إذا كانت الدولة تسعى فعلا إلى إصلاح التعليم وإخراجه من الخندق الذي يعشش فيه، فيبدو أن تجاوز الإملاءات الخارجية قد حان وقته، كما يبدو أن نهج سياسة مركزية تأتي بالقرارات من فوق وتسقطها على القطاع في تغييب تام لأهل الاختصاص يبدو أنه يحيد بنا عن طريق الإصلاح الحقيقي، في ظل حاجة المدرسة المغربية الماسة اليوم إلى مواكبة التقدم الحاصل في العالم، وفي الآن نفسه الارتقاء بالمدرسة المغربية للاستجابة لمتطلبات المجتمع المغربي وحاجيات متعلم اليوم. إن المراهنة على خطاب مركزي عمودي تأتي قراراته من الوزارة إلى المدرسة دون إشراك كافة الفاعلين لا يمكن أن يعطي أكله، لأن المدرسة في الواقع مجتمع مصغر، يحتاج بادئ ذي بدء إلى دراسته كواقع اجتماعي ونفسي وتربوي، دراسة تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي أوصلت هذه المدرسة المغربية إلى ما هي عليه اليوم، وإحاطة شاملة بواقعها من جميع جوانبه للوقوف على العلات والبحث عن الحلول الناجعة، فبدون تشخيص المرض الحقيقي الذي يعتور الواقع التعليمي المغربي، لا يمكننا أن نصل إل حل ناجع أبدا، وهنا لا بد من إشراك هيئات التعليم بكل مكوناتها وخاصة منها أهل الاختصاص في المجال. إن خبراء التعليم هم الذين تربطهم الصلة الوثقى بالمدرسة، وهم الذين لا هم لهم إلا المدرسة، وهم الحلقة الأهم داخل الحقل التربوي، وهم الذين يقفون في كل يوم على ثغرات التعليم، وهم الذين يستطيعون أن ينقلوا تحولات الفعل التربوي وتطوراته بين لحظة ولحظة وبلا توقف، لأنهم الأدرى بشعاب مكة، وبطرق إصلاح هذه الشعاب، وأبرز هؤلاء بلا منازع، هم الأساتذة وهيئة التأطير والمراقبة. إن الأستاذ خبير في التربية وباحث حقيقي في المجال إذا ما أتيحت له الفرصة للبحث والاشتغال عبر إشراكه في الإصلاح والأخذ بعين الاعتبار المجالس التربوية والتقارير التي يتم إنجازها في تلك المجالس، كما أن التقارير التي يرفعها المديرون عن الهيئة تبقى ذات أهمية قصوى في التعبير عما يجري في المدرسة، وإذا كانت هذه التقارير في الواقع تقرأ من طرف المسؤولين المباشرين، وإذا أردنا فعلا أن نداوي جروح المدرسة من خلال المدرس فلا بد من إعادة النظر في الطريقة التي نتعامل معه بها، انطلاقا من عدد ساعات العمل، مرورا بالراتب وصولا إلى الظروف العامة للاشتغال، حتى تتاح له فرصة الوقوف على مطالب التلميذ ومشاكل تعلمه، وفرصة معرفة مواقع الخلل، وفرصة توصيف العلاجات الممكنة. فإذا كنا نتباكى على ماضي المدرسة المغربية وننوه بمن تخرحوا فيها من الأطر العليا أيام زمان، فذلك راجع أساسا إلى ظروف العمل التي كان المدرس يشتغل فيها، حيث كان القسم يضم أقل من عشرين تلميذا، وكانت ظروف العمل العامة أحسن، كما أن المشكلات النفسية والاجتماعية المرتبطة بتحولات المجتمع المغربي اليوم لم تكن نفسها أمس، وفي فترة كان فيها التعليم الخصوصي حكرا على فئات بعينها. أما الآن وأمام واقع فيه من التلاميذ ما يناهز الخمسين .فمن الصعب طبعا أن نحاسب الأستاذ على أنه لا يعرف كيف يدبر قسمه أو يعالج مشكلاته، حيث تكون مهمة العلاج صعبة، في ظروف اشتغال صعبة، ينضاف فيها عدد التلاميذ إلى ارتفاع عدد ساعات العمل، وارتفاع عدد الدروس المقررة التي تجعل هاجس المدرس هو إتمام المقرر الدراسي في حينه. فضلا عن ضرورة تحسين ظروف الأستاذ للاشتغال فلا بد من إشراكه في الفعل التربوي، إذا علمنا أن معظم علماء الاجتماع والتربويين الغربيين قد تخرجوا من المدرسة، فلا بد من أن ننظر إلى الأستاذ على أنه أيضا مدبر وفاعل وباحث تربوي، ونأخذ برأيه في القرارات والمذكرات التي تمطر تباعا وتسقط كالمطر على الأستاذ فلا يجد بدا من تطبيقها دون فهمها في أحيان كثيرة، علما أن البيداغوجيات المستوردة غالبا ما تغيب ظروف المدرسة المغربية. أما المؤطر التربوي فإن ضرورة إشراكه في تدبير الفعل التربوي، وليس فقط في تمرير السياسات التربوية أو الإشراف والتأطير والتقويم، يأتي من كون مهامه الأساس التي من بينها الإشراف والتأطير والبحث التربوي، يأتي من كونه قادرا على الإحاطة الشاملة بالحقل التربوي، من خلال معاينته لما يقع في الساحة التربوية، ومن خلال عمليات التقويم التي تكفل له القدرة على تدبير الحقل التربوي، فضلا عن المشاركة في القرارات الكبرى في القطاع بدءا من البرامج والمناهج، وصولا إلى السياسات الكبرى والتدبير التي تضعها الوزارة بكافة خصوصيات القطاع. إن سهر المفتش التربوي على القطاع التربوي وقدرته على إثبات ذاته فيه تأتي أولا من احتكاكه المباشر بمختلف مكونات الحقل التربوي، بدءا من ملاحظة فعل التدريس مرورا بتتبع ما يأخذه المتعلمون وتقييمه، وصولا إلى عمليات التقويم للممارسة التعليمية والإدارية على المستوى المحلي والجهوي والوطني. إن محاولة وزارات سابقة إعاقة عمل المفتش وتخليصه من بعض المهام، وبالمقابل إسناد مهام أخرى ذات طابع إداري محض، جعلت هيئة التفتيش في الواقع تكتفي بخدمة مخططات مفبركة مسبقا، عوض المشاركة في الفعل التربوي والسياسة التربوية، فضلا عن كون هذه الهيئة أصبحت بفعل التهميش الممنهج للوزارات السابقة، أصبحت تكتفي بالأعمال المستعجلة المتعلقة بأطر التدريس والإدارة على حساب مهام أخرى أهمّ، من أبرزها البحث التربوي الذي بدونه لا يمكننا أن نرقى بالمدرسة المغربية. ويمكن الوقوف على بعض الاختلالت التي تعترض الهيئة، والتي من أبرزها عدم توصلهم بالمذكرات في وقتها، فضلا عن عدم إشراكهم في المذكرات التي تصدر، ومحاولة التفرقة بينهم من خلال التمييز في الوظيفة بين عمل التأطير وعمل التفتيش والمراقبة، وهو القضية التي يمكنها أن تكسر ظهر البعير فعلا، وبإمكانها أن تؤدي إلى مخرجات يكون المتضرر فيها القطاع التربوي برمته. إن الحكامة التربوية تقتضي المشاركة والمساءلة، وبدونهما لا يمكن الارتقاء بالمدرسة المغربية، والمشاركة أو الإشراك يقتضيان بداهة إشراك خبراء المدرسة من أساتذة ممارسين وأطر إدارية وهيئة التفتيش، عوض جعلهم آخر من يعلم، كما أن المحاسبة والمساءلة تقوم بالضرورة على تتبع ما تم إنجازه وتقييمه، وهذا الدور بدون منازع من اختصاص المفتشين، والذي لا يمكن أن يتم على أتم وجه في غياب الاستقلالية التامة للمفتش عن أي مديرية إقليمية أو جهوية، حتى يكون هناك معنى لما ينجز من تقارير وحتى يكون تقييم الفعل التربوي يأتي من صميم الإنجاز والمردودية والفعل وحتى لا يكون هناك أي تناقض بين ما تستضمره الوزارة من برامج للإصلاح وما يجري فعلا في الساحة التربوية. * سعيد سهمي- باحث