مسافة نطويها في لمح البصر للوصول إلى الباب،باب مدرسة درب مولاي الشريف سابقا، والتي تحمل اليوم اسم مدرسة ابن بسام. نكتشف عالما جديدا بعيدا عن الحصير الممزق بمسيد السي سعيد.. نكتشف الطاولة والسبورة والطباشير والمعلم بدون جلباب... نكتشف وجوها جديدة نزحت من الدروب القريبة( درب السعد،بلوك الرياض،صوسيكا،الشابو..)، ومدن القصدير المتناثرة بالحي.. نشاهد بأم أعيننا طفلا حافي القدمين وطفلة تتعارك مع القمل، وأخرى تحمل الأدوات داخل ميكة بيضاء... أقسام الفقر وما أدراك ما الفقر.. خبز وتاي إلى جعنا، يكفينا آه ويشبعنا... كنا نتصور بسذاجة طفولية بأن المعلم هو أغنى إنسان على وجه البسيطة، نحلم أن نكون مثله ذات يوم، لأن قميصه نظيف دائما وحذاءه ناصع. أما سيارة السيد المدير، فكنا نتأملها كما نتأمل تحفة آتية من عالم آخر. كل التلاميذ سواسية،ولاد عبد الواحد واحد. مدير المدرسة اسمه السيد عبد الجليل أبو زيد،وهو بالمناسبة والد الشاعر الصديق ادريس أبو زيد، كان مديرا ومربيا وأبا ومستشارا للعائلة في نفس الآن، أنيقا دائما كان، يتعامل مع الجميع بللطف وحزم. كيف قبل هذا السيد النازح من الصحراء أن يدبر مدرسة على هذا النحو؟ مدرسة تحمل أحزان وهموم طفولة، طفولة نائمة بعينين مفتوحتين. مدير، اعتاد معاشرة دموع اليتامى ونحيب الأرامل وحاجة الفقراء إلى التين والزيتون على طول السنين. تم تقسيم مدرسة درب مولاي الشريف إلى فضاءين يفصلهما جدار، والتقسيم كان بسبب خلاف شخصي بين حارسي المدرسة والعهدة على شهود عيان صادقين. أحد هما اسمه با عباس،والاخر با عبد القادر(والد لاعب فريق الطاس محمد يمان). ومن الطرفة انه لما كان احد يسألنا عن المدرسة التي كنا ندرس بين جدرانها، يكون جوابنا: إما مدرسة با عباس، أو مدرسة با عبد القادر. فالحارسان هما الكل في الكل، يعرفان التلاميذ أكثر من الإدارة وأهل الإدارة.. أولادهما وبناتهما كانوا ضمن التلاميذ ويسكنون مع أسرهم بنفس الفضاء،الذي كان فيه الاب حارسا. كنا نخشاهما أكثر مما كنا نخشى الفقيه سي سعيد، والويل كل الويل لمن وصل باب المدرسة متأخرا، فسمطة با عبد القادر بانتظاره، وعصا با عباس له بالمرصاد.. هذا الأمر إذن محسوم، لا تأخير ولاغياب،إلا فيما ندر. والعصا لمن يعصى. قدم المعلمون إلى المدرسة من كل فج عميق، كنا نراهم كبارا ببذلاتهم العصرية، كانوا بالنسبة إلينا حلما ورديا،نتطلع معه الى مستقبل زاهر. لكن هذا الحلم يتبخر لما رأينا منهم من صرامة وعنف. لم يكن بعض المعلمين يحدثنا إلا صافعا أو شاتما او ضاربا بعصا او «تيو» جُمع اصابعنا،خصوصا مع قساوة البرد،ولايشفع لنا في شيئ صراخ ولا توسلات..ولا هم يرحمون. وحقا إن الادمان على الحماقات والشغب كان واقعا...وبنزق طفولي، كنا شياطين، لنا أفكاروسلوكات جهنمية . كنا نوزع صخب طفولتنا بين المقاعد الخشبية المتآكلة المهترئة... الخوف يولد الخوف... الخوف يولد الحزن، والحزن ينتج عنه التمرد والمواجهة.. مواجهة الدراسة بالتحصيل والحفظ الآلي، مواجهة عنيفة بين أبناء درب مولاي الشريف، وأبناء الكاريان، أو »»أصحاب الفوق»« كما كان يحلو لنا تسميتهم... كانت المواجهة تنافساعلى المراتب الأولى... فنحن أولاد البنايات،« «أولاد البني» كما كانوا يسموننا، كنا فقراء... بل كانوا أفقر منا، على الأقل، كان الاعتقاد السائد هو هذا... هم لا يؤدون ثمن الكراء والضوء والماء، وكانوا يقرؤون ليلا بالشمعة، وكافيا كان هذا للتنقيص منهم.