لا يمكن الحديث عن المسرح المغربي دون استحضار تجربة عميد المسرح المغربي الأستاذ عبد القادر البدوي، الذي يحتفل هذه السنة بالذكرى 67 لوقوفه على خشبة المسرح. عمر مسرحي مديد، قدم خلاله روائع وتحف مسرحية خالدة، لتجعل منه أحد الأضلاع الكبرى والدعامات الرئيسية للمسرح المغربي، الذي قدر له أن يعيش اليوم تراجعا كبيرا، بفعل غياب سياسة ثقافية، تجعل من أبي الفنون رافعة وقاطرة تجر وراءها باقي الأصناف الفنية. تجربة مسرح البدوي تعدت الحدود، ودخلت مناهج التعليم الأكاديمي في العديد من الجامعات المغربية، العربية و الدولية، تعززت بالتحاق أبناء الأستاذ عبد القادر البدوي بكل من مصر، بلجيكا و الولاياتالمتحدةالأمريكية من أجل الدراسة الأكاديمية الفنية المتخصصة فعادوا محملين بشواهد عليا و بتجارب فنية أخرى، تفاعلت مع فكر الأب عبد القادرالبدوي وانصهرت، فانعكست إيجابا على هذه التجربة الفنية الرائدة. ويصفه البعض بزعيم المسرح الثوري المغربي، والبعض الآخر أطلق عليه اسم بنبركة المسرحي، وفئة أخرى، ترى فيه مشاغبا، ومعارضا يجب الحذر منه، وتحجيمه. رجل بهذا الزخم وهذا العطاء، يستحق منا أن ننبش في ذاكرته، ونغوص معه في أحداث هذه السنوات الطويلة، لنكون فكرة عن ماضي وبالتالي عن واقع المسرح المغربي. من خلال هذه السلسلة الحوارية التي قررنا أن» نتطاول» فيها على ماضي وحاضر العميد عبد القادر البدوي. o كيف جاء اعتقالك من خشبة المسرح في سنة 1952؟ n بعد انتهائنا من عرض مسرحية " البياعة ماتشوفو رسول الله" سنة 1952 بمقر نقابة (C G T )، الذي احتضن تجمعا حاشدا بمناسبة اغتيال الزعيم التونسي. كان ذلك اليوم مشحونا حضرت فيه الحركة الوطنية والنقابية، فضلا عن حضور جماهيري كبير. أُلقيت كلمات سياسية وخطابات قوية. تفاعل الحضور مع أحداث المسرحية بشكل ملحوظ، لدرجة أن القاعة اهتزت بعد النهاية وانخرط الجميع في ترديد عبارة " البياعة ماتشوفو رسول الله". بعد الانتهاء من العرض طوقت قوات الأمن المكان، وجمعونا رفقة مجموعة من الزعماء داخل شاحنات عسكرية، في مظهر عدواني، نلنا فيه ما نلنا من تعنيف واعتداء. سيق الجميع إلى مخفر بالميناء، وأودعنا بقباء مظلمة لمدة 24 يوما. وفي اليوم الأخير، استدعانا قبطان عسكري فرنسي إلى مكتبه، وكان يتكلم الدارجة المغربية بطلاقة. سألنا عن سبب اعتقالنا، فأخبرناه أننا عمال وممثلون مسرحيون، قدمنا مسرحية بمقر (C G T ) للطبقة العاملة. ثم خاطبني: هل أنت من ألف هذه المسرحية؟، أجبته: نعم، فقال لي لماذا تناهض الاستعمار ؟ قلت له بأن تربيتي تقوم على رفض التبعية، وبلدي لا يمكن أن يظل مستعمرا، وهذا حلم مشروع، وحينما كتبت هذه المسرحية، فإنني عارضت الخونة، وناديت بحق بلدي في الاستقلال. ثم قلت له أيضا: أخاطب فيك الإنسان المثقف لأقول له إن فرنسا تحررت من الاستعمار بالمسرح. وأن جان بول سارتر حينما كتب مسرحية الذباب، فقد قصد بها العسكر الألماني. ضحك المسؤول الفرنسي وقال لي إنه سيطلق سراحنا، بشرط عدم تكرار الأمر ، ولو قبض علينا من جديد فإنه سينفينا إلى الصحراء. شاهدنا أن العسكر منتشر بقوة في المكان، فطلبت منه أن يسلمنا رخصة المرور حتى لا يتم إلقاء القبض علينا بالحواجز الأمنية. لنغادر المرسى مشيا على الأقدام إلى غاية درب الأحباس. o كيف تلقت العائلة خبر اعتقالك؟ n كأي أب وأي أم يعتقل فلذة كبدهما، غير أن والدي كان واعيا بمثل هذه الأشياء بحكم انتمائه إلى الحركة الوطنية، لكن الأم تقبلت الأمر بصعوبة بالغة، لأنني كنت مقربا جدا منها، كما أن في هذه الفترة كان أخي عبد النبي قد توفي. فكان اعتقالي صدمة كبيرة لها. o ألم يطلبا منك وقف نشاطك المسرحي ؟ n أبدا، لم يطلبا مني ذلك، علما بأنني في هذه الفترة اختلقت لأمي العديد من المشاكل، ومع ذلك كانت تسامحني، لدرجة أنني في إحدى المرات، حلمت لها صديقا لي أصيب في مباراة لكرة القدم، لأن علبة الدواء نسيتها بالمنزل. كنا نحمل الطفل المصاب على أكتافنا، ونحن فرحون بفوزنا في المباراة. هال والدتي المنظر لأن الدماء كانت تسيل من المصاب، فرمت لي بعلبة الدواء، وغادرت المكان. لأنها لم تكن تتحمل مثل هذه المناظر. وفي هذه الفترة سيتعزز مشواري المسرحي، بمسرحيات المظلومون، وكفاح العمال والعامل المطرود ، بالإضافة إلى البياعة ماتشوفو رسول الله. واصلت عرضها إلى غاية الاستقلال، حيث كان الخيط الناظم الذي يجمع كل هذه المسرحيات هو الدفاع عن حقوق العمال، وطلب الاستقلال. كنا نقدم عروضنا للعموم، وبدأنا هنا ننفتح هلى باقي أحياء الدارالبيضاء، حيث عرضنا بسينما السعادة بالحي المحمدي، وبكاريان سيدي عبد الله بلحاج بعين السبع، حيث نصبوا خيمة كبيرة وجهزوا بها منصة. كنا نشارك في إحياء الحفلات الخاصة كالعقيقة وأعياد الميلاد وغيرها. فأخذت شهرة الفرقة تكبر ، وبدأت دائرة إشعاعها في الاتساع. o ماهي النافذة التي فتح عليك المسرح العمالي، وماهي أبرز الوجوه التي ستتعرف عليها في هذه الفترة؟ n سأتعرف هنا إلى شخصية وطنية كبيرة، وهي حميدو الوطني، الذي كان يقطن بشارع الفداء، وكان له معمل بالقرب من القصر الملكي بطريق مديونة . كان هذا الشخص يقدم لنا الكثير من الدعم، لدرجة أنه كان ينقلنا بسيارته الخاصة، ويكون إلى جانبنا في الحفلات التي نحييها. كانت لحميدو الوطني غيرة كبيرة على الوطن، وكان من المقاومين الأفذاذ، ومعروف في أوساط المقاومة المغربية، لكنه مع الأسف سيقتل في عهد الاستقلال برصاصة رجل أمن. o هل كانت إلى جانب فرقة أشبال العمال، فرقة عمالية أخرى؟ n أبدا، فقد كنا الفرقة العمالية الوحيدة في تلك الفترة. وعلى من ادعى وجوده في هذه الفترة أن يقدم الوثائق التي تؤكد صدقية ادعائه. صحيح كانت هناك فرق مسرحية أخرى كفرقة الأطلس بالمدينة وفرقة الفوز وفرقة المنار بدرب السلطان وفرقة العروبة وفرقة الرجاء، لكنها لم تكن ذات طابع عمالي. o ما هي الخلفية الفكرية والإيديولوجية التي اشتغلت عليها في هذه الفترة؟ n باعتباري ابن الطبقة العاملة، كان هاجسي الأول هو الرفع من مستوى الطبقة العاملة. وكان رهاني هو أن تجد هذه الشريحة من المجتمع مكانا لها بالأحزاب والمجالس البلدية والبرلمان ولم لا الحكومة. وهذا جوهر أهداف الحركة الاشتراكية، والذي انفتحت عليه من خلال التجارب المسرحية العالمية. كنت أسعى لجعل العامل صاحب قرار. فناديت بتحسين أوضاعه عبر تكوينه والرفع من مستواه المعرفي، حتى يكون له دور فاعل في الحياة المجتمعية. كانت عروضنا تلاقي تجاوبا كبيرا من طرف الجماهير، لدرجة أنني في كل عرض كنت أقول أنه الأحسن، فإذا بالعرض الذي يليه يكون أحسن. كنا نفتح الستار على إيقاع زغاريد النساء ونسدله عليها. وهنا أحي المرأة المغربية المناضلة، التي كانت دائما متواجدة في الساحة، لدرجة أن كل العروض التي كنا نقدمها في تلك الفترة كان أكثر الحاضرين إليها نساء، وكنا يأتين للمسرح بغرض الاستفادة و البحث عن الوعي. وليس من أجل افرجة فقط o كم عرضا كنتم تقدمون في الأسبوع؟ n حسب الظروف، فيمكن أن يكون واحد ويمكن أن يكونوا أربعة. كانت عروضنا مقتصرة على الدارالبيضاء، التي لم نعرض خارجها إلا بعد الاستقلال، حيث ستفتح لنا الحركة النقابية والعمالية المجال لنقدم عروضنا في باقي المدن المغربية. ومن النقط التي لا يمكن لي القفز عليها في هذه الفترة أننا كنا نقضي كل سنة عطلتنا السنوية بمدينة طنجة، هذه المدنية لم نكن ندخلها إلا بجواز السفر، لأنها كانت منطقة دولية. كنا نقدم نوعين من جواز السفر، واحد ندخل بها المنطقة المستعمرة من طرف إسبانيا، والثاني نقدمه قبل 25 كلم عن المنطقة الدولية. كانت بمدينة طنجة حركة ثقافية كبرى، كما أنها شهدت أكبر حركة إعلامية إلى جانب جارتها تطوان. هاتان المدينتان كانتا مشتعلتين سياسيا وفكريا. كانت لي بمدينة البوغاز عدة صداقات، أبرزهامع الفنان التشكيلي محمد الشنتوف رحمه الله، والذي مارس التمثيل كذلك، وأيضا محمد الريفي ومجموعة أخرى ممن كان يطلق عليهم أولاد السواني. في إحدى زياراتي لهذه المدينة في بداية الخمسينات، رافقت أصدقائي إلى إحدى المقاهي، والتي كانت مساحتها شاسعة، ويفترش زبناؤها الحصير، وهم يلعبون "الكارطا والضاما". وجدت أن بها خشبة، فقفزت إلى ذهني فكرة جعلها فضاء للعروض، وتحويلها إلى مسرح المقهى. تعجب أصدقائي للفكرة، غير أنني أقنعتهم، وفعلا أسسنا فرقة مسرحية في الحين، وأطلقنا عليها اسم فرقة السواني للمسرح، وهيأنا مسرحية وعرضناها في ذلك الفضاء، الذي لم يعد الحضور إليه مقتصرا على الزبناء فقط، بل أصبح يفد عليه حتى سكان المنطقة. كانت بطنجة قاعة سينما مشهورة تدعى فوكس، التي كانت مختصة في عرض الأفلام المصرية، وكانت الإقبال كثيفا عليها في كل فترات العرض. كما كانت العروض الفنية والمسرحية تقام أيضا في مسرح سيرفانطيس. وهنا سألت بعض المقربين مني عن الجهة التي شيدت هذا المسرح، فقيل لي إن أخوين إسبانيين كانا من التجار الكبار في اللحوم، وهما اللذين كانا يوردان اللحوم إلى مدينة طنجة. اقتنيا أرضا بمدينة البوغاز، وشيدا عليها مسرح سيرفانطيس بوسائلهما الخاصة. وهذا يبين أن الثقافة في البلدان الراقية ليست حكرا على القطاع العام، بل يساهم فيها حتى القطاع الخاص. وهنا أقول للخواص المغاربة إنهم لم يصلوا بعد إلى درجة المواطنة، لأنهم اختاروا أن يستثمروا أموالهم بعيدا عن الثقافة والفكر. فالمواطنة الحقة تقتضي من صاحبها أن يساهم في رقي مجتمعه، وأن يبادر إلى الاستثمار في كافة القطاعات، وأن يساهم في إنعاش الحركة الفنية والثقافية من خلال بناء المسارح وقاعات السينما. o في سنة 1953 تم نفي الملك محمد الخامس، واشتعال المقاومة ضد الاستعمار، كيف عشتم هذا الحدث مسرحيا؟ n كان نفي محمد الخامس حدثا أثار استياء كافة الشعب المغربي، الذي كان متعلقا بملكه، وسيزداد تعلقهم به عندما يعلموا بأنه ضحى بعرشه وبنفسه وبأسرته من أجل استقلال البلد. فكان الأمر أشبه بتعاقد جديد بين العرش والشعب. قمنا في هذه الفترة باختصار أعمالنا المسرحية، وعرض الأهم منها في التجمعات السرية، من أجل شحذ همم المغاربة، ودفعهم إلى المقاومة من أجل الحصول على الاستقلال، وعودة الملك محمد الخامس.كان حضوري لافتا، بالنظر إلى العلاقات التي كانت تربطني ببعض أعضاء المقاومة، وكذا زعماء النقابة بشركة التبغ، حيث كنت أقوم بكتابة المناشير والشعارات. كنا في هذه الفترة قد انتقلنا إلى درب الفقراء، بالزنقة 5، وكان منزلنا يطل على الشارع. وفي أحد الأيام قام أحد المقاومين بقتل أحد المقدمين بالحي. وبينما كان هاربا إلى منزله الذي كان بالجوار منا، سيتلقى رصاصة عند مدخل بيتنا، وسيفارق الحياة على الفور. انفجرت طلقات الرصاص بشكل كثيف في المكان، وحاصرتنا قوات الجيش الفرنسي. في هذه اللحظة كان والدي قد أسرع إلى البيت ورمى الصور وكل الأرشيف الذي كونته في هذه الفترة، وحتى الجرائد وبعض المنشورات بالبئر الذي كان يتوسط بيتنا، حتى لا تكون سبيلا إلى اعتقالنا. وما هي إلا لحظات حتى كان بيتنا غاصا بقوات الجيش، التي قامت بحملة تفتيش واسعة عبثوا فيها بكل أثاث البيت، دون أن يجدوا شيئا، ثم جروا القتيل وغادروا المكان. انخرطت في نوبة بكاء حزنا على تصرف والدي، الذي أتلف كل أرشيفي الخاص، غير أنه قال بأنها كانت الوسيلة الوحيدة لتفادي اعتقالنا. وبصراحة فإن ما أنقذنا هو أن الجنود الفرنسيين حينما صعدوا إلى سطح المنزل اكتشفوا أنني أقيم قاعة لممارسة رياضة كمال الأجسام، ثبتت فيها الآلات الخاصة برياضة تقوية العضلات وكمال الأجسام، لأنني أصبحت أجد صعوبة كبيرة في الانتقال إلى المدنية من أجل الرياضة. كنت أتريض بقاعة يملكها شخص أمريكي يدعى " بيرينغير"، لكني أصبح أجد صعوبة بالغة في التوجه إليها لأن المراقبة الأمنية كانت شديدة، بفعل كثرة الحواجز الأمنية. كانت القاعة التي نتدرب بها بالقرب من سينما كوليزي، وعند الانتهاء من الرياضة أحمل حقيبتي فوق ظهري، وأتوجه إلى باب مراكش بحثا عن سيارة أجرة تقلني إلى درب السلطان. صعدت ذات يوم إلى الطاكسي بجانب أفراد آخرين، لكنا فوجئنا بسيارة أمن كان يطلق عليها المغاربة حينها " سيارة أولاد المعمرين" وكلهم فرنسيون. طوقوا سيارة الأجرة وأنزلوا جميع الراكبين رافعين أيديهم إلى الأعلى بمن فيهم أنا. كنت أنيقا حينها، وكان شعري طويل. فاجأني أحد رجال الأمن بسؤال: vous êtes juif - أجبته: oui. أمرني بالمغادرة عبر اتجاه آخر، فيما اعتقل باقي الركاب. فقررت مباشرة بعدها أن أكتفي بالتمارين الرياضية بالبيت. انبهر الجنود الفرنسيون بما شاهدوا، وأثنوا علي أمام والدي، الذي قال لهم إنه مغرم بالرياضة، ولا يمارس أي نشاط سياسي. o لماذا اخترت ممارسة كمال الأجسام؟ n رغم أنني كنت رياضيا، إلا أن بنيتي الجسمانية كانت ضعيفة، وبما أنني كنت أحب أن ارتداء أقمصة قصيرة الأكمام، وأيضا لشدة تأثري بأفلام فيكتور ماتيو، وبعض نجوم السينما العالميين، وجدت أن اكتساب جسم من هذا القبيل لا يمكن دون رياضة كمال الأجسام، التي كنت أزاولها بالموازاة مع كرة القدم وكرة السلة. وبكل صراحة فقد حصنتني هذه الرياضة ضد كل مظاهر الانحراف، وتصبح لي ثقة كبيرة في النفس.