كان ذلك في خريف سنة 1984، بشارع للا الياقوت بالدارالبيضاء. كان المسرح البلدي لا يزال شامخا هناك، ومقهى «لاكوميدي» لا تزال عنوانا للإبداع المغربي وأسمائه الوازنة. كان المطر خفيفا، وريح خريف تهب تكنس أوراق الشجر على ضفاف الأرصفة. وإلى البعيد يصل صوتهم هادرا، بالشعارات الوطنية والتقدمية الغاضبة. كنا عشرات المئات من الشبيبة المغربية والعمال والطلبة، تداعوا ذلك المساء، والساعة قاربت الخامسة، إلى موعد عاشق مع الشعر. كان البرنامج متضمنا لأمسيتين شعريتين، الأولى للشاعر أحمد دحبور، بينما الثانية التي تم تغيير مكان لقائها بعد ذلك بيومين، إلى مسرح قاعة المكتبة الجامعية بشارع الجيش الملكي، كانت مخصصة للشاعر محمود درويش. كان المسرح البلدي قد امتلأ عن آخره، وضاقت جدرانه، وليس فقط مقاعده، بالحضور، بينما بقي في الخارج ضعف العدد الذي كان بداخل المسرح. كان الشعار واحدا: «الصحراء مغربية وفلسطين عربية»/ «هما فين هما فين ولاد الشعب المخطوفين»/ «قتلوهم عذبوهم ولاد الشعب يخلفوهم»/ «نعم سنموت ولكننا سنقتلع القمع عن شعبنا».. إلى آخر الأناشيد والشعارات الطلابية والشبيبية والعمالية للزمن الساخن لمرجل السياسة بالمغرب، حين كانت الحركة الإتحادية والحركة اليسارية، عبر المنظمة الطلابية الوازنة والقوية «الأوطم»، تدوزن معاني الفعل في الشارع العام المغربي. وحين أطل الشاعر على الشارع الهادر بالحناجر الملتهبة، بكى قصيدتين، ورفع شارة النصر من بعيد. كانت القصائد قد بدأت تملأ جنبات المسرح، والصمت سيد، حيث الجميع يصيخ السمع للشعر، حين وصل صراخ وأنين المصابين بالخارج، حين تدخلت جحافل كبيرة من قوات الأمن، من مختلف الأسلاك، بعنف لوقف النشيد الطلابي الذي كان يرقص في شارع للا الياقوت، وبدأت الأجساد تسقط هناك وهناك، وعملية كر وفر، تتواصل في الأزقة المجاورة، فيما توجهت أكبر مجموعة من الطلبة صوب شارع إدريس الحريزي نزولا صوب شارع محمد الخامس والسوق المركزي. كان تاريخ آخر يكتب هناك في تلك الأرصفة، عنوان حيوية وطنية وسياسية مغربية. وحين بلغ أنين المصابين، وأنين الشعارات الغاضبة، إلى سمع الشاعر (وقلبه)، قرر أن يوقف قراءة القصائد، معلنا تضامنه مع الجماهير المقموعة. وتم إخراجه بصعوبة من داخل بناية المسرح البلدي، والليل قد أرخى سدوله على الدنيا. كان الشاعر هو أحمد دحبور، إبن مدينة حيفا الفلسطينية، الذي توفي منذ يومين بمدينة رام الله بفلسطين، ليدفن غير بعيد عن رفيقه في الشعر وفي النضال الفلسطيني، الذي كان معه ذلك الخريف بالدارالبيضاء، محمود درويش. كان الشعر حينها يجمع الناس إليه بالآلاف، وكانت دواوين الشعراء توزن بميزان الذهب. وكان دحبور، عنوانا مستقلا في ذاكرة الشعر الفلسطيني والعربي، كونه من الأوائل الذين أدركوا أهمية المزاوجة بين القصيدة والأغنية، من خلال أعماله الرائدة التي خص بها مجموعة «فرقة أغاني العاشقين» الفلسطينية. تلك التي صارت أغانيها معنى فنيا لأجيال من الشبيبة العربية والمغربية، خاصة أغنية: «شوارع المخيم»/ «يا شعبي يا عود الند»/ «والله لأزرعك بالدار»/ «إشهد يا عالم»… بينما ركبت قصائد رفيقه وصديقه محمود درويش أفقا آخر للغناء والنشيد من خلال تجربة الفنان اللبناني مارسيل خليفة (أشهرها «أحمد العربي»). وحين صمت الشاعر دحبور، في الزمن الذي اختلطت فيه دروب المعركة على المناضل الوطني التحرري الفلسطيني، رجع إلى قصيدته وحيدا، يخاصم قبح العالم ويوبخ الأيام، تلك التي صدقت فيها نبوءته، حين صاح في العالمين في إحدى قصائده الخالدة: «ضبطت الصيرفي العجوز/ يرسم رأسا لجوادي/ فصحت بالفقراء/ أن احذروا/ إن بالموائد سما»… لأنه، ها قد فاض السم الزعاف بالمشرق العربي، حتى صارت الطفولة فيه تباد بالأسلحة الكيماوية، ويتفرق دم طفولتها وبراءتها بين المصالح. وصار العربي الأعزل هناك، مضغوطا بين جزمة الديكتاتور وبرامله المتفجرة، وبين منجل الذبح الأسود للحركات الدينية المتطرفة. وصار لا خيار أمامه سوى بين الموت هنا أو الموت هناك. أحمد دحبور، الذي أغمض عينيه عن قبح العالم هناك، ولد في حيفا سنة 1946، لكنه كبر في حمص السورية، غير بعيد عن أمكنة الإبادة الجديدة للحياة في أعين الطفولة السورية. ولأنه صاعد من تراب الوجع، في مخيمات اللاجئين والمهجرين، بين بيروت والجنوب اللبناني وحمص السورية، فإنه انتصر باكرا للفكرة اليسارية، وركب مغامرة الكتابة نثرا وشعرا، من خلال العديد من الدواوين والمقالات. حيث أصدر أكثر من 12 ديوان شعر (أشهرها: «بغير هذا جئت» / «واحد وعشرون بحرا»/ «حكاية الولد الفلسطيني»)، وترأس مجلة «اللوتس» لأكثر من 15 سنة، التي كانت صنوا آخر لمجلة «الكرمل» التي أصدرها رفيقه في القصيدة والشعر والأدب والموقف الوطني، الشاعر محمود درويش. مع ميل أكثر لدحبور صوب الموقف الجدري لليسار. في قصيدته «قمر الظهيرة»، كما لو أنه يخاطب جنون العالم مرة أخرى،، كما لو أنه يودع العالمين، حين يقول: على أني وحيد والعزاء معلَّق في سلة عبث الهواء بها فلا أعلو إليها وهي لا تدنو إلي لعل فاكهةً هناك لعل أعنابًا وأبوابًا ستفتح لي فأمسك ذيل أمي وهي تضحك حين أخبرها بأني ألمس الوحي كأني أدخل الدنيا كأني لم أكن فيها وأدرك أنني لا أملك الإقناع أمي أمس من ماتت وها أنا لم أمت إلا قليلاً وانبعثت فكيف أني بي أعزِّيها؟! إذن أين الطريق؟ وهل أعود من الكهولة أهتدي بدمي الذي ينمو مع الثمر؟ لماذا ليس لي عينان كالبشر؟