أصبح العالم الافتراضي جزء لا يتجزأ من الحياة المعاصرة في عالم متخيل يستمد صلاحيته من واقع ثقافي جديد إذ بدأت تذوب الهوة بين ما هو واقعي وبين المتخيل في مرحلة هامة من تطور هذا المجال التقني والتكنولوجي الذي وصلنا فيه لمحطة تاريخية دشن فيها العالم الافتراضي محاكاته للعالم الواقعي، وهي ميزة هامة لهذا الفن الذي يعلن انتمائه الجدلي للفنون التشكيلية أكثر من انتمائه لفنون السمعي البصري وإن كان يوظف مدخلهما للقبض على مقترحاته الفنية. في ظل هذا الرهان والتطلع والمغامرة تأتي الدورة 23 من المهرجان الدولي لفن الفيديو للدار البيضاء الذي شاركت فيه 40 دولة من القارات الخمس، عاشت خلالها الدارالبيضاء خمسة أيام من التواصل والمحاورة والأطروحات الجمالية والفنية والإبداعية وهي السمات التي يعتبر من خلالها المهرجان حدثا ثقافيا وفنيا للدار البيضاء. نظم اللقاء بمقترحاته الفنية من طرف كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدارالبيضاء جامعة الحسن الثاني الدارالبيضاء بشعار:"الواقع الافتراضي وخلق عوالم متخيلة جديدة" وللإشارة اعتادت للجهة المنظمة للمهرجان الدولي لفن الفيديو للدار البيضاء، أن تهدي دورتها لفعاليات قدمت إسهاماتها الثقافية والعلمية لهذا الفضاء العلمي ولهذه المقترحات الثقافية للكلية عبر المهرجانين الدوليين الجامعيين المتميزين؛ المهرجان الدولي للمسرح الجامعي للدار البيضاءFITUC والمهرجان الدولي لفن الفيديو FIAVC . لترسيخ هذا التقليد أهدت الدورة 23 من هذا لمهرجان فن الفيديو للدار البيضاء أشغالها ومقترحاتها الفنية والعلمية والثقافية إلى الفنان الفرنسي؛ الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والصحفي والباحث في الجماليات أرمون كاتي، الذي ولد سنة 1924، وتوفي في السادس من شهر أبريل الحالي، والمهرجان في أهبة الإعداد اللمسات الأخيرة لبرمجته، لذا جاء الإهداء لأرمونكاتي لكونه من الأسماء الفنية البارزة التي آمنت بمشاريع كلية الآداب بنمسيك الثقافية والفنية التي أشرت بها حضورها في المنظومة الجامعية بالمغرب، جاء هذا الاعتراف والامتنان بأرمونكاتي لأنه شارك في مقترحاتنا الفنية والثقافية بشكل فعلي بإسهامه المشهود في تأطير بعض الورشات وتفعيل بعض الندوات والمحاضرات والموائد المستديرة بكلية الآدب بنمسيك. منذ تأسيس هذا المهرجان ومنذ تصوره الأول وانطلاقته سنة 1993 وهو يواصل رسالته التي واكبت التحولات وكانت في مستوى الرهانات، لذا يعتز المهرجان أن خريجيه أصبحوا فعاليات داخل الوطن وخارجه..، ورغم ذلك لم يتوقف عن تطوير ذاته وبنياته ورؤيته المتعددة التخصصات بيداغوجيا وعلميا وأيضا استراتيجيا وتواصليا، إلى جانب المعتاد الفني والتقني والثقافي الذي يساير أحدث التطورات وفتوحات التكنولوجية وذلك باعتباره التظاهرة الوطنية الوحيدة التي تعنى بفن الفيديو بالجامعة المغربية والعربية وحتى على المستوى الدولي وهذا ما جعل منه محطة ولقاء سنويا هاما لكل المهتمين والباحثين شبابا ومبدعين وخبراء من كل بقاع العالم في مجالات التقنيات الحديثة للصورة الرقمية والافتراضية. صرح الأستاذ عبد القادر كنكاي رئيس المهرجان وعميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، في حفل افتتاح فعاليات الدورة 23، أن جديد هذه الدورة يكمن في مناقشة مسألة الحقائق الافتراضية وخلق عوالم خيالية جديدة، وبذلك فالمهرجان من خلال كليته بنمسيك ومدينة الدارالبيضاء وبلده المغرب سعيدة باستقبال مشاركين من 40 دول صديقة وشقيقة، من أوروبا: بلجيكا، النمسا، ليكسومبورك، فرنسا، اليونان، ألمانيا، إسبانيا، إيطاليا، البرتغال، بريطانيا، سويسرا، من أمريكا: الولاياتالمتحدة، كندا، البرازيل، المكسيك، بوليفيا، من آسيا: إيران، تركيا، الصين، من إفريقيا: البنين، بوركينا فاسو، الطوكو، الكامرون، الصومال، إثيوبيا، إفريقيا الجنوبية. من العالم العربي: تونس، فلسطين، مصر، العراق، الجزائر، سوريا، ليبيا، الإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى المغرب. كما صرح كذلك الأستاذ عبد القادر كنكاي في اختتام فعاليات الدورة 23 من المهرجان أنه سعيد صحبة اللجنة المنظمة بكل مكوناتها بنجاح رهان هذا الحدث والمؤتمر الدولي باسم فن الفيديو الذي برهن أنه عبر التحاور الجمالي والإبداعي نحقق التسامح والتعايش ونكسير الحدود بين الواقعي والافتراضي وهي دعوة للبحث العلمي للمكاشفة على هذا البعد الذي لها تطلعات نعيش فتوحاتها الأولى وعلينا دراسة آتيها ومستقبلها. من جانبه نوه إدريس المنصوري رئيس الجامعة بالجهد التنظيمي لكلية بنمسيك التي تنفتح على العالم على عدة مستويات عبر مدخل الثقافة والفن الذي يكسب لجامعة الحسن الثاني الدارالبيضاء وكلية بنمسيك وباقي الكليات إشعاعا دوليا تعتز به الجامعة، وهي فرصة رحب بها بالحضور النوعي الذي يمثل العالم في زمان ومكان محددين ينصهر فيهما الواقعي وافتراضي في نفس الآن، في لقاء ينتصر للديبلوماسية الثقافية. كما أشار المدير الفني الأستاذ عبد المجيد ساداتي، أن هذا المهرجان منذ نشأته لعب دورا حاسما في تطوير فن الفيديو والتعريف به، ليس فقط في المغرب، بل في العالم العربي كذلك وأصبح نموذجا يحتذى به من طرف بلدان عربية كثيرة، مثل لبنان ومصر وتونس وسوريا وفلسطين، وكان سببا في بروز تظاهرات عدة هدفها الأول التعريف بإبداعات هذا الفن وترويجها وخلق تفاعل بين منتجيها محليا وعربيا ودوليا. ونوه بالحضور الفني للمقترحات الجمالية الراقية والكبيرة التي تعتز هذه الدورة أن حققت أهدافها في لقاءها واللقاء مع منتجيها ومبدعيها الذين أهدونا عيونهم لنرى بها العالم وآذانهم لنصغي إلى ما يملأه من أصوات. العيون والآذان ونبضات قلوب الإبداع كانوا هم البطل لكل اللحظات بدء من حفل الافتتاح وأيام المهرجان إلى ختامه بمقترحاتها الفنية التي تواصلت وتخاطبت مع عيون الحضور النوعي الممثل في الطلبة والمهتمين وعموم الشباب، في كل فضاءات المهرجان؛ إلى جانب الأطر والخبراء في هذا المجال والجهة المنظمة بمحيطها العلمي والأكاديمي. خلال أيام المهرجان سافرت بنا التنصيبات الفنية التي طرحت جديد فن الفيديو في علاقته الجدلية والقوية بعالم الفنون التشكيلية برؤاها الفنية التقنية التي تخلق إبداع اللحظة الحي والحيوي والمتحاور بين الواقعي والافتراضي، كما غاصت الورشات التكوينية، في عمق الذات وعمق التطلعات بآفاق انتظاراتها المتعددة والمختلفة وكان عددها 7 ورشات، 5 منها بفضاء الكلية وورشتين نشطتا بفضاء لوزين وعمر الورشات ثلاثة أيام لكل ورشة منشطوها وخبرائها من الأجانب والمغاربة الذين طرحوا أمام المستفيدين أحدث التقنيات وجديد الفنون الرقمية، واستفاد منها أكثر من 250 طالبا ومهتما، وقد عبر لنا بعض الشباب المستفيد من الورشات أنهم فعلا سعداء أولا بالتواصل الذي تم بينهم وبين مؤطريهم تم بالانصهار والتعارف الذي حصل فيما بينهم ومع باقي الزملاء تم بالمستوى المعلوماتي الزاخر الذي مرر لهم بتقنيات وفنيات جعلتهم يختزلون الزمن وكأن المدة موسم تكويني كامل أو أكثر.. كانت المقترحات الفنية المبرمجة في عروض المهرجان وفي كل أمكنته رهان جمالي وفني، استنتج من التلقي أن محورها العام متفاوت في مستوياته التقنية وزوايا نظره وفكره المنتصر لتوهيمات الصورة والصوت لتكسير المعتاد التقليدي للقطات والمشاهد التي استهلكناها وحري بنا أن نبحث في أشكال أخرى لعلها تكون إضافة ومجالا للتفكير البصري الافتراضي منه والواقعي المتطلع للمستقبل، كانت العروض الفنية تمتح من التشكيل والموسيقية والتعبير جسدي والرقص وباقي التعابير بثنائية الطرح بين الواقعي والافتراضي. تكاملا مع المقترحات الفنية بعروضها وورشاتها وتنصيباتها أطرت محاضرة المهرجان موضوعها الذي نشطه الخبير في عالم فن الفيديو إريك سادان، فيلسوف في مجال الفكر الرقمي،الذي ناقش تيمة هامةLa silicolonisation du monde، والتي دعا فيها متلقيه من خبراء ومن زملائه ومن طلبة ومهتمين إلى التساؤل وتحليل الوجه المرئي للشبكات الاجتماعية، لمخاطبة الأشياء المتاحة لنا والتي ترافق حياتنا اليومية نحو الهدف الذي نرمي إليه أو الذي يدعونا لما يرمي إليه هو، وعن مطلب جمع البيانات الشخصية لمستخدمي الإنترنت التي كسرت الخصوصيات كما تطرق المحاضر لأبرز التطورات لهذا المستجد، الذي له علاقة جدلية ووراثية للخدمات العسكرية الرقمية في عصر الويب،كما أشار أن المستخدم للتكنولوجيات الجديدة لديه القدرة على التفاعل مع المحتوى المقترح المرتبطة بالثقافي والصناعي والإيديولوجي. سيما وأن المستخدم معرض بشكل صريح من ظرف الشركات والشبكة العنكبوتية للحصول على معلومات أكثر تفصيلا المستخدمين مع تحديد موقعهم الجغرافي؛ لذا فهي تتوفر على تقنيات تمارس سلطتها على كل البيانات الشخصية التي يتم تخزينها في حوامل قوية يومية دون علم أصحابها أو بالأحرى إذنهم، هذه البيانات التي يتم جمعها، مثل حوامل غَوغَل، وباقي الحوامل، التي تتزايد وتتطور بشكل لا حصر له مع التكنولوجيات الرقمية، الأمر الذي يتم من خلاله تسليع البيانات الشخصية للناس وبالتالي تتم السيطرة الكاملة على حياتهم. من الأطروحات الكبرى التي تناولتها مواضع المقترحات الفنية للمهرجان، مسألة تشكل مقاومة الأوضاع السياسية والاجتماعية الصعبة، عبر خلق جماليات جديدة، التي اعتبرت التيمة الموحدة للعروض. في هذا الصدد أشاد السيد مارك ميرسي مدير مهرجان الفيديو بمارسيليا بفرنسا،في كلمة تقديمية لبعض العروض، بأن المقاربة الجمالية التي اقترحها مخرجو هذه الأعمال، غايتها أن نتجاوز الأوضاع المأسوية لبلدانهم وخلق مساحات تأملية تجعل العالم يبدو أجمل. وصرح مارك ميرسي، وهو من مؤسسي المهرجان الدولي لفن الفيديو بالدارالبيضاء منذ تأسيسه سنة 1993، ومتعاون ثقافي معه، "من الهام في عالم اليوم حيث فقد الجميع المرتكزات وحيث يوجد الكثير من المآسي والحروب بالعالم، أن نرى كيف يقاوم الفنانون كل أشكال اليأس ويصمدون إبداعيا وجماليا"وأضاف "أن الجمال ليس جمالا في حد ذاته بل هو جمال يتجاوزنا ويجعلنا أكبر وأكثر خفة ووعيا به وهو يتدفق عندما ننظر إلى ما وراء الأفق أو إلى قرارة أنفسنا وهو الأمر الذي يتحقق عبر خوض مغامرة فنية تنشد اكتشاف عوالم متخيلة لا حدود لها".