لا يمكن الحديث عن المسرح المغربي دون استحضار تجربة عميد المسرح المغربي الأستاذ عبد القادر البدوي، الذي يحتفل هذه السنة بالذكرى 67 لوقوفه على خشبة المسرح. عمر مسرحي مديد، قدم خلاله روائع وتحف مسرحية خالدة، لتجعل منه أحد الأضلاع الكبرى والدعامات الرئيسية للمسرح المغربي، الذي قدر له أن يعيش اليوم تراجعا كبيرا، بفعل غياب سياسة ثقافية، تجعل من أبي الفنون رافعة وقاطرة تجر وراءها باقي الأصناف الفنية. تجربة مسرح البدوي تعدت الحدود، ودخلت مناهج التعليم الأكاديمي في العديد من الجامعات المغربية، العربية و الدولية، تعززت بالتحاق أبناء الأستاذ عبد القادر البدوي بكل من مصر، بلجيكا و الولاياتالمتحدةالأمريكية من أجل الدراسة الأكاديمية الفنية المتخصصة فعادوا محملين بشواهد عليا و بتجارب فنية أخرى، تفاعلت مع فكر الأب عبد القادرالبدوي وانصهرت، فانعكست إيجابا على هذه التجربة الفنية الرائدة. ويصفه البعض بزعيم المسرح الثوري المغربي، والبعض الآخر أطلق عليه اسم بنبركة المسرحي، وفئة أخرى، ترى فيه مشاغبا، ومعارضا يجب الحذر منه، وتحجيمه. رجل بهذا الزخم وهذا العطاء، يستحق منا أن ننبش في ذاكرته، ونغوص معه في أحداث هذه السنوات الطويلة، لنكون فكرة عن ماضي وبالتالي عن واقع المسرح المغربي. من خلال هذه السلسلة الحوارية التي قررنا أن» نتطاول» فيها على ماضي وحاضر العميد عبد القادر البدوي. o كيف كانت علاقتكم بالأحزاب السياسية في فترة ما قبل الاستقلال؟ n كانت الحركة الوطنية نشيطة بمختلف أحياء مدينة الدارالبيضاء. وعلى المستوى السياسي كان لحزبي الاستقلال والشورى والاستقلال حضور قوي وفاعل، وبجانبهما الحزب الشيوعي،الذي تأسس في سنة 1943. هذا الحزب ورغم أنه كان ينادي هو الآخر بالاستقلال والتحرر، فإن سيطرة الفكر السلفي وتغلغله القوي آنذاك في صفوف الحركة الوطنية، جعل حضوره يكون أقل مما كان عليه الأمر بالنسبة للحزبين الآخرين، اللذين كانت لهما شعبية جارفة. لكن في مقابل هذا كان للحزب الشيوعي امتداد نقابي ملحوظ، لأن أبرز الزعماء النقابيين، الذي سيشدون الانتباه فيما بعد، كانوا أعضاء بهذا الحزب، لسبب واحد هو أن نقابة «C G T « كانت تابعة للحزب الشيوعي الفرنسي. o يلاحظ أن المسرحيات التي ألفتها كانت ذات توجه اشتراكي وشيوعي، علما بأنك في هذه الفترة كنت منفتحا أكثر على حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال، اللذين كان لهما توجه سلفي. لماذا هذا التناقض؟ n بالعكس ليس هناك أي تناقض. فقد تأثرت بالاشتراكية العلمية من خلال علاقتي بالأحزاب الوطنية وأعضائها، فضلا عن قراءتي للعديد من المسرحيات، التي تحمل توجها اشتراكيا. قرأت المسرح الروسي بكامله، وحتى المسرح الفرنسي، فإن أغلب الكتاب الذين كتبوا فيه كانوا بتوجه اشتراكي، لكن بالرغم من ذلك تجد دائما في أعمالي حضور النفحة الإسلامية، لكن بمفهوم حداثي. o في هذه الفترة برزت في منطقة درب السلطان أسماء، سيكون لها شأن في الحياة السياسة المغربية في فترة الاستقلال، كيف كانت علاقتك بهم؟ n في الحقيقة كنت أكن لهم كل التقدير والاحترام وكذا الأستاذية، لأنني كنت أعتبرهم أستاذة، ولا سيما في تلك الفترة، كعلي يعتة والسي عبد الرحمان اليوسفي، والمعطي بوعبيد، الذي كان حينها يمثل جيل الشباب داخل حزب الاستقلال، ولكنه لم يكن يقدم أي إشارات حول إمكانية توليه مناصب قيادية. بينما اليوسفي ويعتة كانت بوادر القيادة بادية عليهما أكثر، إلى جانب عبد السلام بورقية، الذي كان مفكرا ومنظرا من الدرجة الرفيعة، وأيضا الدكتور عزيز بلال. o لنفصل في الأمر أكثر، كيف كانت علاقتك بعلي يعتة؟ n ما لا يعرفه الكثيرون عن هذا الزعيم السياسي، هو أنه ورغم كونه شيوعيا، إلا أنه كان يحمل في عمقه تكوينا إسلاميا كبيرا. فقد حاملا لكتاب الله، ومتفقها في الأمور الدينية. ومعرفتي بعلي يعتة كانت متينة، لأن عائلته مرتبطة بعلاقة صداقة كبيرة بعائلتي. يمكن اعتبار أن علي يعتة من الشخصيات التي سيخلدها تاريخ المغرب الحديث، لكنه مع الأسف وفي إحدى الفترات تعرض للظلم، ليتأكد بعدها أن كل ما كتبه وقاله هذا الزعيم السياسي كان في صالح المغرب، وقضية وحدته الترابية. وعلى المستوى الشخصي كان علي يعتة يحضر بشكل دائم للعروض التي كنا نقدمها قبل الاستقلال، وبعد أن اكتريت ناديا وجعله مقرا لفرقتي المسرحية بعد الاستقلال كان يزورني فيه. كانت له ثقافة مسرحية كبيرة. حيث أنه في إحدى المرات، وبينما كنا نتجاذب أطراف النقاش، استغرب كيف أنني مهتم كثيرا بالمسرح الروسي. سألني عن سبب اهتمامي بهذا المسرح. أجبته بأنني لم أختره عبثا، وإنما لكون الأدباء الذين برزوا فيه كانوا من العظماء مثل ماكسيم جوركي وأنطوان تشيكوف وتولستوي، والذين قرأت كتاباتهم قبل الاستقلال. وتولستوي يمكن اعتباره أول من نادى بالاشتراكية في الأدب الروسي وطالب توزيع الأراضي على الفقراء. كان علي يعتة يقدرني كثيرا، ويستدعيني لكل المناسبات والتجمعات التي ينظمها، بل وحتى في بعض المناسبات العائلية. كان يشعرني في تلك الفترة بأن لي شأنا كبيرا أو سيكون لي شأن في المستقبل. o هل كانت علاقتك بعزيز بلال، امتدادا لعلاقتك بعلي يعتة؟ n كان الدكتور عزيز بلال تحفة نادرة، وقيمة علمية كبيرة تمت هبها المغرب، لكن فقدها المغرب مثلما فقد أناسا آخرين في مجالات متعددة. كان عالم اقتصاد من الطينة الرفيعة. رجل اجتمعت فيه كل قيم ومعاني النبل والوطنية والتواضع. - أحزنني كثيرا فقدانه، خاصة وأنه ربطني به الكثير من المواقف الإنسانية. لقد ساعدني كثيرا حينما كان شقيقي عبد الرحيم، الذي كان بمثابة ابني، طالبا في شعبة الاقتصاد. وبعد أن حصل على الإجازة، طلب مني أن أبعثة للدراسة بفرنسا حتى يربح سنة من عمره، حيث عوض أن يدرس سنتين بالمغربي سيكتفي بسنة في فرنسا، ولما حصل على ديبلوم الدراسات العليا، عاد إلى المغرب وهيأ للدكتوراة مع الأستاذ عزيز بلال. وبعد أن حصل على هذه الشهادة دعوت الدكتور بلال وأعضاء اللجنة المشرفة على بحث الدكتوراة إلى أحد مطاعم الدارالبيضاء، غير أن المفاجأة الكبرى هي أن الدكتور عزيز بلال هو من أدى ثمن الفاتورة. تسمرت في مكاني من شدة المفاجأة، واغرورقت عيناي دمعا، لأنه سلوك نبيل لا يمكن أن ينبعث إلا من رجل بقيمة هذا الاقتصادي الكبير. وبعد أن سألته عن السبب الذي جعله يقوم بأداء الفاتورة وأنا صاحب الدعوة، أجابني في تواضع «حشومة السي البدوي» أنا أعرف مدى النضال الذي تقوم به، وأعرف أيضا حدود إمكانياتك، ولهذا لا يمكن لي أن أقبل على نفسي أن تؤدي عنه عني ثمن فاتورة عشاء، فانا من يجب أن يدعوك ويحتفي بك. o ما الذي ميز علاقتك بعزيز بلال؟ n شخص بكفاءة وقيمة عزيز بلال العلمية، ونبل أخلاقه، لا يمكن إلا يفيد أي أحد احتك به، ولو من بعيد. o ألم يقترح عليك مثلا أن تشغل على تيمة معينة في مسرحياتك؟ n إطلاقا. وللأمانة، فكل السياسيين الذين كنت على اتصال بهم، لم يحدث أن تدخلوا في نشاطي المسرحي، وإنما كانوا يقدمون لي بعض الملاحظات عند مشاهدتهم للعمل، وطبعا كنت آخذ بها، لأنني أثق في نظرتهم للأمور. o حدث ذات مرة أن اقتُرح عليك ترجمة مسرحية العاطلون إلى اللغة الفرنسية. من الذي طلب منك ذلك؟ n علي يعتة هو من بادر إلى طرح الفكرة في سنة 1959، قبل أن أعيد كتباتها بشكل جديد في سنة 1960، عقب العودة من أفينيون. وبصراحة فقد فرحت كثيرا لهذه المبادرة، خاصة عندما كلف بعض الأشخاص بالترجمة. لكن مع الأسف لم يتحمل هؤلاء الأشخاص مسؤوليتهم، وأقبر المشروع. o وماذا عن الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي؟ n الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي كان من معارف والدي، بكم الانتماء إلى نفس المدينة، وهي طنجة، غير أن علاقتي به بدأت في سنة 1947، عندما كان من المؤطرين والموجهين للحفلات التي شهدتها أحياء مدينة الدارالبيضاء في شهر رمضان، بمبادرة من الحركة الوطنية، وخاصة حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال. شاركت باسم المدرسة التي كنت أدرس بها في هذه الحفلات، وكان اليوسفي مسؤولا على منصة درب الأحباس. وتطورت العلاقة فيما بعد، حيث كان يشيد بالمسرحيات التي قدمتها في بداية الخمسينات، وكان يحثني على مواصلة نفس العطاء. والمعروف عن السي عبد الرحمان أنه رجل لا يتكلم كثيرا، وينصت كثيرا، فكيفي أن يقول كلمتين أو ثلاثا ليوصل الفكرة التي يريد. وحتى عندما زرته في الآونة الأخيرة بمنزله، كنا نحن من يتكلم، أما هو فكانت كلماته قليلة. وفي عز الإعداد للمؤتمر الأول لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سيوجه لي السي عبد الرحمان دعوة لإحياء عرض بمدينة طنجة، في نفس السينما التي سيلقي فيها هو محاضرة، أثني فيها علي، وشكرني على قبول الدعوة. كما أنه أشار إلى أنني ابن الحركة الوطنية، وتربيت على يد كبار الزعماء السياسيين. فكانت كلمته في حقي أحسن تتويج. والذي أتأسف له أنه حينما تقلد مسؤولية رئاسة الحكومة لم تساعدني الظروف كي ألتقيه. وربما قد يكون الأمر تقصيرا مني شخصيا. فقد بلغني ذات مرة أنه حينما كان في زيارة إلى الهند، وجد عند صعوده إلى الطائرة مجموعة من المثقفين، أغلبهم فرنكفونيين، ولم أكن منهم، ما جعل الأستاذ محمد الصبري، المناضل السياسي الكبير، والمخلص لحزب الاتحاد الاشتراكي، يسألني عن سبب عدم تواجدي ضمن الوفد المغربي، فقلت له أنه لم يستدعني أحد. اتصل بالسي عبد الرحمان بعد عودته من السفر، وسأله عن سبب إسقاط اسم عبد القادر البدوي من لائحة المرافقين له، فأجابه بأنه لم يعرف أي شيء عن الموضوع، وأنه فوجئ بالمرافقين له في الطائرة. وأضاف أنه لم يعرف حتى الجهة التي وجهت إليهم الدعوة. o كانت لك معه ذكرى أخرى بسينما الكواكب، حيث سلمك جائزة، في أي مناسبة حدث ذلك؟ n بعد أن تأسس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، نظم تجمع بسينما الكواكب، في سنة 1959. وسلمني حينها جائزة، بعد أن قرر الحزب تكريمي رفقة مجمعة من الشباب الآخرين كانوا بارزين في مجالات أخرى. ولي معه صورة مازلت أحتفظ بها، ونشرت بالجريدة. وأثناء تسلمي الجائزة، قال لي السي عبد الرحمان إن هذه الجائزة هي اعتراف من الحزب، وأنت تستحق أكثر منها. شكرته وقلت له إن وجودي في هذا المكان، ورفقة هذه الشخصيات الكبيرة هو أكبر تقدير. o أكيد أن الصلة انقطعت بالسي عبد الرحمان طيلة السنوات التي عاشها بالمنفى، كيف كان أول لقاء لك به عند عودته إلى المغرب؟ n ذهبت لزيارته في بيته، وفي مثل هذه الزيارات يكون أشخاص آخرون متواجدون لنفس الغرض، مما يجعل اللقاء أشبه بلقاء رسمي، يتم خلاله الحديث عن الصحة والأحوال. وقلت له بأنه كان دائما حاضرا معنا رغم المنفى، الذي عشته من أجلنا، وعودتك اليوم بالتأكيد من أجلنا. o ما هي أبرز المحطات التي طبعت علاقتك بالسي عبد الرحمان؟ n أريد أن قول شيئا للتاريخ، لم أجعل طيلة مساري الفني من علاقاتي بمثل هذه الشخصيات وسيلة لتحقيق بعض طموحاتي. ويكفيني فخرا أن يكونوا راضين عني، واعتبرهم جزء من جمهوري العريض، حيث شاهدوا العديد من أعمالي، وكانوا يشيدون بما أقدم، ويطلبون المزيد، مؤكدين على هذا هو النوع المسرحي الذي يحتاجه المغاربة. غير أنني بعد أن تولى السي عبد الرحمان زمام المسؤولية، لم يتصل بي، لأنه لي معه تاريخ كبير، ومازلت أطرح السؤال إلى الآن. لكن يكفني فخرا أنني قضيت معه فترة نضالية لا يمكن القفز عليها في تاريخ المغرب الحديث.