الشعر… هذا الكائن المتمرد دوماً، المنفلت من شقوق الأمكنة، الأزمنة، وشقوق الحضارات. نعم كل الحضارات غزاها هذا المارد الشقي وصولا إلى الحضارة الرقمية وشبكاتها المتشعبة. لقد اكتسحت هذه الحضارة كل ما حولها كما فعل الشعر نفسه. إنها نفس الغواية. بيد أن الشعر، وعبر كل المنافذ تسلل إلى عمق هذه الحضارة ليستوطن جهاتها الأربع، مهاجراً يتخطى منطق الحسابات والأرقام، والبوابات. فعبر ألف ليلة وليلة من المشي، تسللا، انتهى هذا المهاجر الآتي من عمق عروبتنا، حاملا بطاقة إقامة دائمة، ليتكلم لغة الحضارة الرقمية، ويحيا غير بعيد عن امتداداتها. إذا كان الشعر حضارة قديمة تحمل إيقاع تجددها بداخلها، فإنه استطاع أن يتعايش مع كل الأزمنة دون أن يتنازل عن خصوصياته وغاياته، فكيف أمكنه الآن، أن يتعايش مع منطق حضارة رقمية اعتادت أن تُكره ما حولها على الإذعان لمدها الجارف، منطقاً وتجدداً؟؟؟ هل فعلا تعايش الشعر والحضارة الرقمية؟؟؟ أم أنها جرفته بالقوة الجبارة التي جعلت « الناس وكأنهم في خلاط كبير» كما قال عبد الكريم بكار؟؟؟ فإذا ما تم للشعر أن يُساق مرغماً إلى دهاليز هذا « الخلاط الكبير»، فكيف له أن يحافظ على بهائه، وشفافيته، وطعمه الذي لا يقاوم؟؟؟ إن الحضارة الرقمية أو هذا « الخلاط الرقمي» لا يأبه بنقاء النوع، ولا ببهائه. فكل ما تحتويه أذرع العنكبوت قابل « للهضم»… لا فرق بين جميل وبشع… بين أصيل وابن لحظة طيش، وبين الشعر وما يشبهه. لذا لم يكن للشعراء خيار إلا اكتشاف دروب هذه الحضارة ومغاليقها. فهم جميعاُ، مجبرون على الابحار، ولو قليلاً، في خضم هذا العالم الافتراضي، كلّ بطريقته الفضلى: إن قراءة أو نشراً. إنها ضرورة العولمة الرقمية، إن لم نقل الإكراه الرقمي في صيغه الجذابة. فمَنْ دفع «الشاعر» إذن، لتدمير مسوداته الورقية، والضغط على مفاتيح هذه الحضارة وأيقوناتها، بحثاً عن شهرة، عن نص آخر، وعن أدوات أخر تجعل من كلمات الشعر أكثر تداولا من حبات « الأسبرين». إنه الخروج المتمرد عن شعاب البداوة الشعرية، وممرات تسكعها بين الحانات، والحارات الشعبية، وحالات الحب المسكر، إلى عرف التمدن المنشطر ما بين عنف الكينونة البدوية القابعة فينا، وما بين طموح « متمدن» مفترض. فإلى أي حد أضاءت مصابيح المدنية الرقمية ظلمة « تخلف» هذا الشاعر الفكري، والإبداعي؟؟؟ أليس من حقنا أن نتساءل عن هذا الشاعر الرقمي المتمدن: أهو أكثر خرقاً للقيم الفنية المتداولة من شعراء المد الورقي، أكثر جرأة، وأكثر ثورة على أنماط الكتابة الشعرية النمطية؟؟؟ إن لم يكن الجواب بالإيجاب، فإن الحضارة الرقمية المتمدنة هي مجرد وهْم بات يتدثر به كل عار من فلسفات الشعر، وامتداداته الأكثر طراوة. قد تتساوى عوالم الشعر وعوالم الحضارة الرقمية في اشتراكهما في رسم أفق الانزياحات، وهندسة مدن اللامعقول، حيث يتحول الضيق اتساعاً، ويتحول المتخيل واقعاً يمتص عرق الأصابع الباحثة عن وجود مطلق لا يعترف بوجودها النسبي. لكن كلما اتسعت آفاق هذه الحضارة، خلقاً، وتصوراً، كلما ازداد الشعر غربة بين منعرجاتها، غربة لم يحسّها يوماً، بين ضفتي ديوان ورقي. إن الحضارة الرقمية، ورغم كل المباهج التي توزعها بين اللحظة واللحظة، لم تستطع أن تخلق للشعر متعة ملامسة جسد القارئ. لم يستطع هذا الشعر أن يصبح قطعة من هذا الجسد العابر للأحاسيس، ولا مجرد أيقونة خطية تلامس حروفها عطش يديه المتتبعة أصابعها وهج اللذة الغارقة في سواد الحبر. من المنصف القول إن هذه الحضارة أفرزت جماليات على مستوى الصورة والنموذج. فخلقت وجوهاً مألوفة على كل الصفحات، لكنها للأسف، لم تخلق شعراً… أفرزت ألبومات صور بوضعيات متعددة، وبألوان زاهية، عوضت زهو القصيدة، وعنفوانها الباذخ. نتساءل: هل تناقص تداول أشعار المتنبي، أو السياب، أو أمل دنقل، أو صاحب»الفروسية»، لأن الحضارة الرقمية جاءت متأخرة عن ميلاد أشعارهم الخالدة؟!! كنا نمسك بالقصيدة بين أيدينا فترتج مواطئ أقدامنا، فنسمع صدى الحروف بين عروقنا صاعداً/هابطاً كأنه دمنا. فلا فرق بين دمنا، والحروف. كنا نستمتع بقصيدة تتناقلها الأصداء، والأوراق القديمة، والملاحق الثقافية للصحف في الزوايا، في المدرجات، تحت ضوء ساقط من مصباح أو مجرد شمعة. الآن، ماذا تبقى من الشعر بعدما أوهم « الخلاط الرقمي» آلاف الأقلام بإمكانية التحول من ظل كامن إلى صوت متحرك وصورة وبعض من كلمات. لقد تحول الشعر في ظل هذه الحضارة إلى لعبة لا يهمها الإمتاع كمقصدية فلسفية ورؤية إبداع وتلقي، بالقدر الذي تبحث فيه عن إدخال « لاعبيها» في حالات من تضخم الأنا. هذا التضخم الذي يرهن «الشاعر» في أجواء نفسية من النجومية المفترضة والنابعة، حقيقة، من ثقل الصورة الفوتوغرافية وتوابعها، لا من ثقل الشعر وحضوره. لقد سُلب الشعر الاحتكاك بالآخر الحقيقي، بعدما أضحى الاحتكاك بالآخر المفترض حجة من لا حجة له في الواقع الشعري. إن التفاعل عن بُعد، بين الشعر والمتلقي يفقد مصداقيته، كلما ذابت حدود التواصل الأدبي متحولة إلى عتبات من المجاملة بعيداً عن النقد الحق والمتابعة الفكرية. فأي « مجد» أدبي يمكنه أن يبنى على هشاشة المواقف، فلسفة وفكراً؟؟ أتدرون: كم من نص شعري لم يستطع أن يجد له مكاناً في صحيفة، أو ملحق ثقافي، أو مجلة فكرية؟؟ لا لكونه طويلا جداً، أو قصيراً لحد لا يحتمل. بل لكونه رديئاً جداً جداً. لكن الآن، كل هذه النصوص تطالعنا، متشفية في الرقيب الأدبي، وهي في أبهى الحلل بفضل الحضارة الرقمية. فهذه الأخيرة تكرهك على أن تحتكّ بالرديء وإن عرضاً. فهي تجيز للكل بأن يتكلم بصوت الشعر وباسمه. فإذا كانت رقابة الواقع تمنع بالقوة أشباه النصوص من الإجازة الشعرية، فإن « فوضى» حضارة التواصل الرقمي أباحت لصورة « الشاعر» أن تنوب عن أشعاره. أخيراً، أطرح هذا التساؤل ما دام للحديث بقية: هل أكرهتنا فعلا، الحضارة الرقمية، باسم العولمة والتحديث، على التواطؤ المدمر لرونق الشعر؟؟ أم أننا مجرد قطيع مهرولين، لا علاقة لنا، بهذه الحضارة ولا بالشعر نفسه؟؟؟