والأدوار. ولعل أهم ما يثير الانتباه هو أن نظام العولمة باعتماده مبدأ النمذجة، الهادف إلى توحيد القيم، قد تلقى أهم رد من قبل القوى المحافظة التي لم تجد من مستقبل تحل فيها الإشكاليات الحالية إلا بالرجوع إلى أنظمة تاريخية ماضية، فأصبح التيار المحافظ يكتسح المجال تدريجيا وبشكل متسارع. إن أول ردة فعل قد جاءت من الليبرالية نفسها التي لم تعد مقتنعة بالاتجاه الجديد لتطورها، فالمسحة الاجتماعية التي فرضها الفكر الاشتراكي وانعكاسات مختلف الأزمات الاقتصادية الدولية، أصبحت تقلص من هامش الربح وتعمق من تدخل الدولة المتحولة من دولة "حارسة" إلى دولة "منقذة"، فكشفت عن توجهها المبني على الماضي لتقييم صرح الليبرالية المتوحشة لا تستحضر (ولا يهمها) توسيع، الفقر والهشاشة ليس داخل مجتمعاتها فقط، بل أيضا، وأساسا في كل المجتمعات الوطنية الأخرى عبر العلاقات الصناعية التجارية والمالية والثقافية والمتعددة ا أطراف. فانتشر الفكر المحافظ، الماضوي، معبرا عن نفسه بأشكال مختلفة في موجة عارمة همت الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول أوروبا الغربية الرئيسية. أمام هذا التوجه الجديد، وجدت كل التيارات المحافظة الفرصة سانحة للتعبير عن ذاتها، فمحاولة فرض قيم كونية مواكبة لنظام العولمة، فتحت المجال لمختلف أشكال التعبير الماضوي في كل المجتمعات الوطنية، تارة تحت ستار ديني، وتارة تحت ستار ثقافي أو حتى إثني .. وكان لمختلف بقاع العالم نصيب من ذلك. إلا أن هذا الوجه الجديد، كانت تحكمه قواعد محددة مسبقا، فطبيعة الدولة تفرض ترسيخ دور الدولة ومختلف مؤسساتها، وتطويعها لخدمة أهدافها، ولم تبرز معالم تحطيمها أو تفكيكها من الداخل إلا تطبيقات مشوهة تحتمي تحت شعار "خصوصية". ثانيا: تنامي الحركات المحافظة والمتطرفة إن التحليل الذي سقناه أعلاه يتوضح بشكل جلي حينما نطبقه على أي مجتمع وطني أو مجموع مجتمعات تجمعها روابط مشتركة. ولعل العالم العربي أو الإسلامي نموذج معبر في هذا الصدد. لقد تنامت القوى المحافظة تحت ستار ديني، مستعملة في ذلك هامش الحرية المتاح لها، أو الذي تمت إتاحته لها، لتنظيم نفسها في حركات تصبو لأن تكون عالمية، ومستندة في ذلك على أمجاد تاريخية تهدف إلى بعثها من جديد، وبكل الوسائل الممكنة. وهكذا، تطورت هذه القوى من حركات صغيرة معزولة تعمل على هامش مؤسسات الدولة الرسمية تستقطب من كل الفئات المجتمعية، مستغلة عوامل الجهل والفقر والحاجة، لتقيم شبكة من العلاقات المبنية على سد حاجيات الأفراد الظرفية بوسائل ظرفية، فانتشر البر والإحسان حتى غدت كل الشرائح الهشة داخل المجتمع مرتبطة بها، وشكلت لنفسها قاعدة انتخابية مكنتها من استغلال الآلية الديمقراطية للوصول لمؤسسات الدولة. إن هذه الظاهرة التي لوحظت في مجموعة من المجتمعات كانت تمشي بالموازاة مع حركات دينية أخرى تعتبر العنف (الذي تسميه جهادا) الوسيلة الأقصى لاحتلال الدولة بمفهومها المعاصر، وإقامة دولة من نمط آخر على أنقاضها. وهكذا، التقى التوجهان في هدف واحد: تغيير طبيعة الدولة، أحدهما يسلك الطريق المتوسط والبعيد المدى بالخروج من العمل الدعوي والخيري إلى العمل السياسي بكل ما يتطلبه ذلك منهم من تنظيمات حزبية ونقابية ومدنية، والآخر يسلك ما يعتبر فاعلا، وذو نتائج سريعة بما يتطلبه أيضا منهم من عنف وإرهاب وتجييش. وفي كلتا الحالتين يتم استغلال الفئات الهشة كمجال للاستقطاب محاطة بالترغيب من جهة والترهيب من جهة أخرى. وعند الوصول إلى الهدف، سيان آنذاك بين تحطيم الدولة أو تفكيك مؤسساتها ما دام أن طبيعة الدولة البديل واضحة المعالم. ثالثا: تأقلم الاشتراكية الديمقراطية لقد شكل انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين محطة مفصلية لإعادة النقاش حول الفكر اليساري بصفة عامة، والفكر الاشتراكي بصفة خاصة. ولم تكن المراجعات الفكرية وليدة تلك اللحظة، بل كانت إرهاصاتها تشق طريقها تدريجيا نتيجة الخلافات الفكرية والسياسية التي رافقت الكتابات الأساسية حول المادية التاريخية والاشتراكية العلمية. إلا أن إقامة دولة الاتحاد السوفياتي ولاحقا الكتلة الأوروبية الشرقية، وانتشار الفكر الماوي، واعتماد نظام الحزب الوحيد، وتزايد دول العالم الثالث المرتبطة بهذه التوجهات، جعل الهجمة الرأسمالية الغربية تشتد، فكان من الطبيعي آنذاك تأجيل النقاش الفكري الذي حاولت بعض الكتابات إثارته (نموذج: غرامشي، روزا لوكسمبورغ، نيكو بولنتزاس، …) والتمسك بدوغمائية المنظرين الأوائل (خاصة منهم كارل ماركس، فريدريك إنجلز، لينين، وماو تسيتونغ). إلا أن هذا لم يمنع الحركات اليسارية داخل الأنظمة الديمُقراطية على النمط الغربي من الشروع في التأقلم مع أنظمتها الوطنية، وقد كان للأوروشيوعية، والاشتراكية الديمقراطية، دور طلائعي في هذا الصدد. وقد وضعت هذه التوجهات معالم فكر يساري جديد يتمثل أساسا في إعادة النظر في دور الدولة التي تجاهلتها الاشتراكية العلمية واعتبرتها مرحلة زائلة. لذا، فإن ضرورات الاندماج فرضت عليها العمل – على الأقل – على تغيير طبيعة الدولة وإعادة النظر في مضمون الديمقراطية. وهكذا، ظهرت التوجهات التي تعتبر أن الدولة واقع ينبغي العمل، ليس على تحطيمه، ولكن على تحويل دوره من خلال التقليل من حيادها المزعوم إلى لعب دور تحفيزي لصالح الفئات الأكثر تضررا داخل المجتمع، وبشكل تصبح معه الديمقراطية ذات مضمون اجتماعي وليس فقط سياسي. وهكذا، بدأ النظام الليبرالي يكتسب شرعيات جديدة تمثلت في الاحتفاظ بالدور المركزي للفرد، مع إضفاء مسحة اجتماعية على تدخلاتها. وهنا تبرز مكانة الاشتراكية الديمقراطية. إن أهم المراجعات التي تمت في هذا الصدد، تتمثل في نبذ "العنف الثوري" لفتح المجال للتنافس السياسي السلمي معتمدة في ذلك على الوقوف إلى جانب مطالب القوى الضعيفة داخل المجتمع، والتي ظلت لفترة طويلة تحت طائلة الاستغلال البشع لرأس المال الذي كانت الدولة تحميه باعتبارها "حارسة" فقط. لقد أدت هذه الإرهاصات إلى ظهور فكر وممارسة مستقلين عن كل من التجربة السوفياتية والصينية، لذلك فإن سقوط الأنظمة الاشتراكية منحها مصداقية أكبر، وأصبحت نموذجا يحتذى به على صعيد الدول السائرة في طريق النمو. إن نظام العولمة فرض من جديد على الاشتراكية الديمقراطية أن تجد لها مكانة متميزة تحفظ لها خصوصياتها. فتحقيق المزيد من المكاسب الاجتماعية، رهين بتوسيع هامش الربح لدى المقاولات، وهو الأسلوب الذي لا يمكن أن يتم إلا بعولمة رأي المال وإزالة الحواجز الحمائية الوطنية، وبالتالي فإن موقع الاشتراكية الديمقراطية سيكون موضوعيا إلى جانب القوى الرأسمالية. لقد أدى هذا التوجه إلى انحراف الفئات الضعيفة داخل المجتمع عن الاشتراكية الديمقراطية، متوجهة ومدعمة للقوى المحافظة التي أصبحت تتوسع تحت شعار الانغلاق المطلق بسياسات حمائية من جهة، وبتحميل المسؤولية للمهاجرين الذين يستهلكون الجزء الأعظم من المساعدات الاجتماعية. وعندما يتقلص عدد دول الاتحاد الأوروبي المسيرة من قبل اليسار من 13 دولة من أصل 15 دولة سنة 2007 إلى 6 دول من أصل 27 دولة، فإن ذلك يعبر بوضوح عن الخلل الذي وقع في تموقع اليسار ضمن نظام العولمة، ما دام أن اليمين الأوروبي هو الذي أصبح المهيمن. فأي مراجعة جديدة تعيد للاشتراكية الديمقراطية موقعها السابق؟ إن الظرفية الحالية، المتميزة بالنزعة نحو الليبرالية المتوحشة التي تقضي على أي تدخل للدولة، ينبغي أن تكون فرصة للدفاع عن دول الدولة في تحسين ظروف معيشة الفئات الأكثر تضررا داخل المجتمع بإقامة التوازن اللازم بين هذا التوجه، وبين دعم المقاولات المحققة للنمو. إن هذا التوازن المنشود لا يُمكن أن يتم بالتدخل المباشر للدولة فقط، وإنما بوضع الاستراتيجيات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف. وهكذا سيجد الاشتراكيون الديمقراطيون أنفسهم يدافعون عن الدولة ترومبلان اللازمة لتخفيف من آثار العولمة. وإذا كان هذا التوجه وما يترتب عنه من آثار اجتماعية مناقضا تماما للتوجهات الليبرالية الجديدة/المتوحشة، فإنه مجال مشترك مع التوجهات الليبرالية/التقدمية التي لا تنازع في هذا التوجه، بما يفتحه ذلك من إمكانيات للتوافق معها في تدبير الشأن العام بقطع الطريق على تجذرالحركات المحافظة/الشعبوية. إن الدفاع عن دور الدولة، وإدخال البعد البيئي واعتماد خطاب جديد في موضوع الهجرة ونقد نظرية الاستهلاك ومنح القيم مدلولات واضحة (المساواة، العدالة، التقدم …) أسس قادرة على خلق تميز جديد وإرجاع الاشتراكية الديمقراطية إلى المكانة التي بدأت تفقدها، وهنا ستتضح معالم هوية الاشتراكية الديمقراطية ضمن منظومة اليسار والقوى التقدمية. الوضع الوطني وتوجهاتنا السياسية إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بتاريخه النضالي الوازن، لا يُُكنه، في المؤتمر الوطني العاشر، إلا أن يستحضر الأسئلة الكبرى التي كانت مطروحة عليها، والإجابات التي قدمها من خلال المؤتمرات الوطنية السابقة، مع تحليل الوضع السياسي الراهن، واستشراف الآفاق المستقبلية التي علينا تحضير أنفسنا لها (المحور الأول). إلا أن هذه الخلاصات التي سنصل إليها، ينبغي أن تكون أساسا صلبا لتحديد معالم استراتيجية عملنا المستقبلي (المحور الثاني)، وإيجاد التأطير السياسي الملائم لبرامجنا (المحور الثالث). المحور الأول: الاتحاد الاشتراكي: سياقات الماضي والحاضر وأسئلة المستقبل أولا: الاتحاد الاشتراكي بين المسار السياسي والوضع التنظيمي لقد تم تأسيس الاتحاد في يناير 1959، استجابة لسياقات داخلية ودولية، كان لها الأثر البالغ في بلورة الحركة الاتحادية والتحكم في صيرورتها التي أضفت على المشهد الحزبي بالبلاد عناصر التعددية السياسية والحزبية، وفي المحافظة على تميزها. وإذا كانت الانطلاقة قد اتسمت بطابع ديُقراطي قاعدي موسوم بهيمنة حركة المقاومة وجيش التحرير، وممثلين عن الطبقة العاملة (الاتحاد المغربي للشغل)، وحضور وازن للنُخب المثقفة، فإنها جعلت من الحزب رقما أساسيا في كل المعادلات السياسية. كما شكلت هذه الانطلاقة لحظة للقطع مع الغموض الإيديولوجي الذي لم يستطع الإجابة عن أسئلة المرحلة طيلة المدة الممتدة من 1955 إلى 1959، وفي نفس الوقت كان من الضروري تأطير كل الإجراءات الكبرى التي قام بها الحزب من خلال قيادته لتدبير الشأن العام والمتمثلة في تحرير الاقتصاد الوطني ووضع لبناته الأولى من خلال هيكلة الأوراش الكبرى. إن عملية الحسم الإيديولوجي، استغرقت الوقت اللازم، نتيجة التأثيرات المتعددة آنذاك، والتي اختلطت فيها الاشتراكية العلمية والتوجهات القومية والاختيارات النقابوية المحايدة وضرورات الوقوف إلى جانب حركات التحرر في أبعادها المناهضة للاستعمار. فخلال المؤتمر الوطني الثاني (1962) لم يتمكن الحزب من الحسم في موضوع الهوية الإيديولوجية نتيجة عدم اعتماد وثيقة «الاختيار الثوري»، وانشغل الحزب في دوامة الصراع مع الدولة، ليُؤدي ضريبة القمع التي دامت لسنين طويلة. لقد انعكست هذه الظروف القاسية على طبيعة اهتمامات الحزب، والتي رجحت جانب الاهتمام التنظيمي على جانب الاهتمام الفكري/الإيديولوجي، وذلك استنادا إلى وثيقة المذكرة التنظيمية التي كانت تستهدف إرساء قواعد تنظيم ثوري على نمط المركزية الديُقراطية (1965)، وهو ما أدى -من بين ما أدى إليه- إلى قيام الحركة التصحيحية لسنة 1972 . وقد شكل هذا المنعطف، متنفسا مكن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من البحث عن دروب جديدة، تُعالج آثار مرحلة اتسمت بتوجه ثوري عشوائي، وتحسم بشكل نهائي في آليات العمل. فكان المؤتمر الاستثنائي (1975) محطة مفصلية بامتياز من خلال التركيز على الخط الإيديولوجي، بما يفرضه ذلك من وضوح في العمل ووحدة في الأهداف واعتماد الاختيار الديُقراطي واستراتيجية الإصلاح، كما توضحت الرؤية بشكل أفضل من خلال ترسيخ مبدأ وحدة الحزب ووحدة التوجيه. إن الخلاصة الرئيسية للمرحلة الممتدة من التأسيس (1959) إلى مرحلة إعادة البناء (1975/1972)، تكمن في أنه رغم الاختلال الذي قد يظهر في علاقة التنظيم بالتوجيه، فإن الخطاب السياسي الواضح، والآلة الإعلامية الجيدة، كفيلتان بربط مختلف الفئات الشعبية بالحزب، انتماءً وتعاطفا، وبالشكل الذي يجعل منه أداة لتحقيق مطامحها. وهو عامل تمت الاستفادة منه في المحطات الموالية، بل إنه لا يزال قادرا لحد الساعة على فرض تميز الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ضمن المنظومة السياسية بصفة عامة، والحزبية بصفة خاصة. لقد حاولت المؤتم رات الوطنية اللاحقة معالجة إشكالات جزئية، باعتبار أن التقرير الإيديولوجي للمؤتمر الوطني الاستثنائي بقي هو الموجه الرئيسي، والمؤطر للممارسة الاتحادية طيلة العقود الموالية. فالمؤتمر الوطني الثالث (1978) عمل على معالجة الخط السياسي وتوجيهه نحو الراديكالية. كما عمل المؤتمر الوطني الرابع (1984)على إعادة الاعتبار للاجتهاد الفكري عبر وثيقة «أزمة المجتمع وأزمة الديُقراطية». بينما انصب اهتمام المؤتمر الوطني الخامس (1989) على التأقلم مع الواقع الجديد الناشئ عن اقتحام الحركة النقابية حلبة الصراع الحزبي الداخلي. أما المؤتمر الوطني السادس (2001) فقد انعقد والحزب يعيش مرحلة انتقالية نتيجة تغير موقعه من المعارضة إلى قيادة تدبير الشأن العام في إطار حكومة التناوب التوافقي، مما حول النقاش إلى مسألة الانخراط في تحقيق المشروع الاتحادي من داخل الدولة بعد أن تبين عجزه عن القيام بذلك من خارجها. كما أن المؤتمر الوطني السابع (2005) لم يستطع الحسم في أزمة تقاطع السياسي والتنظيمي. إن هذه المحطات، أبانت مرة أخرى، على أنه إلى غاية هذا التاريخ، لم يفقد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مكانته داخل المجتمع رغم عدم وضوح خطابه السياسي انطلاقا من تدبيره للشأن العام، وانخفاض تأثير إعلامه الحزبي، وتكالب قوى مختلفة ومتنوعة ضد مشروعه الإصلاحي. إن مكانة الحزب المجتمعية، تجذرت هذه المرة، ليس على أساس الخطاب السياسي، ولكن على أساس الممارسة السياسية بما فتحه الحزب من أوراش واعدة للمضي بالبلاد إلى جهة التقدم. وقد لعب النقاش السياسي آنذاك حول الجدوى من الاستمرار في العمل الحكومي بعد بيان «الخروج عن المنهجية الديُقراطية» دورا سلبيا نتيجة الغموض الذي بدأ يدب في أوساط الحزب، بل والتباين في الآراء وعدم القدرة على تجديد المشروع السياسي، فكانت بداية تفكك الالتفاف الشعبي الذي أحدث رجة داخل الحزب على إثر استحقاقات 2007 . ورغم آثار هذه الرجة، فإن المؤتمر الوطني الثامن (2008) في شوطه الأول لم يستطع حل هذه الإشكاليات، ولم يتم إيجاد مخرج إلا بالتوافق على أرضية سياسية وبيان عام في الشوط الثاني من هذا المؤتمر. ولعل أهم خلاصة لهذه المرحلة، هي أن الحزب لم يعد مطالبا بإيجاد أجوبة فقط على القضايا التنظيمية والسياسية، بل أيضا المجتمعية، قصد البحث عن وسائل عودة الارتباط بالمجتمع. فالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لم يعد شأنا حزبيا داخليا فقط، بل أيضا شأنا مجتمعيا يحق لمختلف فئاته الإدلاء برأيها في شؤونه قصد إعادة زخم «القوات الشعبية» إلى «الاتحاد الاشتراكي». واستنادا على هذا التوجه العام لمؤتمراتنا الوطنية، والمتمثل أساسا في المكاشفة الصريحة بين وجهات النظر الحزبية المتباينة، بدأنا نؤدي الثمن غاليا، مما دفعنا إلى إعادة النظر في صيرورة عقد مؤتمراتنا وبشكل يقطع مع الممارسات من خلال إعادة الاعتبار للنقاش الفكري، والتنافس بين الأطروحات السياسية. ومن ثمة، شكل المؤتمر الوطني التاسع (دجنبر 2012) محطة نوعية جديدة، ساعدت على فتح مسالك فكرية وعملية قادرة على خلق دينامية تتجاوز الأشخاص وتجاربهم الذاتية الشخصية، إلى ما هو أرقى بالتعبير عن أطروحات موضوعية، تضع نصب أعينها صياغة برامج مُتعددة الأبعاد (فكرية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، مُجتمعية…) تلتف حولها الاتحاديات والاتحاديون لتكون وسيلتهم لاس ترجاع ثقة المجتمع في حزبهم. لذا، شكلت الأرضية السياسية التي نالت ثقة أغلبية المؤتمرات والمؤتمرين، وثيقة عمل توجيهية لا يزال مضمونها محافظا على جوهره، بل ويُُكن جعله، في إطار خلق التراكم الإيجابي، منطلقا ملائما لمشروع أرضية للمؤتمر الوطني العاشر. ثانيا: الاتحاد الاشتراكي والوضع الراهن يُواجه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اليوم أسئلة من نوع جديد، ولا يهم إن كان بعضها أسئلة قديُة، ما دام أن تغير الظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، جعلها تأخذ أشكالا جديدة، وتحتاج إلى أجوبة جديدة. إن هذه الأسئلة تحتاج إلى أجوبة لا ينبغي فقط التوافق حولها، بل تعميق النقاش قصد الوصول إلى قناعات مُشتركة تُشكل عاملا أساسيا لوحدة الحزب وتنظيماته وخطابه. إن جل التحاليل الرائجة، تكاد تُجمع على أن أحد الأسباب الرئيسية التي أثرت في الخط التصاعدي للقاعدة الشعبية للحزب تكمن في تخلي الطبقة الوسطى، بما لها من تأثير واسع في المجتمع، عن المشروع الاتحادي. فهذه الطبقة بالذات، هي التي كانت حاملة لمشروع التغيير، والمدافعة عن قيم الحداثة والتنوير، وهي التي غيرت تموقعها السياسي، مُحدثة بذلك تغيرا جوهريا في القاعدة الشعبية التي حولتها لصالح الأح زاب المحافظة أساسا. وإذا كان هذا التوجه قد أخذا بُعدا عالميا، فإن تفسيره ببلادنا، يحتاج إلى الإجابة عن سؤال أعمق. لقد كانت هذه الطبقة، وبامتدادها المجتمعي، مصدر ق وتنا، ومكنتنا -ضمن عوامل أخرى- من قيادة حكومة التناوب التوافقي، لذا، فإن الحاجة أصبحت الآن ملحة إلى تقييم تجربة هذه الحكومة من زاوية المكتسبات -أو التقصير- التي طبعت ممارستها. ويستلزم الأمر طرح تساؤلات أوضح لتفسير ما وقع: ألم نكن في مستوى تطلعات الطبقة الوسطى، ومعها الفئات الشعبية، المتضررة آنذاك من الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي وجدنا عليه البلاد؟ ألم تكن تدخلاتنا القطاعية ناجعة بشكل يجعل هذه الفئات تجني ثمار المشاريع الكبرى التي كنا وراءها؟ ألم ننجح في إطلاق دينامية كبرى بالبلاد على المستوى الحقوقي والمجتمعي وإعادة هيكلة التوازنات الاقتصادية والمالية لجعلها متلائمة مع التوازنات الاجتماعية اللازمة؟ أسئلة كثيرة ومتنوعة لم نُجب عنها في حينه، وتركنا الباب مفتوحا للقوى المضادة من أحزاب وإعلام ووسائط اجتماعية لتوجيه الرأي العام نحو أجوبة محددة، وتفرغنا لإدارة أزماتنا الداخلية بمعزل عن الفئات التي كانت خير سند لنا. إن المطلوب منا الآن هو العمل على تجاوز هذه المفارقة الغريبة في الحياة السياسية حيث يُُكن بسهولة تحويل «الانتصارات» إلى «هزائم»، ومجازاة المكتسبات بالتصويت السلبي، أو حتى العزوف السياسي والحزبي في أحسن الحالات، بل والهجرة إلى تنظيمات حزبية أخرى كان الاعتقاد سائدا (ولا يزال) أنها قادرة على الاستجابة لتطلعاتها بشكل أفضل. لقد بينت الأحداث لاحقا، فشل مشروعين أُريد لهما تأطير الحياة السياسية بالبلاد. فمن جهة أولى فشل المشروع الحزبي «الكبير» القادر على الحلول محل حزبنا، ومن جهة ثانية فشل المشروع الحزبي المحافظ في تطبيق سياسة اقتصادية واجتماعية ناجعة إلا على حساب الطبقة الوسطى نفسها، ومعها الشرائح الاجتماعية الهشة، التي تزداد وضعيتها سوءً. لكل هذا، يحق لنا، ألا نجعل من محطة حكومة التناوب التوافقي قدرا محتوما، نتحمل تبعاته في كل محطة سياسية أو استحقاق انتخابي. وبنفس المنطق، شكل خروجنا للمعارضة، فرصة تاريخية كان معولا على أن تُعيد لنا مكانتنا المجتمعية، لولا تظافر نفس العوامل السابقة، التي جعلت منا معارضة برلمانية ذات مصداقية، دون أن يُُكننا ذلك من التحول إلى معارضة مجتمعية إلا مع بداية انخراطنا في المعارك المجتمعية الكبرى، خاصة على صعيد الفئات التي تضررت من سياسة الحكومة المحافظة. وهو طريق ما زال أمامنا الكثير مما يُُكن أن نقوم به. لقد أصبح لزاما علينا، أن نعي أن السؤال الأعمق أصبحت معالمه واضحة جدا ولا يُُكن التغاضي عنها، يفرض علينا مصارحة الذات والمجتمع. فالتطور التاريخي أبان أن توسعنا الجماهيري مرتبط أساسا بموقعنا ضمن المنظومة السياسية، ولم يعُد أمامنا إلا تحديد هذا الموقع بالدقة اللازمة. لقد كنا «جماهيريين» فعلا عندما كنا على يسار الدولة، لكن إدارتنا للشأن العام ومشاركتنا فيه لمدة قاربت 13 سنة، وتلاشي علاقاتنا المجتمعية، وفقدان قلاعنا الانتخابية، وظاهرة الهجرة إلى العمل في هيئات المجتمع المدني، أصبحت تُلزمنا الآن باستمرار الوقوف إلى جانب يسار المجتمع وعدم الاكتفاء بالوقوف معه. ولن يتأتى ذلك إلا برفع سقف مطالبه إلى الحد الأقصى في كل ما يتعلق بظروف العيش الكريم، وإيجاد بدائل تُعيد الأمل من خلال طرح سياسي واضح، تكون معالمه قائمة على تصور متكامل لحل معضلات البطالة والتعليم والصحة والخدمات المرفقية الأساسية. هي ذي الأسئلة التي نحن بصدد، إيجاد الإطار الملائم لها. إلا أن عملنا داخل المشهد السياسي والحزبي، يفرض علينا من ناحية أخرى، منح تحالفاتنا الحزبية المكانة التي تستحقها. فتغير الظروف السياسية والتحولات الاجتماعية التي تعيشها البلاد، تجعل أي حنين إلى الماضي مجرد مضيعة للوقت. وهكذا، فإن الحديث عن الكتلة الديُقراطية، لم يعد له أي معنى نتيجة استنفاذ مهمتها من ناحية وتغير تموقع بعض أطرافها من ناحية أخرى.فالاتحاد الاشتراكي مدعو للقيام بدور الحزب ودور الكتلة الديُقراطية ما دام أن الأطراف الأربعة الأخرى قد اختفت أو أصبح لها موقع آخر اقتضته تقديراتها السياسية. وحتى الحديث عن الكتلة التاريخية أصبح مُتجاوزا بدوره، فكل القوى اليسارية والحداثية والديُوقراطية أصبحت تعيش تشتتا لا يُُكن معه القيام بتجميعها إلا على حساب هدر الزمن السياسي. إننا مدعوون إلى اعتماد معايير جديدة للتحالف، مبنية على التجارب الدولية المقارنة من خلال الص يرورة العامة لتوجهات الأحزاب الاشتراكية الديُقراطية التي لم تجد كما عالجنا أعلاه، أي حرج في التحالف مع القوى الليبرالية الوطنية المناهضة لليبرالية المتوحشة التي تُقلص من هامش تحركها وللقوى المحافظة التي لم تجد من بدائل للمجتمع إلا بالرجوع إلى «أمجاد» تاريخية غير متلائمة بتاتا مع التطور العام نحو ترسيخ دور المؤسسات وتقويتها وممارسة الحقوق والحريات، وباختصار إقامة دولة الحق والقانون والديُقراطية الحقة القائمة على التنافس السياسي بين المشاريع المدنية. وأخيرا، فإن أحد المظاهر المقلقة، الحاضرة على إثر كل استحقاق انتخابي منذ سنة 2007 ، أصبحت تُساءلنا عن أدائنا الانتخابي وعلاقته بوضعيتنا الحزبية وموقعنا داخل المؤسساتالتمثيلية، وخاصة منها، الاستحقاقات المهنية والترابية والتشريعية. لقد وقفت اللجنة الإدارية الوطنية، المنعقدة بتاريخ 12 نوفمبر 2016 على كل حيثيات الموضوع، مُستحضرة في ذلك مختلف التقييمات السابقة التي تمت داخل الحزب. وإذا تجاوزنا بعض الإجابات الجزئية أو الظرفية أو المتعلقة بنتائج معينة، والتي تربط موضوع الأداء الانتخابي بتراجع صورة الحزب، أو بعدم تقديم الحزب للحصيلة الكاملة لحكومة التناوب التوافقي أو على الأقل الحصيلة السياسية لمشاركة الحزب في التدبير الحكومي، أو عدم تفاعل الحزب مع المجتمع في محطات سياسية أساسية (من قبيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ومدونة الأسرة، وأشغال هيئة الإنصاف والمصالحة، والإصلاحات التشريعية الكبرى، والخروج عن المنهجية الديُقراطية، ومشاركتنا الحكومية إلى جانب أحزاب رسخنا لدى الرأي العام كونها أحزاب إدارية…)، فإن الحزب مع ذلك قام منذ خروجه إلى المعارضة بمعالجة جل هذه النواقص والاختلالات بتجديد هياكله وخطابه ومنظوره السياسي ووسائل عمله الانتخابية. غير أن النتائج المحصل عليها، رغم هذه المعالجات، بقيت في نفس حدود ما كنا نحصل عليه من أصوات دون أن يُترجم ذلك على مستوى المقاعد. وهذا ما يُبرز موضوعية العوامل التي جعلتنا -ضمن أحزاب سياسية أخرى- نؤدي ثمن استقطاب حزبي ثنائي جعل استعمال الدين في مواجهة المال وسط عزوف انتخابي مُتصاعد. وعليه، بنى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منظوره للعملية الانتخابية مبني على تصور شمولي للمنظومة الانتخابية ككل، وهو ما سنُعالجه أدناه بتفصيل، دون أن يُنعنا ذلك من القول هنا على أن هذه المنظومة تحتاج إلى إعادة نظر جذرية للتأطير التشريعي والتنظيمي، والإرادة السياسية المصاحبة له، وتوفير إمكانيات التنافس السياسي المتكافئ، والتعبير عن الإرادة الجماعية لمختلف الفرقاء السياسيين في ترسيخ القواعد الديُقراطية. وانطلاقا من كل هذا، فإن إيجاد الأجوبة، لا يُُكن أن يتم بمنطق التبرير، أو حتى بمقارنة النتائج المحصل عليها بنتائج التنظيمات السياسية الأخرى، ما دام أن المنافسة الانتخابية تمت بوسائل غير متكافئة، لم يكن للبرامج الانتخابية أي دور في حسمها. فبقدر ما تحسن أداؤنا الانتخابي، بقدر ما كانت النتائج مخيبة للآمال بشكل يُلقي على عاتقنا ضرورة العمل على التوافق حول شروط التنافس السياسي بما ينزع عن الاستحقاقات التوجه نحو قطبية المال والدين، ويُزيل عن المشهد السياسي ظاهرة التموقع غير المبني على اختيارات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وهنا تكمن مسؤولية الدولة، الضامنة لفرص التكافؤ بين كل الفرقاء السياسيين. المحور الثاني: الاتحاد الاشتراكي ومعالم استراتيجية المستقبل أولا: أي رهانات سياسية؟ ثانيا: أي استراتيجية انتخابية؟ ثالثا: أي شروط لتنافس انتخابي متكافئ؟ رابعا: أي تحالفات حزبية؟ خامسا: أية إدارة ترابية بلادنا؟ أولا: أية رهانات سياسية؟ إن التحولات السياسية والاجتماعية التي تعيشها بلادنا، بكل ما تحمله من انعكاسات، تندرج بصفة عامة ضمن التحولات الكبرى والعميقة التي تعيشها مختلف المجتمعات الوطنية في تفاعلها مع محيطها الإقليمي/الجهوي، والدولي، والذي أصبح متميزا بالتطور السريع الذي لا يسمح باستقرار الظاهرة السياسية لفترة تسمح بالتحليل المعمق والثابت. لقد أصبحت مسألة التحولات تحظى بأهمية متزايدة في أي تحليل يهم الدول أو المجتمعات، باعتبار أنها الأساس الذي يقوم عليه ترتيب الأولويات الظرفية ضمن الاستراتيجية العامة لأي تنظيم سياسي أو نقابي أو جمعوي. وفي هذا السياق، يعتبر الاتحاد الاشتراكي لقوات الشعبية، أن المغرب، من خلال التعددية السياسية والحزبية الحقيقية، قد حقق تراكما مكنه من نهج مشاريع إصلاحية كبرى، كان لنا بوصفنا حزبا معارضا دور أساسي في التوجيه إليها. ولعل ورش الإصلاحات الدست ورية والسياسية خير معبر عن صمودنا وثباتنا على المبدأ، انطلاقا من دستور 1962 وصولا إلى دستور 1996 الذي حقق جزءا من مطالبنا بشكل سهل اعتماد التناوب التوافقي كاستمرارية لتوافقات سياسية كان لها أثر بالغ في الخروج بالمغرب من دائرة المجتمعات المغلقة التي تدور في حلقة مفرغة. ورغم تخلي حلفائنا آنذاك عن المطلب الدستوري، فإننا بادرنا، ولوحدنا، برفع مذكرة تتضمن تصورنا لمراجعة شاملة للدستور (2009)، دون أن تحذونا في ذلك أي حزبية ذاتية ضيقة. وقد شكل الحراك المجتمعي الذي شهدته العديد من الدول العربية، نقطة تحول كبرى، أدت إلى إبراز تطلع الشعوب إلى الديُقراطية، وفتح المجال لصيرورة سياسية ما زالت معالمها لم تكتمل نتيجة المد والج زر الذي تعرفه المنطقة. ولعل السمة البارزة هي التراجع الملحوظ في الأنظمة والمجتمعات التي لا تتوفر على قاعدة حزبية تعددية حقيقية، مقابل التقدم الذي عرفته الأنظمة والمجتمعات الأخرى التي راكمت مكتسبات سياسية وحقوقية، وبالتالي مكتسبات ديُقراطية، كما أبانت عن ذلك تداعيات حركة 20 فبراير في بلادنا. إن الشعارات التي تم رفعها خلال الحراك الاجتماعي في المغرب، رغم طابعها الشبيبي، وانخراط أطياف متعددة حزبيا ونقابيا ومدنيا، لم تستطع تجاوز سقف مطالب الأحزاب الوطنية الديُقراطية. لذا، فإنها كانت بمثابة عامل مُسرع للإصلاحات الدستورية والسياسية، وليس عاملا منشئا لها. فشعار «إسقاط الفساد»، وشعار «الملكية البرلمانية»، ليست إلا تكثيفا لمطالب كان الصراع حولها قد حقق مكاسب جعلت إصلاح النظام مطلب جوهري، وبالتالي لم تكن هناك مكانة لشعار إسقاط النظام كما حدث في مجتمعات أخرى. وهذا ما أضفى على الحراك الوطني طابعا وطنيا بامتياز، سرعان ما تجاوبت معه الدولة بفتح ورش المراجعة الشاملة للدستور، وفق أسس مُتقدمة وآليات عمل جديدة أساسها المقاربة التشاركية. الوضع الوطني وتوجهاتنا السياسية إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بتاريخه النضالي الوازن، لا يُُكنه، في المؤتمر الوطني العاشر، إلا أن يستحضر الأسئلة الكبرى التي كانت مطروحة عليها، والإجابات التي قدمها من خلال المؤتمرات الوطنية السابقة، مع تحليل الوضع السياسي الراهن، واستشراف الآفاق المستقبلية التي علينا تحضير أنفسنا لها (المحور الأول). إلا أن هذه الخلاصات التي سنصل إليها، ينبغي أن تكون أساسا صلبا لتحديد معالم استراتيجية عملنا المستقبلي (المحور الثاني)، وإيجاد التأطير السياسي الملائم لبرامجنا (المحور الثالث). المحور الأول: الاتحاد الاشتراكي: سياقات الماضي والحاضر وأسئلة المستقبل أولا: الاتحاد الاشتراكي بين المسار السياسي والوضع التنظيمي لقد تم تأسيس الاتحاد في يناير 1959، استجابة لسياقات داخلية ودولية، كان لها الأثر البالغ في بلورة الحركة الاتحادية والتحكم في صيرورتها التي أضفت على المشهد الحزبي بالبلاد عناصر التعددية السياسية والحزبية، وفي المحافظة على تميزها. وإذا كانت الانطلاقة قد اتسمت بطابع ديُقراطي قاعدي موسوم بهيمنة حركة المقاومة وجيش التحرير، وممثلين عن الطبقة العاملة (الاتحاد المغربي للشغل)، وحضور وازن للنُخب المثقفة، فإنها جعلت من الحزب رقما أساسيا في كل المعادلات السياسية. كما شكلت هذه الانطلاقة لحظة للقطع مع الغموض الإيديولوجي الذي لم يستطع الإجابة عن أسئلة المرحلة طيلة المدة الممتدة من 1955 إلى 1959، وفي نفس الوقت كان من الضروري تأطير كل الإجراءات الكبرى التي قام بها الحزب من خلال قيادته لتدبير الشأن العام والمتمثلة في تحرير الاقتصاد الوطني ووضع لبناته الأولى من خلال هيكلة الأوراش الكبرى. إن عملية الحسم الإيديولوجي، استغرقت الوقت اللازم، نتيجة التأثيرات المتعددة آنذاك، والتي اختلطت فيها الاشتراكية العلمية والتوجهات القومية والاختيارات النقابوية المحايدة وضرورات الوقوف إلى جانب حركات التحرر في أبعادها المناهضة للاستعمار. فخلال المؤتمر الوطني الثاني (1962) لم يتمكن الحزب من الحسم في موضوع الهوية الإيديولوجية نتيجة عدم اعتماد وثيقة «الاختيار الثوري»، وانشغل الحزب في دوامة الصراع مع الدولة، ليُؤدي ضريبة القمع التي دامت لسنين طويلة. لقد انعكست هذه الظروف القاسية على طبيعة اهتمامات الحزب، والتي رجحت جانب الاهتمام التنظيمي على جانب الاهتمام الفكري/الإيديولوجي، وذلك استنادا إلى وثيقة المذكرة التنظيمية التي كانت تستهدف إرساء قواعد تنظيم ثوري على نمط المركزية الديُقراطية (1965)، وهو ما أدى -من بين ما أدى إليه- إلى قيام الحركة التصحيحية لسنة 1972 . وقد شكل هذا المنعطف، متنفسا مكن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من البحث عن دروب جديدة، تُعالج آثار مرحلة اتسمت بتوجه ثوري عشوائي، وتحسم بشكل نهائي في آليات العمل. فكان المؤتمر الاستثنائي (1975) محطة مفصلية بامتياز من خلال التركيز على الخط الإيديولوجي، بما يفرضه ذلك من وضوح في العمل ووحدة في الأهداف واعتماد الاختيار الديُقراطي واستراتيجية الإصلاح، كما توضحت الرؤية بشكل أفضل من خلال ترسيخ مبدأ وحدة الحزب ووحدة التوجيه. إن الخلاصة الرئيسية للمرحلة الممتدة من التأسيس (1959) إلى مرحلة إعادة البناء (1975/1972)، تكمن في أنه رغم الاختلال الذي قد يظهر في علاقة التنظيم بالتوجيه، فإن الخطاب السياسي الواضح، والآلة الإعلامية الجيدة، كفيلتان بربط مختلف الفئات الشعبية بالحزب، انتماءً وتعاطفا، وبالشكل الذي يجعل منه أداة لتحقيق مطامحها. وهو عامل تمت الاستفادة منه في المحطات الموالية، بل إنه لا يزال قادرا لحد الساعة على فرض تميز الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ضمن المنظومة السياسية بصفة عامة، والحزبية بصفة خاصة. لقد حاولت المؤتم رات الوطنية اللاحقة معالجة إشكالات جزئية، باعتبار أن التقرير الإيديولوجي للمؤتمر الوطني الاستثنائي بقي هو الموجه الرئيسي، والمؤطر للممارسة الاتحادية طيلة العقود الموالية. فالمؤتمر الوطني الثالث (1978) عمل على معالجة الخط السياسي وتوجيهه نحو الراديكالية. كما عمل المؤتمر الوطني الرابع (1984)على إعادة الاعتبار للاجتهاد الفكري عبر وثيقة «أزمة المجتمع وأزمة الديُقراطية». بينما انصب اهتمام المؤتمر الوطني الخامس (1989) على التأقلم مع الواقع الجديد الناشئ عن اقتحام الحركة النقابية حلبة الصراع الحزبي الداخلي. أما المؤتمر الوطني السادس (2001) فقد انعقد والحزب يعيش مرحلة انتقالية نتيجة تغير موقعه من المعارضة إلى قيادة تدبير الشأن العام في إطار حكومة التناوب التوافقي، مما حول النقاش إلى مسألة الانخراط في تحقيق المشروع الاتحادي من داخل الدولة بعد أن تبين عجزه عن القيام بذلك من خارجها. كما أن المؤتمر الوطني السابع (2005) لم يستطع الحسم في أزمة تقاطع السياسي والتنظيمي. إن هذه المحطات، أبانت مرة أخرى، على أنه إلى غاية هذا التاريخ، لم يفقد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مكانته داخل المجتمع رغم عدم وضوح خطابه السياسي انطلاقا من تدبيره للشأن العام، وانخفاض تأثير إعلامه الحزبي، وتكالب قوى مختلفة ومتنوعة ضد مشروعه الإصلاحي. إن مكانة الحزب المجتمعية، تجذرت هذه المرة، ليس على أساس الخطاب السياسي، ولكن على أساس الممارسة السياسية بما فتحه الحزب من أوراش واعدة للمضي بالبلاد إلى جهة التقدم. وقد لعب النقاش السياسي آنذاك حول الجدوى من الاستمرار في العمل الحكومي بعد بيان «الخروج عن المنهجية الديُقراطية» دورا سلبيا نتيجة الغموض الذي بدأ يدب في أوساط الحزب، بل والتباين في الآراء وعدم القدرة على تجديد المشروع السياسي، فكانت بداية تفكك الالتفاف الشعبي الذي أحدث رجة داخل الحزب على إثر استحقاقات 2007 . ورغم آثار هذه الرجة، فإن المؤتمر الوطني الثامن (2008) في شوطه الأول لم يستطع حل هذه الإشكاليات، ولم يتم إيجاد مخرج إلا بالتوافق على أرضية سياسية وبيان عام في الشوط الثاني من هذا المؤتمر. ولعل أهم خلاصة لهذه المرحلة، هي أن الحزب لم يعد مطالبا بإيجاد أجوبة فقط على القضايا التنظيمية والسياسية، بل أيضا المجتمعية، قصد البحث عن وسائل عودة الارتباط بالمجتمع. فالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لم يعد شأنا حزبيا داخليا فقط، بل أيضا شأنا مجتمعيا يحق لمختلف فئاته الإدلاء برأيها في شؤونه قصد إعادة زخم «القوات الشعبية» إلى «الاتحاد الاشتراكي». واستنادا على هذا التوجه العام لمؤتمراتنا الوطنية، والمتمثل أساسا في المكاشفة الصريحة بين وجهات النظر الحزبية المتباينة، بدأنا نؤدي الثمن غاليا، مما دفعنا إلى إعادة النظر في صيرورة عقد مؤتمراتنا وبشكل يقطع مع الممارسات من خلال إعادة الاعتبار للنقاش الفكري، والتنافس بين الأطروحات السياسية. ومن ثمة، شكل المؤتمر الوطني التاسع (دجنبر 2012) محطة نوعية جديدة، ساعدت على فتح مسالك فكرية وعملية قادرة على خلق دينامية تتجاوز الأشخاص وتجاربهم الذاتية الشخصية، إلى ما هو أرقى بالتعبير عن أطروحات موضوعية، تضع نصب أعينها صياغة برامج مُتعددة الأبعاد (فكرية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، مُجتمعية…) تلتف حولها الاتحاديات والاتحاديون لتكون وسيلتهم لاس ترجاع ثقة المجتمع في حزبهم. لذا، شكلت الأرضية السياسية التي نالت ثقة أغلبية المؤتمرات والمؤتمرين، وثيقة عمل توجيهية لا يزال مضمونها محافظا على جوهره، بل ويُُكن جعله، في إطار خلق التراكم الإيجابي، منطلقا ملائما لمشروع أرضية للمؤتمر الوطني العاشر. ثانيا: الاتحاد الاشتراكي والوضع الراهن يُواجه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اليوم أسئلة من نوع جديد، ولا يهم إن كان بعضها أسئلة قديُة، ما دام أن تغير الظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، جعلها تأخذ أشكالا جديدة، وتحتاج إلى أجوبة جديدة. إن هذه الأسئلة تحتاج إلى أجوبة لا ينبغي فقط التوافق حولها، بل تعميق النقاش قصد الوصول إلى قناعات مُشتركة تُشكل عاملا أساسيا لوحدة الحزب وتنظيماته وخطابه. إن جل التحاليل الرائجة، تكاد تُجمع على أن أحد الأسباب الرئيسية التي أثرت في الخط التصاعدي للقاعدة الشعبية للحزب تكمن في تخلي الطبقة الوسطى، بما لها من تأثير واسع في المجتمع، عن المشروع الاتحادي. فهذه الطبقة بالذات، هي التي كانت حاملة لمشروع التغيير، والمدافعة عن قيم الحداثة والتنوير، وهي التي غيرت تموقعها السياسي، مُحدثة بذلك تغيرا جوهريا في القاعدة الشعبية التي حولتها لصالح الأح زاب المحافظة أساسا. وإذا كان هذا التوجه قد أخذا بُعدا عالميا، فإن تفسيره ببلادنا، يحتاج إلى الإجابة عن سؤال أعمق. لقد كانت هذه الطبقة، وبامتدادها المجتمعي، مصدر ق وتنا، ومكنتنا -ضمن عوامل أخرى- من قيادة حكومة التناوب التوافقي، لذا، فإن الحاجة أصبحت الآن ملحة إلى تقييم تجربة هذه الحكومة من زاوية المكتسبات -أو التقصير- التي طبعت ممارستها. ويستلزم الأمر طرح تساؤلات أوضح لتفسير ما وقع: ألم نكن في مستوى تطلعات الطبقة الوسطى، ومعها الفئات الشعبية، المتضررة آنذاك من الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي وجدنا عليه البلاد؟ ألم تكن تدخلاتنا القطاعية ناجعة بشكل يجعل هذه الفئات تجني ثمار المشاريع الكبرى التي كنا وراءها؟ ألم ننجح في إطلاق دينامية كبرى بالبلاد على المستوى الحقوقي والمجتمعي وإعادة هيكلة التوازنات الاقتصادية والمالية لجعلها متلائمة مع التوازنات الاجتماعية اللازمة؟ أسئلة كثيرة ومتنوعة لم نُجب عنها في حينه، وتركنا الباب مفتوحا للقوى المضادة من أحزاب وإعلام ووسائط اجتماعية لتوجيه الرأي العام نحو أجوبة محددة، وتفرغنا لإدارة أزماتنا الداخلية بمعزل عن الفئات التي كانت خير سند لنا. إن المطلوب منا الآن هو العمل على تجاوز هذه المفارقة الغريبة في الحياة السياسية حيث يُُكن بسهولة تحويل «الانتصارات» إلى «هزائم»، ومجازاة المكتسبات بالتصويت السلبي، أو حتى العزوف السياسي والحزبي في أحسن الحالات، بل والهجرة إلى تنظيمات حزبية أخرى كان الاعتقاد سائدا (ولا يزال) أنها قادرة على الاستجابة لتطلعاتها بشكل أفضل. لقد بينت الأحداث لاحقا، فشل مشروعين أُريد لهما تأطير الحياة السياسية بالبلاد. فمن جهة أولى فشل المشروع الحزبي «الكبير» القادر على الحلول محل حزبنا، ومن جهة ثانية فشل المشروع الحزبي المحافظ في تطبيق سياسة اقتصادية واجتماعية ناجعة إلا على حساب الطبقة الوسطى نفسها، ومعها الشرائح الاجتماعية الهشة، التي تزداد وضعيتها سوءً. لكل هذا، يحق لنا، ألا نجعل من محطة حكومة التناوب التوافقي قدرا محتوما، نتحمل تبعاته في كل محطة سياسية أو استحقاق انتخابي. وبنفس المنطق، شكل خروجنا للمعارضة، فرصة تاريخية كان معولا على أن تُعيد لنا مكانتنا المجتمعية، لولا تظافر نفس العوامل السابقة، التي جعلت منا معارضة برلمانية ذات مصداقية، دون أن يُُكننا ذلك من التحول إلى معارضة مجتمعية إلا مع بداية انخراطنا في المعارك المجتمعية الكبرى، خاصة على صعيد الفئات التي تضررت من سياسة الحكومة المحافظة. وهو طريق ما زال أمامنا الكثير مما يُُكن أن نقوم به. لقد أصبح لزاما علينا، أن نعي أن السؤال الأعمق أصبحت معالمه واضحة جدا ولا يُُكن التغاضي عنها، يفرض علينا مصارحة الذات والمجتمع. فالتطور التاريخي أبان أن توسعنا الجماهيري مرتبط أساسا بموقعنا ضمن المنظومة السياسية، ولم يعُد أمامنا إلا تحديد هذا الموقع بالدقة اللازمة. لقد كنا «جماهيريين» فعلا عندما كنا على يسار الدولة، لكن إدارتنا للشأن العام ومشاركتنا فيه لمدة قاربت 13 سنة، وتلاشي علاقاتنا المجتمعية، وفقدان قلاعنا الانتخابية، وظاهرة الهجرة إلى العمل في هيئات المجتمع المدني، أصبحت تُلزمنا الآن باستمرار الوقوف إلى جانب يسار المجتمع وعدم الاكتفاء بالوقوف معه. ولن يتأتى ذلك إلا برفع سقف مطالبه إلى الحد الأقصى في كل ما يتعلق بظروف العيش الكريم، وإيجاد بدائل تُعيد الأمل من خلال طرح سياسي واضح، تكون معالمه قائمة على تصور متكامل لحل معضلات البطالة والتعليم والصحة والخدمات المرفقية الأساسية. هي ذي الأسئلة التي نحن بصدد، إيجاد الإطار الملائم لها. إلا أن عملنا داخل المشهد السياسي والحزبي، يفرض علينا من ناحية أخرى، منح تحالفاتنا الحزبية المكانة التي تستحقها. فتغير الظروف السياسية والتحولات الاجتماعية التي تعيشها البلاد، تجعل أي حنين إلى الماضي مجرد مضيعة للوقت. وهكذا، فإن الحديث عن الكتلة الديُقراطية، لم يعد له أي معنى نتيجة استنفاذ مهمتها من ناحية وتغير تموقع بعض أطرافها من ناحية أخرى.فالاتحاد الاشتراكي مدعو للقيام بدور الحزب ودور الكتلة الديُقراطية ما دام أن الأطراف الأربعة الأخرى قد اختفت أو أصبح لها موقع آخر اقتضته تقديراتها السياسية. وحتى الحديث عن الكتلة التاريخية أصبح مُتجاوزا بدوره، فكل القوى اليسارية والحداثية والديُوقراطية أصبحت تعيش تشتتا لا يُُكن معه القيام بتجميعها إلا على حساب هدر الزمن السياسي. إننا مدعوون إلى اعتماد معايير جديدة للتحالف، مبنية على التجارب الدولية المقارنة من خلال الص يرورة العامة لتوجهات الأحزاب الاشتراكية الديُقراطية التي لم تجد كما عالجنا أعلاه، أي حرج في التحالف مع القوى الليبرالية الوطنية المناهضة لليبرالية المتوحشة التي تُقلص من هامش تحركها وللقوى المحافظة التي لم تجد من بدائل للمجتمع إلا بالرجوع إلى «أمجاد» تاريخية غير متلائمة بتاتا مع التطور العام نحو ترسيخ دور المؤسسات وتقويتها وممارسة الحقوق والحريات، وباختصار إقامة دولة الحق والقانون والديُقراطية الحقة القائمة على التنافس السياسي بين المشاريع المدنية. وأخيرا، فإن أحد المظاهر المقلقة، الحاضرة على إثر كل استحقاق انتخابي منذ سنة 2007 ، أصبحت تُساءلنا عن أدائنا الانتخابي وعلاقته بوضعيتنا الحزبية وموقعنا داخل المؤسساتالتمثيلية، وخاصة منها، الاستحقاقات المهنية والترابية والتشريعية. لقد وقفت اللجنة الإدارية الوطنية، المنعقدة بتاريخ 12 نوفمبر 2016 على كل حيثيات الموضوع، مُستحضرة في ذلك مختلف التقييمات السابقة التي تمت داخل الحزب. وإذا تجاوزنا بعض الإجابات الجزئية أو الظرفية أو المتعلقة بنتائج معينة، والتي تربط موضوع الأداء الانتخابي بتراجع صورة الحزب، أو بعدم تقديم الحزب للحصيلة الكاملة لحكومة التناوب التوافقي أو على الأقل الحصيلة السياسية لمشاركة الحزب في التدبير الحكومي، أو عدم تفاعل الحزب مع المجتمع في محطات سياسية أساسية (من قبيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ومدونة الأسرة، وأشغال هيئة الإنصاف والمصالحة، والإصلاحات التشريعية الكبرى، والخروج عن المنهجية الديُقراطية، ومشاركتنا الحكومية إلى جانب أحزاب رسخنا لدى الرأي العام كونها أحزاب إدارية…)، فإن الحزب مع ذلك قام منذ خروجه إلى المعارضة بمعالجة جل هذه النواقص والاختلالات بتجديد هياكله وخطابه ومنظوره السياسي ووسائل عمله الانتخابية. غير أن النتائج المحصل عليها، رغم هذه المعالجات، بقيت في نفس حدود ما كنا نحصل عليه من أصوات دون أن يُترجم ذلك على مستوى المقاعد. وهذا ما يُبرز موضوعية العوامل التي جعلتنا -ضمن أحزاب سياسية أخرى- نؤدي ثمن استقطاب حزبي ثنائي جعل استعمال الدين في مواجهة المال وسط عزوف انتخابي مُتصاعد. وعليه، بنى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منظوره للعملية الانتخابية مبني على تصور شمولي للمنظومة الانتخابية ككل، وهو ما سنُعالجه أدناه بتفصيل، دون أن يُنعنا ذلك من القول هنا على أن هذه المنظومة تحتاج إلى إعادة نظر جذرية للتأطير التشريعي والتنظيمي، والإرادة السياسية المصاحبة له، وتوفير إمكانيات التنافس السياسي المتكافئ، والتعبير عن الإرادة الجماعية لمختلف الفرقاء السياسيين في ترسيخ القواعد الديُقراطية. وانطلاقا من كل هذا، فإن إيجاد الأجوبة، لا يُُكن أن يتم بمنطق التبرير، أو حتى بمقارنة النتائج المحصل عليها بنتائج التنظيمات السياسية الأخرى، ما دام أن المنافسة الانتخابية تمت بوسائل غير متكافئة، لم يكن للبرامج الانتخابية أي دور في حسمها. فبقدر ما تحسن أداؤنا الانتخابي، بقدر ما كانت النتائج مخيبة للآمال بشكل يُلقي على عاتقنا ضرورة العمل على التوافق حول شروط التنافس السياسي بما ينزع عن الاستحقاقات التوجه نحو قطبية المال والدين، ويُزيل عن المشهد السياسي ظاهرة التموقع غير المبني على اختيارات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وهنا تكمن مسؤولية الدولة، الضامنة لفرص التكافؤ بين كل الفرقاء السياسيين. المحور الثاني: الاتحاد الاشتراكي ومعالم استراتيجية المستقبل أولا: أي رهانات سياسية؟ ثانيا: أي استراتيجية انتخابية؟ ثالثا: أي شروط لتنافس انتخابي متكافئ؟ رابعا: أي تحالفات حزبية؟ خامسا: أية إدارة ترابية بلادنا؟ أولا: أية رهانات سياسية؟ إن التحولات السياسية والاجتماعية التي تعيشها بلادنا، بكل ما تحمله من انعكاسات، تندرج بصفة عامة ضمن التحولات الكبرى والعميقة التي تعيشها مختلف المجتمعات الوطنية في تفاعلها مع محيطها الإقليمي/الجهوي، والدولي، والذي أصبح متميزا بالتطور السريع الذي لا يسمح باستقرار الظاهرة السياسية لفترة تسمح بالتحليل المعمق والثابت. لقد أصبحت مسألة التحولات تحظى بأهمية متزايدة في أي تحليل يهم الدول أو المجتمعات، باعتبار أنها الأساس الذي يقوم عليه ترتيب الأولويات الظرفية ضمن الاستراتيجية العامة لأي تنظيم سياسي أو نقابي أو جمعوي. وفي هذا السياق، يعتبر الاتحاد الاشتراكي لقوات الشعبية، أن المغرب، من خلال التعددية السياسية والحزبية الحقيقية، قد حقق تراكما مكنه من نهج مشاريع إصلاحية كبرى، كان لنا بوصفنا حزبا معارضا دور أساسي في التوجيه إليها. ولعل ورش الإصلاحات الدست ورية والسياسية خير معبر عن صمودنا وثباتنا على المبدأ، انطلاقا من دستور 1962 وصولا إلى دستور 1996 الذي حقق جزءا من مطالبنا بشكل سهل اعتماد التناوب التوافقي كاستمرارية لتوافقات سياسية كان لها أثر بالغ في الخروج بالمغرب من دائرة المجتمعات المغلقة التي تدور في حلقة مفرغة. ورغم تخلي حلفائنا آنذاك عن المطلب الدستوري، فإننا بادرنا، ولوحدنا، برفع مذكرة تتضمن تصورنا لمراجعة شاملة للدستور (2009)، دون أن تحذونا في ذلك أي حزبية ذاتية ضيقة. وقد شكل الحراك المجتمعي الذي شهدته العديد من الدول العربية، نقطة تحول كبرى، أدت إلى إبراز تطلع الشعوب إلى الديُقراطية، وفتح المجال لصيرورة سياسية ما زالت معالمها لم تكتمل نتيجة المد والج زر الذي تعرفه المنطقة. ولعل السمة البارزة هي التراجع الملحوظ في الأنظمة والمجتمعات التي لا تتوفر على قاعدة حزبية تعددية حقيقية، مقابل التقدم الذي عرفته الأنظمة والمجتمعات الأخرى التي راكمت مكتسبات سياسية وحقوقية، وبالتالي مكتسبات ديُقراطية، كما أبانت عن ذلك تداعيات حركة 20 فبراير في بلادنا. إن الشعارات التي تم رفعها خلال الحراك الاجتماعي في المغرب، رغم طابعها الشبيبي، وانخراط أطياف متعددة حزبيا ونقابيا ومدنيا، لم تستطع تجاوز سقف مطالب الأحزاب الوطنية الديُقراطية. لذا، فإنها كانت بمثابة عامل مُسرع للإصلاحات الدستورية والسياسية، وليس عاملا منشئا لها. فشعار «إسقاط الفساد»، وشعار «الملكية البرلمانية»، ليست إلا تكثيفا لمطالب كان الصراع حولها قد حقق مكاسب جعلت إصلاح النظام مطلب جوهري، وبالتالي لم تكن هناك مكانة لشعار إسقاط النظام كما حدث في مجتمعات أخرى. وهذا ما أضفى على الحراك الوطني طابعا وطنيا بامتياز، سرعان ما تجاوبت معه الدولة بفتح ورش المراجعة الشاملة للدستور، وفق أسس مُتقدمة وآليات عمل جديدة أساسها المقاربة التشاركية. لقد عرفت البلاد دينامية سياسية جديدة، لكنها لم تخرج عن الإطار الدولي العام المتميز بصعود القوى اليمينية والمحافظة. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام تعاقد دستوري متقدم تُشرف حكومة محافظة على تطبيقه، مدعمة بتحالف جعل كل عناصر التحالفات السابقة (اليسار، الكتلة، وحتى ما كان يُسمى الوفاق)، غير ذات معنى، مما أصبح يفرض علينا التفكير في أشكال جديدة لبناء التحالفات الحزبية. إن تحليل هذه الصيرورة، قد أثبت أن تصاعد القوى المحافظة، يجد تفسيره، وطنيا، في استغلال الانعكاسات السلبية للنموذج الاقتصادي المتبع على الطبقات المتوسطة والشعبية، خاصة منها تلك التي تعيش على هامش الفقر، من خلال العمل على سد حاجياتها بوسائل ظرفية تعتمد العمل الإحساني أساسا. فأصبحت مجالات وهوامش الفقر تعرف إنزالا مكثفا تقوده حركة دعوية تستغل الدين للحصول على مكاسب يتم تحويلها لصالح الواجهة السياسية للحركة. وفي مقابل ذلك، لم تترك الدولة المجال فارغا بشكل يُكرس احتكار جهة واحدة لهوامش الفقر، فجعلت من آليات التنمية البشرية والتضامن الاجتماعي وسيلة للإحاطة بالعمل الإحساني ومحاصرته قصد عدم استفحاله. فالدولة اعتمدت برنامجا للتنمية البشرية، يُقدم إلى جانب مؤسسات أخرى، بالعمل على التقليص من انتشار الفقر والهشاشة، وأشركت في تنفيذ برامجها جمعيات تم إحداثها خصيصا لهذا الغرض، قصد ربط علاقات جديدة مع ساكنة هذه المجالات التي تم تحديدها مسبقا وفق خريطة تشمل الأحياء الهامشية في المدن، والقرى النائية. وهكذا، تحولت هذه التوجهات مجالات الهشاشة إلى ساحة «للصراع» بين سياسة رسمية للدولة مدعمة بجزء من المجتمع المدني، وسياسة دعوية تعتمد في انتشارها على العمل الإحساني الذي تقوم بترصيد مكتسباته لصالح حزب سياسي محافظ. وهكذا، أصبحت الأحزاب السياسية الأخرى مقصية من هذا التنافس الجديد الذي زاد من ارتباط الفئات الهشة بالد ولة من ناحية، وشكل قاعدة انتخابية واسعة للواجهة السياسية للحركة الدعوية من ناحية أخرى. إن اقتحام هذا المجال، هو الذي ينبغي أن يُعول عليه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية – ضمن تدابير أخرى- لإعادة ربط صلاته بالمجتمع من خلال برنامج يتفادى سلبيات الأسلوبين المعتمدين لحد الآن، واللذين يلتقيان في تطبيق برامج للمساعدة الاجتماعية، وذلك بوضع وترسيخ نظام للحماية الاجتماعية. ومما زاد في تعقيد الوضع السياسي بالبلاد، هو أن علاقة الد ولة بالأحزاب السياسية، أخذت منحى آخر نتيجة الإبعاد التدريجي للأحزاب الوطنية الديُقراطية، وبصفة عامة، الأحزاب التاريخية التي كان لها وزن في الساحة السياسية قبل مرحلة العهد الجديد، فأصبحت البلاد تنحو نحو استقطاب ثنائي مصطنع كان له الأثر البالغ في تحديد نتائج كل الاستحقاقات الانتخابية. وهو ما يجعل المشروع السياسي للأحزاب الأخرى يُواجه صعوبات جديدة نتيجة آثار الاستقطابات التي تمت على أساس سلطة المال أو استغلال الدين. لقد أصبح من الضروري البحث عن آفاق جديدة للعمل على صعيد التحالفات الحزبية لكسر هذه الثنائية المصطنعة. ومُقابل هذا الوضع، تستمر الدولة في اعتماد نهج إصلاحي قائم على فتح أوراش مُتعددة الأبعاد (اقتصادية، اجتماعية، ثقافية ولغوية، سياسة خارجية)تستهدف هيكلة المجتمع للدفع به نحو آفاق تنموية شاملة، بما يجعل الدولة المحرك الأساسي والقاطرة الرئيسية للبلاد نحو الإصلاح الذي نُريده لبلدنا ومجتمعنا. وفي هذا الإطار، فإننا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مدعوون مرة أخرى إلى أخذ هذا المعطى بعين الاعتبار، مُستحضرين أنه طالما راهنا -ولا نزال- على الاستثمار العمومي كقاطرة للتنمية. لذا، فإن تلاقي إرادة الدولة والسياسة العامة التي تُعول عليها، سيكون مدعاةً لإعادة النظر في علاقاتنا مع الدولة، ليس فقط من زاوية التعاقد معها، بل باعتبارنا شريكا في إنجاز هذه المهام الإصلاحية الكبرى. وهو ما يستلزم منا العمل على استعادة مكانتنا السياسية والمجتمعية لنستطيع تحويل أنفسنا من حزب «مُتعاون» إلى حزب «شريك». هذا هو التوجه الذي نبتغيه لحل إشكالات عديدة، ومنها أساسا إرجاع الثقة للمواطنات والمواطنين في العمل السياسي، وإرجاع الثقة للناخبات والناخبين في صندوق الاقتراع، وبما يخدم مشروعنا الاتحادي. إن تجاوز الوضعية السياسية الحالية، ينبغي أن يتم من خلال بناء عناصر الثقة بين كل الفرقاء السياسيين وتخويلهم وسائل التنافس السياسي المتكافئ، وتمكينهم من آليات وضع وتنفيذ السياسات العمومية وفق تصوراتهم وبرامجهم التي يكون المواطن قد صادق عليها. وفي نفس السياق، ينبغي أن تشمل عناصر الثقة، أح د الأوراش الهامة التي جاءت بها مكتسبات دستور 2011 ، والتي كان من «سوء حظ» المغرب، أن حكومة محافظة هي التي كانت وراء تطبيقها بإخراج النصوص التشريعية والتنظيمية اللازمة لتجسيدها على أرض الواقع مستندة في ذلك في جل الحالات إلى الأغلبية العددية، ومُنتهجة سياسة المس بمكانة المؤسسة التشريعية، سواء في مجال المراقبة أو في مجال سن القوانين. والنتيجة، أن البلاد أهدرت خمس سنوات من الزمن السياسي. لذا، واعتبارا لذلك، ينبغي علينا أن نستمر في الدفاع عن المؤسسة التشريعية قصد «تحريرها» من هيمنة الممارسات الحكومية التي تُفرغها من مهامها الدستورية الحقيقية، وفي نفس الآن، إعادة النظر في المنظومة التشريعية لكل النصوص ذات الصلة بمختلف مؤسسات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، وهيئات الحكامة الجيدة والتقنين، وهيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديُقراطية التشاركية. والهدف من ذلك، هو تحويلها إلى مؤسسات داعمة للعمل الحكومة في وضعها لسياساتها العمومية كقوة اقتراحية قائمة على تقديم الخبرة بأطر يتم اختيارها بناء على كفاءتها، وليس على انتماءاتها السياسية أو النقابية أو الجمعوية. ثانيا: أية استراتيجية انتخابية؟ إن تشخيصنا الدقيق للممارسة الانتخابية بالبلاد، قد أبانت عن صحة وجهة نظرنا التي لا نزال نعتبرها حجر الزاوية لكل تحول ديُقراطي، إذ لا يُُكن تقويم الاختلالات التي تشوب العملية الانتخابية ومنحها الإطار الملائم لتصبح جزءً من مسلسل اتخاذ القرارات الكبرى، إلا بجعلها أكثر جاذبية للناخبات والناخبين. إن ظاهرة العز وف الانتخابي المتصاعد من استحقاق لآخر لا يُُكن أن تجد تفسيرها إلا بالمضمون الذي نُريده لمدلول الانتخابات الحرة والنزيهة، والتي تُحرر الناخب (ة) من أي ضغط خارجي، ماديا كان أو معنويا، قد يُؤثر في عملية التصويت. وفي هذا الصدد، فإن تحقيق هذا الهدف رهين بمعالجة إشكالية نعتبر أنه سيكون لها الأثر البالغ في إضفاء دينامية جديدة على المسلسل الانتخابي. إن الإشكال، يتعلق بالدور الذي نريده للأحزاب السياسية في علاقتها بالدولة والمجتمع. لقد منحها دستور 2011 أدوارا مهمة، تُمكنها من القيام بمهمة التأطير والتكوين السياسي، والتعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة. وإذا كان الدستور قد استعمل مصطلح «الوسائل الديُقراطية»، فإن ذلك يجعلنا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نعتبر أن الوسائل الديُقراطية الحقيقية تقتضي التنافس بين المشاريع السياسية المدنية، بُغية تطبيق برامج ذات صلة بالسياسات العمومية التي لا علاقة لها باستعمال المال أو استغلال الدين. إن الوسائل الديُقراطية هي آليات اشتغال سلمية، مبنية على التطلع إلى تطبيق برامج قطاعية وفق تصور شمولي قابل للتنفيذ على أرض الواقع. ولن يتأتى هذا إلا بتحديد واضح لعلاقة الأحزاب السياسية بالدولة. فهذه العلاقة التي ظلت لفترة طويلة، تحكمها ميزة «التعاون»، ينبغي أن تُمن ح بُعدا أوسع. فالتعاون يُظهر الأحزاب السياسية وكأنها دخيلة على مؤسسات الدولة، وليس لها من دور إلا في الاندماج في سياسة عامة للدولة دون القدرة على المساهمة في وضعها، وهو ما يخلق لدى المجتمع إحساسا بعدم جدوى وجود هذه الأحزاب السياسية أصلا. فهذا الإحساس أصبح يتعمم وبشكل يُؤثر على رغبة الناخب (ة) في جدوى الإدلاء بصوته خلال الاستحقاقات الانتخابية. وإننا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كنا، ومنذ اعتمدنا استراتيجية النضال الديُقراطي، نعتبر أن تدبير الشأن العام سيؤدي تدريجيا إلى اقتسام السلطة، فيتحول التعاون إلى شراكة حقيقية تجعل الأحزاب السياسية، الممارسة للسلطة، مسؤولة مسؤولية كاملة عنها، وليس عن جزء منها. كما أننا واعون جدا أن جسامة تحقيق هذا الهدف، الذي ع برنا عنه آنذاك بالملكية البرلمانية، لا يتنافى مع المكانة الخاصة، والمجالات المحفوظة للملك، والتي هي حصرية بالنسبة لإمارة المؤمنين، ومؤطرة دستوريا بالنسبة لرئاسة الدولة، على غرار الدول الأخرى التي يتمتع فيها رؤساء الدول باختصاصات وصلاحيات محددة. إن توضيح مكانة الأحزاب السياسية بعلاقتها مع مختلف مؤسسات الدولة، ما زالت تحتاج إلى التأطير التشريعي والتنظيمي الملائم قصد منحها أبعادا تشاركية، ما دام أن طبيعة نظام الدولة كانت دائما محسومة، ولم تعُد تحتمل أي تأويل أو ممارسة لا تسير في هذا الاتجاه. فالقطيعة التي قام بها حزبنا مع خيارات ما قبل اعتماد مبدأ النضال الديُقراطي كانت بمثابة نقطة انطلاق لصيرورة كبرى اعتبرناها أساسا لتعاقد كان وراء «المسلسل الديُقراطي» الذي فتح آفاقا جديدة في الحياة السياسية الوطنية. ورغم أننا كنا آنذاك معارضة مجتمعية وبرلمانية، فإننا حرصنا على المشاركة في كل الاستحقاقات التمثيلية التي ضمنت تواجد حزبنا في كل المؤسسات التشريعية والترابية والمهنية، ودون أن يُنعنا ذلك من المساهمة، أحيانا بشكل مباشر، وأحيانا أخرى بالدعم اللازم، في كل القضايا المصيرية التي تهم الوطن، سواء على صعيد القضية الوطنية، أو على صعيد إنقاذ البلاد من «السكتة القلبية» بقيادتنا لحكومة التناوب التوافقي، أو المشاركة في الحكومتين المواليتين رغم الخروج عن «المنهجية الديُقراطية». لقد تبين لنا أن تراجع قاعدتنا الانتخابية يعود أساسا لتحميلنا مسؤولية المشاركة في تدبير الشأن العام لمدة 13 سنة، رغم أننا لم نكن إلا مشاركين بجانب أحزاب سياسية أخرى. وهو ما جعلنا نستشعر أهمية تحديد موقع الأحزاب السياسية ضمن مسلسل اتخاذ القرارات الكبرى كشركاء حتى تكون مسؤوليتنا واضحة. لقد كانت قيادة حكومتي ما بعد التناوب التوافقي بين أيدي غيرنا، في الوقت الذي تحملنا فيه المسؤولية لوحدنا. ثالثا: أي شروط لتنافس انتخابي متكافئ؟ إن تتبع نتائج مشاركاتنا الانتخابية، قد أبرزت أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بقي وفيا -طيلة مشاركاته- لنفس تقنيات التنافس، استنادا إلى وضوحه الإيديولوجي، ثم مواقفه السياسية، ومعارضته للسياسات العمومية المتبعة، لغاية اعتماد برنامج انتخابي مُتكامل، واعتمادا على تنظيمه الحزبي كوسيلة لإدارة مختلف مراحل العملية الانتخابية، بدءً من الترشيحات إلى غاية الطعون الانتخابية. وقد كان هذا النمط المتميز من الممارسة يُجابه في كل مرحلة زمنية بتدخل لجهات تعمل على الإخلال بشروط التنافس المتكافئ. وقد كان تدخل الإدارة في المراحل الأولى، عاملا يُضعف من نتائجنا بكل الوسائل الممكنة المؤثرة في إرادة الهيئة الناخبة، والتي وصلت حد تزوير النتائج نفسها. وإذا كنا قد ساهمنا لاحقا، في إدخال العديد من التقنيات اللازمة لرفع الضغط عن الكتلة الناخبة، من خلال إلغاء نظام الألوان، واعتماد نظام الرموز، والورقة الفريدة للتصويت، والاقتراع اللائحي بالتمثيل النسبي، وغير ذلك، فإننا ما فتئنا نعتبر أن المنظ ومة الانتخابية لا تزال في حاجة إلى المراجعة، خاصة وأن طبيعة العناصر المؤثرة في عملية التصويت قد تغيرت نتيجة «الحياد» الذي بدأت الإدارة تُمارسه من استحقاق لآخر. إن إصلاح المنظومة الانتخابية مدخل أساسي من مداخل الإصلاح السياسي الشامل، ومرتبط بنضالنا الذي اتجه من بناء الديُقراطية بكل الطرق الممكنة، إلى بناء الديُقراطية بطرق سلمية تضمن لكافة الفرقاء السياسيين نفس الحظوظ وشروط العمل لبلورة إرادة سياسية جماعية للترسيخ الديُقراطي. وفي هذا الصدد، فإننا نعتبر أن الشروط الأساسية للتنافس السياسي المتكافئ والشريف، تقتضي إبعاد كل استغلال للدين أو استعمال للمال في العملية الانتخابية. إن ظاهرة استعمال المال للتأثير في الهيئة الناخبة، بدأت تعرف منحى تصاعدي، وبأشكال لم تعد معه الأحزاب السياسية المعتمدة على استقلالية ماليتها قادرة على مجاراة هذه الوضعية، وحتى الدعم العمومي نفسه أصبح يخلق أوضاعا غير متوازنة نتيجة طريقة توزيعه. ونعتقد في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أن هذا النوع من الممارسات يسهل الإحاطة به بتقنيات عديدة وصارمة، سواء من خلال المراقبة المواكبة أو اللاحقة، ليضل استغلال الدين المعضلة الثانية التي ينبغي التصدي لها. إن العمل السياسي بصفة عامة، والانتخابي بصفة خاصة، لا يُُكن بتاتا أن نستمر في قبوله بين أحزاب مدنية وأحزاب لا تُعتبر إلا واجهة لحركة دعوية دينية، فاستعمال الجمعيات الدعوية والخيرية، وترويج خطاب الحقد والكراهية، عناصر تُخل بشكل فادح بشروط التنافس المتكافئ، خاصة وأنه يهم أساسا الفئات الشعبية التي يتم استغلال فقرها وهشاشتها للحصول على مكاسب انتخابية غير مُستحقة. إن ما يُنح تصورنا مصداقية أكبر، هو أن كل القوى التي لها مصلحة في التغيير نحو الأفضل، تتأثر بهذه الظاهرة التي سيؤدي المزيد من استفحالها إلى «مُستقبل مجهول» في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة إلى تكثيف الجهود لخدمة المصلحة الوطنية لبلادنا. لذا، فإن إرجاع التوازن في شروط المنافسة السياسية إلى وضعه الطبيعي، ينبغي أن يتم من خلال توجيه التنافس إلى مجال البرامج المدنية، المرتبطة بالسياسات العمومية، وهذه مسؤولية الدولة أساسا باعتبار أن الأمر يتعلق بسيادة الدولة. فالعمل الإحساني الواسع يفتح المجال للتمويل الأجنبي ما دام أن الدولة نفسها من خلال سعيها إلى محاربة الفقر والهشاشة تحتاج للميزانيات الضخمة. إن هذا العامل لوحده، يُسند تصورنا الذي نعتبر أن شروط تحقيقه قائمة على إبعاد استغلال واستعمال العمل الدعوي والإحساني، وبصفة عامة، الخطاب الديني، عن المسلسل الانتخابي. وهكذا، سنتمكن تدريجيا من وضع أسس جديدة لفصل الدين عن السياسة بمنع أي خلط بينهما. إن مؤسسة إمارة المؤمنين، باختصاصاتها الدينية، كفيلة لوحدها بتدبير الشأن الديني، حصريا، بكل ما تملكه من شرعية تاريخية، دينية، ودستورية. إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يعتبر أن تركيزه على هذين العاملين (استغلال الدين واستعمال المال) يهدف إلى التنبيه إلى أن دفع البلاد إلى قطبية مُصطنعة، ستمس في الصميم مشهدنا السياسي والحزبي القائم على التعددية، وهو ما أبانت عن صحته نتائج استحقاقات 2015 و2016 بشكل جلي. لذا، سنستمر في اعتبار أن المنظومة الانتخابية لا يُُكن أن تُؤدي إلى النتائج المرجوة منها إلا من خلال إعادة نظر شاملة لكل النصوص والتدابير ذات الصلة بالاستحقاقات الوطنية، الترابية، والمهنية. رابعا: أي تحالفات حزبية؟ إن مسار تحالفات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، قد ظل لفترة طويلة يتحكم فيه تموقعنا في المعارضة، مما سهل علينا التحالف مع أحزاب من نفس تموقعنا. وقد تم ذلك لفترة طويلة مع حزب الاستقلال إلى غاية تأسيس الكتلة الوطنية. إلا أن تغير موقع الطرف الآخر، من فترة لأخرى، أدى إلى الاعتماد على ذاتنا للقيام بدور المعارضة، وهو ما جعلنا نتموقع بشكل أكبر ضمن اليسار المغربي إذ كنا الحزب الذي تلقى أقسى وأوسع درجات القمع والمضايقة. لذا، ظل تحليلنا منصبا على الدعوة إلى وحدة اليسار في الوقت الذي كان فيه هذا اليسار يتعرض للتمزيق عبر الانشقاقات المتتالية. وقد شكلت هذه الظاهرة، هدرا للزمن الحزبي، وتشويشا على الوضوح الإيديولوجي والسياسي اللازم، باعتبار أن جلها تم لأسباب تتعلق بالذات الشخصية وتصفية الحسابات الضيقة، دون أي اعتبار للأطروحة السياسية التي قد تُضفي على أي انشقاق طابع الخلاف السياسي. ومع مطلع التسعينات، وتشكيل الكتلة الديُقراطية كإطار جماعي للعمل والدفاع عن الإصلاحات الدستورية والسياسية، فإن تأثير هذه المرحلة بقي مستمرا لفترة طويلة حتى أن تفكيرنا ظل حبيس اختيارين فقط. فرغم استنفاذ الكتلة الديُقراطية لدورها، استمر «الحنين» إلى إحيائها، بالموازاة مع استمرار دعواتنا إلى وحدة اليسار. إن هذا التأرجح قد جعل منا حزب لا يُقدر ذاته، إلا ضمن إطار أوسع (اليسار أو الكتلة)، وهو ما فوت علينا فرصة إثبات ذاتنا وترسيخها ضمن المشهد الحزبي، في استقلالية تامة عن أي تحالف أو تكتل أوسع. ومما زاد في تعقيد وضعيتنا، بعض النقاشات والدعوات غير الواضحة المعالم، من قبيل «الكتلة التاريخية»، والتحالف مع كل «القوى الديُقراطية والحداثية والتقدمية»، فبدأنا نفقد زمام المبادرة التي كانت تُميزنا عن غيرنا، وتجعل منا حزبا يبني توجهاته ومواقفه على الموقف الحزبي المستقل، وهو العنصر الكفيل بإطلاق دينامية استعادة المبادرة. ومع تنصيب حكومة يقودها حزب يُيني محافظ، وتموقعنا من جديد في المعارضة، وجدنا أنفسنا -موضوعيا- إلى جانب تنظيمات حزبية تجمع خليطا من الليبراليين والحداثيين والمحافظين. إن ضبابية المشهد السياسي في هذه اللحظة، والاصطفاف المصطنع الذي لم يعُد قائما على الموقف السياسي، بل فقط على التموقع في الحكومة أو المعارضة، يطرح علينا من جديد، ضرورة إعادة النظر في تحالفاتنا. لقد كان البحث عن «من» سوف نتحالف معه، هو المتحكم في اختياراتنا، في الوقت الذي كان ينبغي فيه البحث عن «ماذا» سنتحالف حوله. فالتجارب الدولية للأحزاب الاشتراكية الديُقراطية، أبانت عن قدرتها في التأقلم مع التحولات العالمية التي أصبحت تفرض اصطفافات وتحالفات أخرى، تُراعي واقع العولمة وما ترتب عنها من تنام لليبرالية المتوحشة والقوى المحافظة والمتطرفة، مُقابل تراجع لمكانة أحزاب اليسار بصفة عامة. لذلك، لم تجد أي حرج في التحالف مع التيارات الليبرالية «الوطنية» التي تضررت بنفسها من الليبرالية المتوحشة. فإذا كانت بلادنا تعرف نفس التحولات من تأثير للعولمة، وصعود القوى المحافظة المتسترة وراء الدين من خلال العمل الدعوي والارتباط الخارجي الواضح المعالم، فإنه أصبح لزاما علينا، كحزب يتوخى تحقيق نموذج اجتماعي واقتصادي مُعين على أرض الواقع، أن نبحث عن حلفاء يتقاطعون مع أهدافنا. وما دام أن التحالفات المتعددة الأطراف، لم تعُد قادرة على مسايرة الوضع الوطني الجديد، فإن نمط تفكيرنا وممارساتنا ينبغي أن يذهبا في اتجاه آخر، يُؤطره برنامجنا الحزبي. لقد أصبح لدينا، رصيد مهم من التراكمات، التي سمحت بوضع برنامج انتخابي مُتكامل بمناسبة استحقاقات 2016 ، ينبغي استغلاله بتحويله لبرنامج تنفيذي قابل لأن يكون برنامجا حكوميا يتم استعماله لغرضين رئيسيين. فمن ناحية أولى، فإن موقعنا -سواء داخل الأغلبية الحكومية أو داخل المعارضة- ينبغي أن نُوفر له الخطاب السياسي الملائم، للدفاع عنه، حتى لا تهُيمن علينا الانتظارية التي تعتمد فقط على فشل الآخرين لبلورة البديل، ومن ناحية ثانية، فإن تحالفاتنا يجب أن تُؤسس على المفاوضات الحزبية الثنائية مع كل الطيف الحزبي الفاعل في الحياة السياسية، والبحث عن نقط الالتقاء التي يُُكن أن تكون أساسا لتحالف ثنائي مع أي حزب نتقاطع معه فيما نعتبره جوهريا في تصورنا وبرنامجنا. إن أسلوب التحالفات الثنائية، المبنية على أسس واضحة، سيُضفي أولا دينامية جديدة على صعيد حزبنا، من زاوية المساهمة في تحويل النقاش العمومي إلى نقاش حول برامج عملية يسهل قياسها، وبالتالي التأكد من جدواها على أرض الواقع، وتبعا لذلك، يتحقق لحزبنا عودة قوية للنخب والفئات المثقفة إلى حلبة النقاش، وحتى إخراج فئة واسعة من المجتمع من دائرة العزوف والانتظارية وطغيان التشاؤم، إلى دائرة المشاركة بالتقييم والنقد والإدلاء بالرأي وحتى المشاركة الانتخابية. ومن ناحية ثانية، فإن أسلوب التحالفات الثنائية المبنية على البرامج، سيكون لبنة أساسية لاصطفافات حزبية جديدة غير مبنية بالضرورة على مواقف أصبحت الضبابية سمتها البارزة، من قبيل اليمين واليسار، الأغلبية الحكومية والمعارضة، المحافظ والتقدمي، أو حتى الاصطفاف الذي ساهمنا في خلقه في لحظات تاريخية معينة، والذي استنفذ دوره من خلال وضعه للأحزاب الوطنية الديُقراطية في مواجهة الأحزاب الإدارية بتصور جامد يُراعي فقط أصل نشأة الأحزاب دون استحضار التطورات اللاحقة. إن إقامة فصل جامد بين مجموعتين أو كتلتين، بناء على معايير لم تعد تستجب للتطورات الحاصلة على المستوى الدولي، وللتحولات الاجتماعية الوطنية، لا يُُكن أن يحصرنا ضمن استقطابات جامدة وعقيمة. فواقعنا الحالي لا يُُكن أن يضعنا كاشتراكيين ديُقراطيين في مواجهة الليبراليين، والحال أن التجارب الدولية تذهب في الاتجاه المعاكس حيث التعاون بين التوجهات الاشتراكية الاجتماعية والتوجهات الليبرالية الاجتماعية على أساس العناصر المشتركة. لذا فمن غير الحتمي أن نبقى مُتمسكين بما هو عقيم ضدا على التاريخ والتطور الذي يفضي إلى الدينامية وليس إلى الجمود. إن المشهد الحزبي الوطني، وخاصة من ذلك، الجزء الفاعل في الحياة السياسية، قد أصبح يُسائلنا، فبقدر ما ينبغي أن نعمله جماعيا لترسيخ دور أساسي للأحزاب السياسية في صناعة القرار السياسي، بقدر ما ينبغي أن نعتمد تحالفات دينامية مهما كان الطابع الظرفي يغلب عليها، ما دامت ستُمكننا من تحقيق تموقع أفضل لحزبنا في تنفيذ جزء من برنامجه الذي تحالف على أساسه. وأخيرا، فإن أسلوب التحالفات الثنائية المبنية على البرامج، مدخل هام لتشكيل الأغلبية اللازمة لتشكيل حكومة قائمة مُسبقا على برامج مُتفق حولها، وبنفس القدر، لتشكيل معارضة واضحة المعالم لا يُُكن أن تستمر في طمس هويتنا داخلها. لقد تحملنا لوحدنا تبعات المشاركات المتتالية في الحكومة لوحدنا، وتحملنا تبعات المعارضة نفسها لوحدنا، وفي كلتا الحالتين كان لتحالفاتنا آنذاك دور سلبي في تقدمنا إلى الأمام، فلا التوافق خدمنا، ولا تموقعنا في المعارضة أدى إلى نتيجة. خامسا: أي إدارة ترابية لبلادنا؟ لقد راهن الاتحاد الاشتراكي دائما على أن إعطاء دينامية نوعية جديدة للفعل التمنوي الشامل، يقتضي اعتماد سياسة فعالة لإدارة التراب الوطني بالشكل الملائم، الذي يسمح بالمساهمة الإيجابية للساكنة في تدبير شؤونها. ومن هذا المنطلق، يعتبر الحزب، أن المستوى الجهوي، مجال واعد بامتياز، استنادا على الدراسات والأبحاث التي تمت في إطار الحوار الوطني لإعداد التراب، وعلى المنظور الخاص للحزب، المستند على اعتبار الجهوية، عنصر أساسي لتصريف المشروع الاقتصادي التنموي. وإذا كان الدستور، قد وضع أسسا مهمة لإقامة نظام للجهوية المتقدمة، فإن تطبيقه عبر القوانين التنظيمية ذات الصلة بالجماعات الترابية، لا زال لم يُحقق المرجو منه. لقد تم اختزال الجهات في حدود مستوى معين من هذه الجماعات الترابية، رغم أنها تحتل مكان الصدارة بين هذه الجماعات. وبالموازاة مع ذلك، فإننا نعتبر أن مسار الجهوية المتقدمة، ينبغي أن يسير بشكل يسمح بالتميز للمبادرة الوطنية للحكم الذاتي بالنسبة لأقاليمنا الصحراوية. ورغم اختلاف الآراء حول هذه النقطة بالذات، فإن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، سيبقى دائما في طليعة المدافعين عن إيجاد حل سياسي مُتفاوض حوله، يُراعي المسار الدولي وخصوصيات باقي الجهات الوطنية. إن انخراطنا، في مقترح الحكم الذاتي، كحل عادل ودائم لقضية الصحراء المغربية، يتطلب منا اقتراح وسائل تدبير محلي جديدة تتناسب وتطلعات الساكنة. لذا، سنعمل على إشراك جميع الفاعلين المحليين (منتخبين، جمعيات، نقابات، أحزاب وسلطات) في تطبيق النموذج التنموي الخاص بالأقاليم الجنوبية، وبالأساليب الأنسب لتحقيق النهوض الاقتصادي والاجتماعي، والقطع مع ممارسات الماضي المبنية على التحديد المركزي للسياسات التنموية. وعلى هذا الأساس، فإن الحزب مُطالب بالعمل على تطبيق برامجه السياسية والثقافية على أرض الواقع آخذا بعين الاعتبار البعد الجهوي، وذلك تحت شعار: «مرجعية اشتراكية ديُقراطية واحدة، ومنظومة تأطيرية متعددة». وهذا يقتضي منا ابتكار أساليب تنظيمية جديدة على كل الأصعدة، عملا بمبدأ التأقلم المستمر مع الخصوصيات المحلية ومواكبة الابتكارات المتسارعة للحركة الاجتماعية والثقافية. إن الجهة ليست مجرد مؤسسات مُنتخبة بالاقتراع العام المباشر، ذات صلاحيات مُحددة حصريا بالنصوص التشريعية والتنظيمية. بل هي أبعد من ذلك، سنعمل على تطويرها من خلال جعل اختصاصات الجهات هي القاعدة العامة، وتدخل الدولة هو الاستثناء، لأن الدولة ينبغي أن تنحصر مهمتها في تحديد الوظيفة الوطنية للجهة وفق ما تسمح بذلك المؤهلات الطبيعية والاقتصادية والبيئية والبشرية، وفسح المجال المؤسسات الجهوية لوضع البرامج اللازمة لتحقيق الأهداف المحددة بما يُحقق التكامل ويخدم التضامن. فالجهة ليست مجرد مجموعة مشاريع منفصلة عن بعضها البعض، بل مشروع وطني استراتيجي يندرج ضمن الرؤية الوطنية للجهة التي عليها أن تقوم على أساس إبراز عنصر التضامن ولاستغلال الأمثل لكل ث روات الجهات لما فيه مصلحة الجميع. ويتطلب هذا الأمر، إعادة النظر في علاقة الدولة وممثليها بالمجالس الجهوية بشكل لا يجعل من الطرف الأول وصيا ومراقبا ومسؤولا عن تطبيق القانون، بل شريكا ومواكبا ومساعدا للثاني في إنجاز مهامه، مع ما يتطلبه الأمر مرحليا من تدخلات لصندوق التضامن بين الجهات لتمكين الجهات الناقصة التجهيز والبنيات التحتية، من وضع برامجها استنادا على هذا البرنامج الوطني؛ وهكذا، نُسجل في البداية، مواقفنا الجوهرية والمنطلقات والأسس التي نريدها لجهوية متقدمة، حقيقية، ونوعية، تُشكل دعامة لنظام الحكم الذاتي الذي نُعول عليه كحل نهائي للقضية الوطنية. إن الجهوية المتقدمة ليست مسلسلا داخليا محضا فقط، ولكنها مسلسل سيسترعي انتباه كل الدول الصديقة والشقيقة والمنظمات التي تتابع الوضع بالمغرب، والتي ينبغي أن نقدم لها برهانا آخر على جدية ومصداقية اقتراحاتنا. وفي هذا الصدد، فإن الاتحاد الاشترامكي للقوات الشعبية، ينبغي أن يعمل على تعميق النقاش حول «الهوية الجهوية»، والتي لا يُُكن أن تتحقق من خلال التقسيم الترابي والمتمثل في إعادة تفكيك وتجميع العمالات والأقاليم بشكل جامد، واعتماد التدبير الجهوي للتنمية من خلال جعل الخيارات التنموية للجهة هي الأصل، دون تدخل الدولة لفرض توجه محدد بشكل مسبق ومركزي. وبالموازاة مع ذلك، تسريع مسلسل اللاتمركز بشكل يفتح علاقة مباشرة بين المصالح الخارجية لمختلف الوزارات والمجلس الجهوي، وجعل هذه المصالح في خدمة التنمية الجهوية. ونعتبر أن هذا الأمر يفرض إحداث تغيير جوهري في دور الإدارة الترابية من خلال تحويل المصالح الاقتصادية والاجتماعية التابعة للولايات والعمالات والأقاليم تباعا إلى مجلس الجهة ومجالس العمالات والأقاليم.