قال عبد الكريم بنعتيق رئيس لجنة المقرر التوجيهي في أفق انعقاد المؤتمر الوطني العاشر لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المزمع تنظيمه في19، 20 و 21 ماي القادم ببوزنيقة أن اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني العاشر تبنت منهجية تشاركية في أفق الوصول إلى صياغة تركيبية لمضامين المقرر التوجيهي. وأوضح بنعتيق أن لجنة المقرر التوجيهي، الذي صادقت عليه عضوات وأعضاء اللجنة الإدارية بالإجماع السبت الماضي، عقدت منذ انطلاق أشغالها ستة اجتماعات وأنجزت 14 وثيقة وقدمت ثمانية عروض، كما تم تنظيم يومين دراسيين في مدينة بوزنيقة من أجل تجميع مضامينه. وأضاف رئيس لجنة المقرر التوجيهي أن العنوان الأبرز للصياغة التركيبية لمضامين المقرر التوجيهي هو إشراك جميع مناضلي ومناضلات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مناقشة القضايا المطروحة حزبيا، وطنيا وقوميا. وبخصوص الوضع الوطني وتوجهات الحزب السياسي، تستحضر الوثيقة الأسئلة الكبرى التي كانت مطروحة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والإجابات التي قدمها من خلال المؤتمرات الوطنية السابقة، مع تحليل الوضع السياسي الراهن، واستشراف الآفاق المستقبلية، مشيرة إلى أن الخلاصات المتوصل اليها ينبغي أن تكون أساسا صلبا لتحديد معالم استراتيجية عملنا المستقبلي، وإيجاد التأطير السياسي الملائم لبرنامج الحزب. وتوقفت الوثيقة عند سياقات الماضي والحاضر وأسئلة المستقبل في ما يتعلق بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مستحضرة في هذا السياق المسار السياسي والوضع التنظيمي للحزب وأيضا في ارتباطه بالوضع الراهن، وكذا معالم استراتيجية الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المستقبلية من خلال الإجابة عن أسئلة من قبيل أي رهانات سياسية؟ أي استراتيجية انتخابية؟ أي شروط لتنافس انتخابي متكافئ؟ أي تحالفات حزبية؟ ثم أي إدارة ترابية بلادنا؟ كما استحضرت الوثيقة التأطير السياسي لبرامج الحزب الأساسية عبر البحث عن أجوبة أسئلة مثل أي أوراش كبرى يحتاجها المغرب، مؤسساتية وحقوقية وقانونية؟أي نموذج اقتصادي ناجع له؟ أي حماية اجتماعية لمواطنيه؟ أي مشروع مجتمعي يتبناه سواء في الدين والثقافة واللغة والتواصل؟ كما قاربت الوثيقة السياق الدولي مشيرة الى أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية،يعتبر أن طبيعة المجتمع الدولي، والتطورات المتسارعة التي حولته إلى عامل أساسي مُتحكم في التوجه العام للسياسات الوطنية، لا يُمكن تجاهل تأثيره على أوضاع المغرب، وتموقع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في المشهد السياسي. وأوضحت أن انتقال المجتمع الدولي من مجتمع تنافسي إلى غاية إرساء دعائم نظام العولمة أدى إلى تشابك وترابط التحديات العالمية التي على الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية واجب الوعي بها، قصد الاسترشاد بخلاصاتها في وضع استراتيجيتنا الحزبية، كما استحضرت هيمنة الرأسمالية المتوحشة، وتنامي الحركات المحافظة والمتطرفة، وتأقلم الأحزاب الاشتراكية الديمُقراطية مع هذه الأوضاع من خلال مراجعة استراتيجية عملها.
في السياق الدولي،يعتبر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أن طبيعة المجتمع الدولي، والتطورات المتسارعة التي حولته إلى عامل أساسي ُمتحكم في التوجه العام للسياسات الوطنية، لا ُيمكن تجاهل تأثيره على أوضاع بلادنا، وتموقع حزبنا في المشهد السياسي. فانتقال المجتمع الدولي من مجتمع تنافسي إلى غاية إرساء دعائم نظام العولمة (المحور الأول)، أدى إلى تشابك وترابط التحديات العالمية التي علينا واجب الوعي بها، قصد الاسترشاد بخلاصاتها في وضع استراتيجيتنا الحزبية بشكل يستحضر هيمنة الرأسمالية المتوحشة، وتنامي الحركات المحافظة والمتطرفة، وتأقلم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية مع هذه الأوضاع من خلال مراجعة استراتيجية عملها (المحور الثاني). المحور الأول: نظام المجتمع الدولي بين التنافس والهيمنة شهد المجتمع الدولي جملة من التطورات والمستجدات المتسارعة التي انعكست، بشكل جلي، على طبيعة التأثير الذي يُمارسه، إذ أصبح يتخذ أشكالا وصيغا جديدة لم تكن قائمة من قبل. فقد زال الاستقطاب الثنائي المقترن بمجتمعات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وزالت معه الانعكاسات التي تتجلى بشكل ظاهري متخذة، في الغالب الأعم، أشكالا مباشرة. وهكذا، ولى زمن التدخلات العسكرية المباشرة للدول العظمى المتصارعة من أجل تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ تابعة تُستغل لأغراض سياسية واقتصادية وينزع عنها أي تميز أو خصوصية. ومن ثمة، اندمج العالم ضمن كتلتين كبيرتين متباينتين لم يخفف من تجاذباتهما وجود كتلة لعدم الانحياز ما دام أن الصراع في جوهره أفرز نوعا من الانحياز لطرف أو لآخر. لقد كانت الإيديولوجيا، بالمعنى المداول في منظومة الاستقطاب الثنائي، وسيلة لتعميم وترسيخ القيم سواء على صعيد المجتمع برمته أو على صعيد الأفراد مباشرة. ونتجت عن ذلك وضعية كارثية بكل المقاييس بحكم استناد الاختلاف أو التميز إلى منطقين، اعتبارا لفترة طويلة، متناقضين: – منطق فكري يستلهم أسسه ورؤيته من فلسفة الأنوار وما خلفته من تراكمات سياسية وثقافية، ترتكز على مجموعة من المفاهيم الرئيسية من قبيل: الحقوق والحريات والديمقراطية؛ – منطق فكري يستقي منطلقاته وتصوراته من الفلسفة المادية التاريخية التي تعتمد التمكين الاقتصادي بوصفه الأساس الذي لا محيد عنه في السعي إلى بناء مجتمع بديل. وفي ظل الاستقطاب الثنائي،كان طبيعيا أن تتأثر المجتمعات الوطنية بتداعيات هذه الصيرورة بحكم كونها مجتمعات "مغلقة" تخضع للتنميط بأشكال متعددة لعل أهمها شكلان متباينان: إما عبر التدخل العسكري المباشر المفضي إلى الانقلابات والاغتيالات ودعم الحركات الانفصالية وفرض الحصار، وإما عبر التدخلات غير المباشرة المعتمدة على المساعدات الاقتصادية (مساعدات مشروطة، وإعانات موجهة…) التي كان لها دور حاسم في رهن اقتصاديات البلدان المستفيدة عبر إملاء سياسات تتحكم فيها المؤسسات الدولية المالية أو رؤوس الأموال الوطنية الكبرى.وعلى هذا الأساس، أصبحت المجتمعات الوطنية رهينة بتموقعها داخل المجتمع الدولي القائم على آلية الاستقطاب التي أضحت التنظيمات المجتمعية نفسها خاضعة لها. فبعد أن كانت الأحزاب السياسية إما رأسمالية أو ليبرالية، وإما اشتراكية أو شيوعية، خضعت لتصنيف آخر طفا إلى السطح ترجمته مصطلحات ومفاهيم مختزلة للتوجهات إما في المحافظين والتقدميين، 4 وإما في اليمين واليسار. ولم تسمح حدة الصراع الدولي بفتح المجال للحلول الوسطى إلا عندما بدأ هو ذاته في التحول من منطق الصراع إلى منطق التعايش السلمي، وبعد ذلك إلى منطق الوفاق الدولي. وتبعا لذلك، تراجعت حدة الاستقطاب بشكل تدريجي فاسحة المجال لظهور تيارات وسطية انبثقت عنها تركيبات تختلف طبيعتها باختلاف درجة ميلها إلى أحد النمطين التاليين: – نمط الديمقراطية السياسية الذي يتأسس على آلية التمثيل التي تعد تفويضا في المجتمع لتنظيماته المجتمعية التي يختارها لتنفيذ برامجها، ولمنح الدولة دورا محصورا في "الحراسة" تاركة ما تبقى لآليات السوق الكفيلة لوحدها بتنظيم الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية المختلفة؛ – نمط الديمقراطية الاجتماعية الذي يتوجه بشكل مسبق إلى جعل الدولة في خدمة فئات المجتمع الهشة عبر معالجة الاختلالات الناتجة عن آلية السوق والاقتصاد الحر، وذلك لحمايتها من الإقصاء والفقر وإدماجها في منظومة الإنتاج مع ضمان عيشها الكريم، ليصبح مبدأ التمثيل وكالة آمرة ملزمة للتدخل، لا مجرد جهاز للحراسة. إن التغيرات التي طرأت على طبيعة المجتمع الدولي نتيجة الوفاق الدولي لم تكن تفيد أبدا نهاية الصراع أو الاستقطاب الثنائي، بل تعني فقط تغيير أدوات تكوين مناطق النفوذ. وهكذا، تعاظم دور الإعلام والدعاية والتضليل والضغط الاقتصادي وربط التعاون الثنائي أو المتعدد الأطراف بمدى الانخراط في المنظومة الرأسمالية العالمية، وخاصة احترام حقوق الإنسان واعتماد الآليات الديمقراطية لفض المنازعات المجتمعية. وكان من تداعيات ذلك بداية انحسار المد الاشتراكي الذي لم يعد قادرا على مواكبة هذه الآليات الجديدة إذ حولته من منطق المواجهة والهجوم إلى منطق التراجع والدفاع. ومن ثمة، أرهقه سباق التسلح ليسقط عند أول امتحان يتعلق بتطبيق سياسة الشفافية والانفتاح، مما أدى إلى تبلور مفاهيم مغايرة أخذت بعدا عالميا وشكلت مادة خصبة للإعلام والتحاليل والنظريات، لعل أبرزها الحديث عن "نهاية الإيديولوجيا" و"نهاية التاريخ". في هذا السياق، شهد المجتمع الدولي، ومعه المجتمعات الوطنية، تطورات عميقة مطبوعة بالبحث عن توازنات أخرى تحل محل الاستقطاب الثنائي حيث برز التنظير لاحتمالات كثيرة من قبيل العودة إلى نظام التعددية القطبية. وانبثق هذا التوجه بفعل المؤشرات المتنوعة التي تمثلت أساسا في توسع دور القارة الأوروبية وتنامي الدور الاقتصادي للصين وللمنطقة الآسيوية بوصفها رهانات ممكنة لمواجهة الهيمنة الأمريكية. غير أن العالم سيستسلم، في ما بعد، لواقع جديد كانت معالمه تترسخ أكثر فأكثر لتكتمل صورته على شكل عولمة اقتصادية تعم كل الاقتصاديات الوطنية مشكلة بذلك نظاما عالميا جديدا. المحور الثاني: في مواجهة تحديات الانعكاسات الكبرى لنظام العولمة إن نظام العولمة بما فرضه من آليات وأساليب جديدة للتعامل قد أحدث تغييرا جذريا في طبيعة التحديات التي ينبغي مواجهتها. فالأمر أصبح يتعلق بتحديات أعقد مماكانت مطروحة سابقا. فالتحديات ذات البعد الجغرافي أصبحت متجاوزة باعتبار أن أي تحد قطري أو إقليمي/جهوي أو حتى قاري أصبح غير معزول عن التحديات العالمية، ويصعب فصله عنها.كما أن طبيعة التحديات لم تعد أحادية بشكل يسهل الإحاطة بها. لقد أصبحت التحديات بدورها ذات بعد عالمي، معقدة ومتشابكة لا يُمكن معالجة جزء منها دون استحضار الأجزاء الباقية، بل لا يُمكن محاصرة جزء منها إلا بالعمل على الحد من دور التحديات الأخرى. فهل يُمكن معالجة التحديات البيئة والمناخية دون استحضار البعد التنموي؟ وهل يُمكن مواجهة الإرهاب دون استحضار مختلف تأثيرات الهجرة المرتبطة بدورها بعامل التحدي الديُمغرافي، المؤثر في البعد التنموي ودون استحضار آثار الثورة التكنولوجية التي غيرت من طبيعة القيم المساندة وحولتهامن طبيعتها الكونية إلى خصوصيات تبرز على الصعيد الاجتماعي والديني والثقافي …؟ وتبعا لذلك، أصبح المجتمع، بغض النظر عن طبيعته الدولية أو الوطنية، رهينة عوامل لم يعُد قادرا على التحكم فيها لوحده، ولم تعد السياسات الحمائية قادرة على إغلاق الحدود التي تحولت لحدود وهمية ما دام الإعلام الرقمي لوحده قادرا على اختراقها حاملا معه كل أشكال الاختراقات الأخرى الاقتصادية (التجارية، المالية، …)، الثقافية، الاستهلاكية، الدينية … فلا أحد الآن، بما في ذلك الدول نفسها، قادر على الحديث عن الاستقلالية والخصوصية إلا بقدرته على فرض التعامل معها. وإذا كان من غير اللازم معالجة كل التحديات العالمية، فإنه من اللازم على الأقل استحضار المظاهر الصارخة التي أصبحت جوهر السياسات الدولية لكل كيان قطري. إن الأمر يستوجب الإشارة إلى التبادل الحر، والإرهاب بمختلف أنواعه، والهجرة والثورة التكنولوجية الرقمية، والمسألة الدينية والثقافية، والتحدي البيئي والمناخي، والانفجار الديُمغرافي، ومخلفات مرحلة الاستقطاب الثنائي والحرب الباردة، والأمن الغذائي، والاحتكارات الكبرى، … وهي تحديات يصعب تأطيرها كلها دفعة واحدة بقدر ما يصعب عزل بعضها عن البعض. إن تحويل هذه التحديات إلى أرقام ملموسة وحده الكفيل بإبراز جسامة المهام التي أصبحت على عاتق المجتمع الدولي من زاوية تضامنه، وعلى عاتق المجتمعات الوطنية من زاوية إيجاد موقع ملائم أقل تعرضا للآثار السلبية. وسيظل التحدي الأعظم ما سيكشف عنه المستقبل، إذ يتعين من الآن، وفي أفق 2050، استحضار المعطيات التالية: – 9,7 مليار نسمة؛ – ارتفاع نسبة التبادل الحر إلى 50 % من الناتج الداخلي العالمي؛ – ارتفاع عائدات العملة الصعبة لتصل مبلغ 700 ألف مليار دولار علما بأن 76 % منها ستستفيد منها دول آسيا والصين أساسا؛ – هيمنة نفس المجموعة على 54 % من القيمة المضافة للخيرات الاقتصادية العالمية؛ – ارتفاع الطلب على الحبوب إلى 44 %، والماء إلى 55 %؛ – ارتفاع تكلفة تأثير النفط، لوحده، على البيئية إلى 5000 مليار دولار سنويا؛ – الآفاق غير المضبوطة لظاهرة الإرهاب. إن الوضعية الحالية، والآفاق المستقبلية، قد أسست، بشكل يبدو أنه لا رجعة فيه، منظومة رأسمالية عالمية تنحو إلى ترسيخ نظرية القطبية الأحادية الأبدية التي لن تسمح بأي خلاف أو اختلاف خارج قيمها إلا بالقدر الذي لا يعيد النظر في أسسها أو يُمس بتوازناتها، ومن هنا أصبحت كل القوى العالمية الحية تعمل لإيجاد الحلول الملائمة الكفيلة بالانعتاق من هذه الهيمنة،كل بمرجعيته وآلياته التي قد تختلف في ما بينها، لكن يجمعها خيط ناظم واحد يتمثل في تحطيم المؤسسات التي ترعى هذه المنظومة، أحيانا بالعنف، وأحيانا أخرى بتفكيكها من الداخل ُمستغلة لذلك كل أشكال التطرف الإثني، والديني، والثقافي. إن الاتحاد الاشتراكي للقوات للشعبية، يستحضر الانعكاسات الثلاثة لنظام العولمة، ويعتبر أن تدقيق المعرفة حولها، مدخل أساسي لوضع الأسس السياسية والتنظيمية التي ستؤطر مرحلة ما بعد المؤتمر الوطني العاشر. ويتعلق الأمر بهيمنة الليبرالية المتوحشة، وتنامي الحركات المحافظةوالمتطرفة، وتأقلم الاشتراكية الديمقراطية. أولا: هيمنة الليبرالية المتوحشة تتمثل السمة البارزة للانعكاسات المترتبة عن نظام العولمة في إعادة النقاش من جديد حول ماهية الدولة ومؤسساتها، والمهام المرتبطة بها قصد إعادة ترتيب الأوراق والأدوار. ولعل أهم ما يثير الانتباه هو أن نظام العولمة باعتماده مبدأ النمذجة، الهادف إلى توحيد القيم، قد تلقى أهم رد من قبل القوى المحافظة التي لم تجد من مستقبل تحل فيها الإشكاليات الحالية إلا بالرجوع إلى أنظمة تاريخية ماضية، فأصبح التيار المحافظ يكتسح المجال تدريجيا وبشكل متسارع. إن أول ردة فعل قد جاءت من الليبرالية نفسها التي لم تعد مقتنعة بالاتجاه الجديد لتطورها، فالمسحة الاجتماعية التي فرضها الفكر الاشتراكي وانعكاسات مختلف الأزمات الاقتصادية الدولية، أصبحت تقلص من هامش الربح وتعمق من تدخل الدولة المتحولة من دولة "حارسة" إلى دولة "منقذة"، فكشفت عن توجهها المبني على الماضي لتقييم صرح الليبرالية المتوحشة لا تستحضر (ولا يهمها) توسيع، الفقر والهشاشة ليس داخل مجتمعاتها فقط، بل أيضا، وأساسا في كل المجتمعات الوطنية الأخرى عبر العلاقات الصناعية التجارية والمالية والثقافية والمتعددة ا أطراف. فانتشر الفكر المحافظ، الماضوي، معبرا عن نفسه بأشكال مختلفة في موجة عارمة همت الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول أوروبا الغربية الرئيسية. أمام هذا التوجه الجديد، وجدت كل التيارات المحافظة الفرصة سانحة للتعبير عن ذاتها، فمحاولة فرض قيم كونية مواكبة لنظام العولمة، فتحت المجال لمختلف أشكال التعبير الماضوي في كل المجتمعات الوطنية، تارة تحت ستار ديني، وتارة تحت ستار ثقافي أو حتى إثني .. وكان لمختلف بقاع العالم نصيب من ذلك. إلا أن هذا الوجه الجديد، كانت تحكمه قواعد محددة مسبقا، فطبيعة الدولة تفرض ترسيخ دور الدولة ومختلف مؤسساتها، وتطويعها لخدمة أهدافها، ولم تبرز معالم تحطيمها أو تفكيكها من الداخل إلا تطبيقات مشوهة تحتمي تحت شعار "خصوصية". ثانيا: تنامي الحركات المحافظة والمتطرفة إن التحليل الذي سقناه أعلاه يتوضح بشكل جلي حينما نطبقه على أي مجتمع وطني أو مجموع مجتمعات تجمعها روابط مشتركة. ولعل العالم العربي أو الإسلامي نموذج معبر في هذا الصدد. لقد تنامت القوى المحافظة تحت ستار ديني، مستعملة في ذلك هامش الحرية المتاح لها، أو الذي تمت إتاحته لها، لتنظيم نفسها في حركات تصبو لأن تكون عالمية، ومستندة في ذلك على أمجاد تاريخية تهدف إلى بعثها من جديد، وبكل الوسائل الممكنة. وهكذا، تطورت هذه القوى من حركات صغيرة معزولة تعمل على هامش مؤسسات الدولة الرسمية تستقطب من كل الفئات المجتمعية، مستغلة عوامل الجهل والفقر والحاجة، لتقيم شبكة من العلاقات المبنية على سد حاجيات الأفراد الظرفية بوسائل ظرفية، فانتشر البر والإحسان حتى غدت كل الشرائح الهشة داخل المجتمع مرتبطة بها، وشكلت لنفسها قاعدة انتخابية مكنتها من استغلال الآلية الديمقراطية للوصول لمؤسسات الدولة. إن هذه الظاهرة التي لوحظت في مجموعة من المجتمعات كانت تمشي بالموازاة مع حركات دينية أخرى تعتبر العنف (الذي تسميه جهادا) الوسيلة الأقصى لاحتلال الدولة بمفهومها المعاصر، وإقامة دولة من نمط آخر على أنقاضها. وهكذا، التقى التوجهان في هدف واحد: تغيير طبيعة الدولة، أحدهما يسلك الطريق المتوسط والبعيد المدى بالخروج من العمل الدعوي والخيري إلى العمل السياسي بكل ما يتطلبه ذلك منهم من تنظيمات حزبية ونقابية ومدنية، والآخر يسلك ما يعتبر فاعلا، وذو نتائج سريعة بما يتطلبه أيضا منهم من عنف وإرهاب وتجييش. وفي كلتا الحالتين يتم استغلال الفئات الهشة كمجال للاستقطاب محاطة بالترغيب من جهة والترهيب من جهة أخرى. وعند الوصول إلى الهدف، سيان آنذاك بين تحطيم الدولة أو تفكيك مؤسساتها ما دام أن طبيعة الدولة البديل واضحة المعالم. ثالثا: تأقلم الاشتراكية الديمقراطية لقد شكل انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين محطة مفصلية لإعادة النقاش حول الفكر اليساري بصفة عامة، والفكر الاشتراكي بصفة خاصة. ولم تكن المراجعات الفكرية وليدة تلك اللحظة، بل كانت إرهاصاتها تشق طريقها تدريجيا نتيجة الخلافات الفكرية والسياسية التي رافقت الكتابات الأساسية حول المادية التاريخية والاشتراكية العلمية. إلا أن إقامة دولة الاتحاد السوفياتي ولاحقا الكتلة الأوروبية الشرقية، وانتشار الفكر الماوي، واعتماد نظام الحزب الوحيد، وتزايد دول العالم الثالث المرتبطة بهذه التوجهات، جعل الهجمة الرأسمالية الغربية تشتد، فكان من الطبيعي آنذاك تأجيل النقاش الفكري الذي حاولت بعض الكتابات إثارته (نموذج: غرامشي، روزا لوكسمبورغ، نيكو بولنتزاس، …) والتمسك بدوغمائية المنظرين الأوائل (خاصة منهم كارل ماركس، فريدريك إنجلز، لينين، وماو تسيتونغ). إلا أن هذا لم يمنع الحركات اليسارية داخل الأنظمة الديمُقراطية على النمط الغربي من الشروع في التأقلم مع أنظمتها الوطنية، وقد كان للأوروشيوعية، والاشتراكية الديمقراطية، دور طلائعي في هذا الصدد. وقد وضعت هذه التوجهات معالم فكر يساري جديد يتمثل أساسا في إعادة النظر في دور الدولة التي تجاهلتها الاشتراكية العلمية واعتبرتها مرحلة زائلة. لذا، فإن ضرورات الاندماج فرضت عليها العمل – على الأقل – على تغيير طبيعة الدولة وإعادة النظر في مضمون الديمقراطية. وهكذا، ظهرت التوجهات التي تعتبر أن الدولة واقع ينبغي العمل، ليس على تحطيمه، ولكن على تحويل دوره من خلال التقليل من حيادها المزعوم إلى لعب دور تحفيزي لصالح الفئات الأكثر تضررا داخل المجتمع، وبشكل تصبح معه الديمقراطية ذات مضمون اجتماعي وليس فقط سياسي. وهكذا، بدأ النظام الليبرالي يكتسب شرعيات جديدة تمثلت في الاحتفاظ بالدور المركزي للفرد، مع إضفاء مسحة اجتماعية على تدخلاتها. وهنا تبرز مكانة الاشتراكية الديمقراطية. إن أهم المراجعات التي تمت في هذا الصدد، تتمثل في نبذ "العنف الثوري" لفتح المجال للتنافس السياسي السلمي معتمدة في ذلك على الوقوف إلى جانب مطالب القوى الضعيفة داخل المجتمع، والتي ظلت لفترة طويلة تحت طائلة الاستغلال البشع لرأس المال الذي كانت الدولة تحميه باعتبارها "حارسة" فقط. لقد أدت هذه الإرهاصات إلى ظهور فكر وممارسة مستقلين عن كل من التجربة السوفياتية والصينية، لذلك فإن سقوط الأنظمة الاشتراكية منحها مصداقية أكبر، وأصبحت نموذجا يحتذى به على صعيد الدول السائرة في طريق النمو. إن نظام العولمة فرض من جديد على الاشتراكية الديمقراطية أن تجد لها مكانة متميزة تحفظ لها خصوصياتها. فتحقيق المزيد من المكاسب الاجتماعية، رهين بتوسيع هامش الربح لدى المقاولات، وهو الأسلوب الذي لا يمكن أن يتم إلا بعولمة رأي المال وإزالة الحواجز الحمائية الوطنية، وبالتالي فإن موقع الاشتراكية الديمقراطية سيكون موضوعيا إلى جانب القوى الرأسمالية. لقد أدى هذا التوجه إلى انحراف الفئات الضعيفة داخل المجتمع عن الاشتراكية الديمقراطية، متوجهة ومدعمة للقوى المحافظة التي أصبحت تتوسع تحت شعار الانغلاق المطلق بسياسات حمائية من جهة، وبتحميل المسؤولية للمهاجرين الذين يستهلكون الجزء الأعظم من المساعدات الاجتماعية. وعندما يتقلص عدد دول الاتحاد الأوروبي المسيرة من قبل اليسار من 13 دولة من أصل 15 دولة سنة 2007 إلى 6 دول من أصل 27 دولة، فإن ذلك يعبر بوضوح عن الخلل الذي وقع في تموقع اليسار ضمن نظام العولمة، ما دام أن اليمين الأوروبي هو الذي أصبح المهيمن. فأي مراجعة جديدة تعيد للاشتراكية الديمقراطية موقعها السابق؟ إن الظرفية الحالية، المتميزة بالنزعة نحو الليبرالية المتوحشة التي تقضي على أي تدخل للدولة، ينبغي أن تكون فرصة للدفاع عن دول الدولة في تحسين ظروف معيشة الفئات الأكثر تضررا داخل المجتمع بإقامة التوازن اللازم بين هذا التوجه، وبين دعم المقاولات المحققة للنمو. إن هذا التوازن المنشود لا يُمكن أن يتم بالتدخل المباشر للدولة فقط، وإنما بوضع الاستراتيجيات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف. وهكذا سيجد الاشتراكيون الديمقراطيون أنفسهم يدافعون عن الدولة ترومبلان اللازمة لتخفيف من آثار العولمة. وإذا كان هذا التوجه وما يترتب عنه من آثار اجتماعية مناقضا تماما للتوجهات الليبرالية الجديدة/المتوحشة، فإنه مجال مشترك مع التوجهات الليبرالية/التقدمية التي لا تنازع في هذا التوجه، بما يفتحه ذلك من إمكانيات للتوافق معها في تدبير الشأن العام بقطع الطريق على تجذرالحركات المحافظة/الشعبوية. إن الدفاع عن دور الدولة، وإدخال البعد البيئي واعتماد خطاب جديد في موضوع الهجرة ونقد نظرية الاستهلاك ومنح القيم مدلولات واضحة (المساواة، العدالة، التقدم …) أسس قادرة على خلق تميز جديد وإرجاع الاشتراكية الديمقراطية إلى المكانة التي بدأت تفقدها، وهنا ستتضح معالم هوية الاشتراكية الديمقراطية ضمن منظومة اليسار والقوى التقدمية.