يتأسس الشعر بما هو جنس أدبي مخصوص على لحمة اللغة التي يتكئ عليها المبدع لإشراك المتلقي همومه وهواجسه، مواقفه وإشكالاته... فهو، أي الشاعر، وفق هذا المنظور، يتجاوز حالة المتعة إلى محاور هذا التلقي: إن تأثيرا فيه، أو دفعا لموقف عنده، أو انتصارا لآخر، قد يخالف الواقع إلى المحتمل الذي يرغب فيه الشاعر، بل ويتطلع إلى أن يغذو -أي المحتمل- عرفا، ولم لا حقيقة وواقعا. انطلاقا من كل هذا وذاك؛ كيف تؤسس الشاعرة لهذه المحاورة -محاورتها مع المتلقي؟ وما هي تمثيلات الهوية والانتماء في كتابات الزهرة رميج؟ 1. تمثيلات الهوية والانتماء في»ترانيم»: اختارت الشاعرة أن تصدر ديوانها بقصائد وسمتها ب «ترانيم للوطن»، وهي تؤسس لموقف من الوطن والعروبة وقضايا الهوية، والغربة... وغيرها. هذا التأسيس يتجاوز الاحتفالية بما هي خاصية شعرية تتميز بالغنائية والاهتمام بالإيقاع والجمل الشعرية وغيرها، إلى محاورة متلقي -كما أشرت في المقدمة- يشترك مع المبدعة في «القيم المشتركة،» وتتماهى هنا مع قضايا تؤرق الأمة العربية: العراق والقضية الفلسطينية خاصة، أو تلك التي تتقاطع ومصائر المواطنين العرب في كل بلد: الاحساس بالاغتراب والضياع، أو تحويل الوجهة إلى أوطان بديلة. «آه يا وطني! مالي أراك لا كالأوطان؟ كلما هام الفؤاد في هواك واصلته بالحرمان!" ص 26. 2. سلطة التاريخ والعراقة: اختارت الشاعرة للتعبير عن القومية العربية بما هي مكون من مكونات الهوية، تتجاوز اللغة إلى تقاسم الآلام والآمال، نصا شعريا وسمته ب «بغداد تحترق»، وهو وإن فتح باعتباره عتبة أولى تبدو مباشرة تتكون من مسند ، هو مبتدأ ومسند إليه وهو «تحترق» ليحيلنا على سلطة المكان «بغداد» بحمولاتها التاريخية والثقافية مثلت لها ب «النشيد البابلي» مستحضرة ذاكرة جنون القتل في مقابله، وهو استشراف لحجة سلطة المكان (بغداد) بما هي قامة تاريخية في مقابل «الغريزة الرعوية» الهجينة لأمريكا والتي بحسب الشاعرة، عوضت التبر بالنفط، والهنود بأطفال العراق، من ذلك: «بغداد تحترق نيران الهمجية تساقط وابلا أسود أقسم هولاكو ألا يغمض جفنيه يظل يرقب بغداد» ص 17 لتبرز سلطة التاريخ والعراقة اللتين تنتصر لهما الشاعرة ها هنا، بشكل مطلق، وهي تحاورنا كمتلقين محبطين مما آلت إليه أوضاع الأمة العربية. لكن المبدعة اختارت أن تستشرف المستقبل في دعوتنا إلى إزاحة الصور السلبية وتعويضها بأخريات ايجابيات. وقد استحضرت الهوية العربية بما هي مكون أصيل وثابت في نصوص شعرية اتكأت خلالها على القضية الفلسطينية: إن في إبراز التقتيل الهمجي في نص « الشهب المتصاعدة»، أو في استعاراتها لطاقات السرد بما هو تتابع وتتال للأحداث في نص «تجميل»، ص 44، لتقديم صورة السلام الفلسطيني/الاسرائيلي المزيف. 3. سلطة السرد الشعري في تقديم الهوية العربية: لعل عمق التجربة السردية للأديبة، وصدى الساردين من خلالها هو ما جعلها تختار في نص «تجميل» ساردا ممسكا بزمام حكايته: عملية تجميل تطال «السلام» تنتهي بمسخ. تقول في البداية: أدخلوا السلام غرفة التجميل بعد حقنة التخدير وضعوا على وجهه ثلاث شامات. ص 44 وينتهي النص، في ص 46: ما هذا المسخ الذي أرى؟! أين أنا؟! أين أنا؟! أين أنا؟! وهي نقد لهذا الزيف/السلام العربي الاسرائيلي، انطلاقا من ملفوظات الخطاب الشعري هنا تواشج خلاله كل مكونات هذا الخطاب لغة وإيقاعا. 4. تصاعد الحجج إلى النتيجة: استشراف الانتصار في نص «الشهب المتصاعدة»: اختارت الشاعرة في هذا النص، أن تستحضر استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة، تبنت خلاله استراتيجية خطابية واشجت مكون الايقاع بتقديم صورة انتهاك البراءة في فلسطين السليبة، وقد اختارت صيغة الأمر لمسرحة الموقف من جهة، وجعل هذه الصور/الحجج تتنامى عبر النص لتصل حتميا إلى نتيجة تَوجه النص ووجه إليها وهو الاحتفال «وعلى أنغام الزمور والطبول ذات الجدائل الحرير عروس العرائس فلسطين"، كما تورد الشاعرة ص 68. وتتجاوز الشاعرة مكون القضية الفلسطينية بما هو عنصر أساس في الهوية العربية، وقد أصاب ابناءها -أي عموم الأمة- الضيق من انسداد الأفق مع الآلة الحربية الاسرائيلية التي تحرق الأخضر والغض دائما، إلى الاحتفال بالانتصارات؛ „عملية إيلات" مثلا في نص وسمته ب „انهضي لمي الأشلاء"، وهي تحاور المتلقي في إطار هذا المشترك العربي لدفعه إلى تغيير الموقف المستهجن من صورة العرب السلبيين إلى إمكانيات الانتصار مستقبلا، وهو انتصار سيغدو مستحقا بفضل التاريخ والعراقة. تفتح الشاعرة هذه السلطة وهي سلطة التاريخ على بعد آخر، انتصرت خلاله لنموذج ثقافي وتاريخي في نص وسمته ب „حطم قمقم الزجاج" استحضرت خلاله صورة لينين والساحة الحمراء، في مقابل الهمبورغر وكوكاكولا. وقد تكامل المكون „العروبي" مع الوطني والمحلي عند الشاعرة، لكن لتنضاف إلى الهوية العربية الحديثة سمات قد تكاد تعمم في الواقع العربي وهي الاحساس بالاغتراب وطنيا، واصطباغ الذوات بالضياع من ثمة، أو اللجوء إلى خيارات الغربة عن الأوطان وما تستدعيه من مظاهر مثل العنصرية وغيرها. 5. تجليات الغربة بما هي سمة طاغية في الكيان العربي والوطني: إذا كان الهاجس العروبي (المتجاوز كما سلف لمكون المشترك اللغوي لدول الأمة العربية) هو ما جعل الشاعرة تواشج مستويات خطابية شعرية وسردية، وأخرى مثل اهتمامها بالنصوص الموازية: الهوامش أو تصديرات أبواب الديوان أو الاهداءات أعلى القصائد، لتجلي تمثيلات للهوية، فإن الشاعرة ما فتئت تهتم بسمة طاغية على الواقع العربي وهي الاغتراب، داخلها أو الغربة والنزوح إلى أوطان بديلة. استحضرت الشاعرة على سبيل التلخيص تيمة الغربة، بشكل مباشر في «بيض الوقواق» أو «آه يا وطني». لكن إجمالا، تستنفر طاقات تأويلية لدى المتلقي لتدفعه إلى الاستشعار بمسؤولية الأوطان تجاه الأبناء، أو الوقوف على قيمة الديموقراطية كما هو الحال في نص «النور والديجور» في تجاوز الاحساس بالاغتراب أو اللجوء فعليا إلى أوطان بديلة حال بيض طائر الوقواق دائم البحث عن أعشاش بديلة لا تنفع. تستحضر في نص وسمته ب «قالو»: صباح الخير يا وطني فعلقم الوطن ألذو أحلى من شهد غربة الأوطان». ص 38. لنخلص على سبيل التلخيص؛ إلى أن الشاعرة استطاعت من خلال ملفوظات الخطاب الشعري في ديوانها «ترانيم»، أن تتجاوز الاحتفالية والغنائية -تبدو جلية في غالبية النصوص. إلى محاورة متلقي عملها وإثارة الأسئلة لديهم بخصوص مكون الهوية، ليتبنى هذا المتلقي/القارئ هنا موقفا من مكونات هذه الهوية وفي إطار المشترك العربي يتجاوز السلبي إلى الايجابي في تقاسم حقيقي للأدوار: أدوار الأوطان والأبناء على حد سواء. وقد واشجت الشاعرة كما سبق، كل مكونات الخطاب الشعري مع رسائل النص للتعبير عن الهوية والانتماء (كذلك إلى الشعر ودولته الممجدة للحب والألم هنا) كما هو حال البابين اللذين وسمتهما على التوالي ب «ترانيم للشعر»و «ترانيم للألم»، بالإضافة إلى محاوراتها الجمالية للمتلقي لإنتاج استشراف مستقبل مشرق حتمي كما تراه. * باحث في المناهج والبلاغة والسرد وتحليل الخطاب