تمنح ترجمة أعمال الكاتب الياباني العالمي المعاصر هاروكي موراكامي تجربة مسلِّية من الطراز الرفيع، وفي الوقت نفسه فإنّها توسِّع آفاق الوعي بصورة مذهلة. فصاحب «كافكا على الشاطئ» يكتب بلغة بسيطة وحديثة، فيكتشف ويكشف أعطاب الحياة اليومية، ثم يحقنها في ذائقة القارئ، فتدخل إلى أوردته كالسمّ البطيء. وربَّما لهذا السبب، صار صدور أيّ نَصّ من نصوصه السرديّة الكبرى والمشوِّقة، بمثابة حدثٍ ثقافي حقيقي تتناوله الصحف، وينتظره القراء بشغف، وتُطبَع منه ملايين النسخ بعدّة لغات. وهو الأمر الذي لم تتخلّف عنه المدوّنة الترجميّة العربيّة، إذ تضافرت الجهود الفرديّة بشكلٍ حثيث خلال السنوات الأخيرة لنقل أهمّ رواياته إلى لغة الضاد، وآخر من تصدّى لهذا الأمر المترجم أنور الشامي الذي نقل، مؤخَّراً، إلى العربية، روايته «ما بعد الظلام» (المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء). في هذه الرواية، يدعوك موراكامي لأن تصحبه كالدليل الذي يقود التائه، خلال ليلة مؤرِّقة في العاصمة طوكيو، حيث ثمّة عيون ترصد المدينة من الجو «بنظرة طائر ليل يحلِّق عالياً، نلقي نظرة شاملة على المشهد من الجَوّ. في نطاق الرؤية الواسع، تبدو المدينة شبيهة بكائن عملاق، أو تبدو أكثر شبهاً بكيان جماعي واحد تشكّله كثير من الكائنات الحية المتشابكة فيما بينها». تتواصل أحداث الرواية على مدار سبع ساعات خلال إحدى ليالي العاصمة الميتروبوليتانية، وتتزامن فيها وتتقاطع- بشكل عمودي وبشكل أفقي- ثلاث قصص مختلفة، داخل أماكن شتّى، تراوح بين المقاهي التي لا تغلق أبوابها، ومطاعم الوجبات السريعة، وفندق «ألفا فيل» الذي يحمل اسم أحد أفلام أبرز مخرجي «الموجة الجديدة» الفرنسي جون لوك غودار، بيد أنّها «قصص حيوات بشرية لا مرئيّة»، تجمعها المصادفات الغريبة والواقعية السحريّة التي يتميَّز بها أسلوب موراكامي، مما يجعلك تدرك كيف أنّ هؤلاء «الأشخاص اللّيليين» مسكونون بأسرار واحتياجات توحِّدهم على نحوٍ يفوق ما يجمعهم من ظروف متباينة. عنوان الرواية مُستمَدّ من ذكريات المؤلِّف الذي عندما كان في المدرسة الإعدادية، تصادف أن اشترى أسطوانة جاز من الطراز القديم عنوانها «بلوز إيت» من متجر عاديات، وكان اللّحن الافتتاحي على الوجه الأول من الأسطوانة هو «خمس نقاط بعد الظلام». ومنذئذ، عدّ هاروكي موراكامي أنّ هذه المصادفة الموسيقية كانت لقاءً رَتَّبه القدر، وقد أسقط القدر النوستالجي نفسه على شخصيات رواية «ما بعد الظلام»، التي تعاني الوحدة والاغتراب والتوق للتواصل الإنساني، كما تختلط أوجاعها الوجودية بمُتَعها الصغيرة كلّما جُنَّ الليل، هذا العالم مترامي الأطراف، الرافل بأساطيره العابرة التي تحدث في غفلة ممن يخلدون إلى النوم باكراً. اللّيل هو البطل الحقيقي للرواية، وهو بمثابة الجزء المخفي من »جبل جليد عائم«، لا يفتأ يتحرّك بطرقه الغامضة وغير المتوقَّعة. اللّيل ذاته الذي كان على الدوام طبقة سميكة منغلقة على نفسها منطوية ومحفوظة في غمدها، من الزمن والمشاعر المناسبة للاجتماع والبوح والحوار بين أفراد متشابهين ومكلومين حَدّ العظم، وما على المبدع المتبصِّر سوى مَدّ أصبع سبّابته لخدش سطح هذه الطبقة، حتّى تهمي منها الأسرار والسرائر. وكعادته يصهر موراكامي ما هو عادي بما هو غرائبي، ويخلط بين الفانتازيا التي تعبّر عن الواقع الافتراضي وبين الحياة الواقعية المعيشة. فمتعة أسلوبه نابعة من انتفاء الحدود الفاصلة بين نهاية الأحلام وبداية الواقع. فالمشهديات الأقرب إلى كاميرا تتعقَّب الهلوسة والهذيان من مختلف الزوايا، والمحكيّات الصغرى الزاخرة بالمرجعيّات السينمائية والتصويرية والموسيقية بوصفها هوامش تبني المتن، ووجهات النظر المتسربلة بروح الدعابة والتأمُّلات الفلسفية والميتافيزيقية في مآلات المجتمع الرأسمالي الحديث، والدقّة الرياضية لموازنة وقائع كل فصل مع الحَيِّز الزمني المخصَّص له على شاكلة الساعة الرملية التي يتوجَّب قلبها للبدء من جديد. كلّ هذه التنويعات الأسلوبية والبنائية المتحدِّرة من حساسية السرد الفسيفسائي، تجعل كل ما يحدث محكوماً بمنطقه الخاص، لدرجة أنّ المتلقّي ينتابه الإحساس الخادع بأنّ الكاتب لا يعرف إلى أين تمضي أحداث روايته. ولعل في هذا الإيهام المتعمّد بأحابيل السرد الحكائي المتشعِّب والماكر، جزءاً من عبقرية موراكامي، الذي- قال في أحد حواراته- إنّ «الرواية ليست شيئاً من هذا العالم. إنّها تتطلب نوعاً من التعميد السحري لربط هذا العالم بالعالم الآخر».