الهزيمة التي مُني بها اليسار في الانتخابات الأوربية الأخيرة تفرض عليه تغيير نظرته تماماً إلى المجتمع الفرنسي. هكذا يرى عالم الاجتماع الفرنسي »ألان تورين« الوضع في أوربا وفي فرنسا أساساً، حيث يدعو في هذا المقال المنشور بصحيفة »لوموند« (عدد الاثنين 9 يونيو 2014) اليسار إلى الخروج من العالم الوهمي الذي يتيه فيه وإنجاز الخطوة الكبرى التي تضعه داخل العالم الواقعي للقرن الحادي والعشرين. ألان تورين تُظهر الانتخابات الأخيرة قبل أي شيء انهياراً لنظامنا السياسي. ولعل أهم ما أثار الرأي العام هو الصعود السريع للجبهة الوطنية. فلقد عشنا طيلة قرن في مجتمع صناعي، تطابق فيه الفاعلون السياسيون مع الفاعلين الاجتماعيين الأكثر أهمية. والحال أننا خرجنا منه الآن. فلم يعد فهم القنوات السياسية أو الثقافية من خلال الفاعلين الاجتماعيين، وذلك نتيجة للعولمة. ففرنسا منقسمة بين الذين يعيشون داخل مناطق التواصلات المعولمة وبين هؤلاء المقصيين إلى المحيط، الذين يظنون أنهم منجذبون إلى الحياة القروية، والذين يجدون أنفسهم معزولين بدون شغل أو خدمات عمومية، وحيث يرميهم سعر البنزين بسرعة نحو البؤس. هذه الفئات الشعبية لم تعد تكافح ضد الأغنياء، بل أصبحت تناضل من أجل مواصلة العيش، ومن أجل هذه الكلمة الحاملة لجميع المصائب والجرائم: هويتهم. فاليمين البرلماني لم يُهيمن عليه أبداً الليبراليون، باستثناء فترة رئاسة »جيسكار ديستانغ«. فقد كان تحت هيمنة الدوغوليين. بيد أن اليمين ليس في خدمة التنمية الاقتصادية في بلد ذكرنا فيه طوماس بيكيتي بأن الإرث هو الطريق الأكثر أماناً نحو الثروة من المقاولة والعمل. اليمين تحالف مع الأعيان المحليين، في حين أن الأنوية المركزية للاقتصاد هي بيد المالية الدولية أو لازالت مرتبطة بالدولة. و »نيكولا ساركوزي« بتقاربه مع الكتلة الناخبة للجبهة الوطنية في نهاية الفترة الرئاسية، قد قوض حظوظ حزبه، لأن الجبهة الوطنية أكثر وحدة وأكثر دينامية من »الاتحاد من أجل حركة شعبية«. أما في اليسار، فالوضع أكثر بساطة في تعريفه. فمنذ 1936،كان اليسار تحت هيمنة الحزب الشيوعي، الذي حافظ على موقعه كمهيمن طيلة الحرب الباردة. لهذا فإن »فرانسوا ميتران« كسياسي محنك، رأى أن عليه المرور عبر الحزب الشيوعي الفرنسي »كي يصل مع الاشتراكيين إلى الحكم. وقد وصل الى ذلك سنة 1981 ببرنامج تأميمات ثوري إلى حد ما. وهو خداع بصري ما لبث أن كذبته الوقائع. وفي سنة 1983، انهار الاقتصاد الذي كان يسيره »فرانسوا ميتران« وكان »جاك دولور« هو من أنقذ الاقتصاد من الكارثة. وهو ما مكن »ميشيل روكار« من أن يصبح وزيرا أول، وأقنع الرئيس بالتخلص من وزيره الأول، الذي فهم بأنه لا يمكن أن يقود سياسة اقتصادية وسياسة اجتماعية إلا بالتشارك بينهما وليس بأن تخوض الواحدة الحرب ضد الأخرى. بعد التخلص من »ميشال روكار«، لم يعد اليسار نهائيا الى قيادة البلاد، على الأقل حتى سنة 2012. تهالك هذا النظام السياسي ليس كارثيا في حد ذاته، فليس غريبا في عالم متغير أن تتحول الفئات السياسية هي أيضا. وما جعل المشاكل أكثر صعوبة هو أن الفرنسيين حاولوا إيجاد حلول جديدة. ففي اليسار، كان الألمان هم الذين ولّدوا حزبا بيئيا قويا ومجددا، لكنه عرف الانهيار بسرعة. أما في فرنسا، فقد كان البيئيون (الخضر) منقسمين دوما، وقد اهتموا بالوصول الى الحكم أكثر من اهتمامهم بالبيئة. ومثل الاشتراكيين، كان للبيئيين قادة مجددون جدا، لكن في الحالتين معا، تم القضاء عليهم : »ميشال روكار« لدى الاشتراكيين و»دانييل كون بينيديت« لدى الخضر. إذن، فبعد العياء الذي أصاب الفاعلين السياسيين في المجتمعات الصناعية، وبعد الفشل الثانوي للفاعلين الجدد، البيئيون والوسط، تم فرض تجديد عميق. في إسبانيا، التي ضربتها الأزمة بقوة، أنشئ حزب يساري جديد. أما فرنسا فقد أعطت الأسبقية للمشاكل السياسية على حساب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. لقد قالها ماركس سنة 1848 دون أن يتم تكذيبه. «و»نجاح - فشل« «فرانسوا ميتران هو أكبر دليل على هذا التعريف السياسي لفرنسا. فهذا البلد الفخور باسم «الأمة الكبيرة« «ظل ولايزال مرتبطا بميراث ثوراته أكثر منه بالقضايا الداخلية للمجتمع الصناعي. ففرنسا لم تبلغ أبدا مستوى بريطانيا أو ألمانيا في التصنيع، لكنها لعبت الدور الأول دائما في السياسة وفي الأفكار وحتى في الحرب. فسيادة هذه التوجهات السياسية الوطنية على التوجهات الاجتماعية هي التي قادت دائما أغلب المؤرخين الفرنسيين الى مقاومة فكرة »زيف ستيرنيل« القائلة أن الفاشية اختراع فرنسي، ولهذا السبب يبدو لي هذا النوع من التحليل خطأ في التفسير وبالتالي خطأ سياسيا أمام صعود »الجبهة الوطنية«. فالصعود القوي للجبهة الوطنية لا يعني أن هذا الصعود لا مناص منه. بل إن المشكل المركزي على العكس هو التالي: اليسار، وليس اليمين هو من يبدو لي فاقدا لتوجه عام. فهل هو قادر على الخروج من العالم الوهمي الذي يتيه فيه. هل بإمكانه انجاز القفزة الكبرى التي تعطيه الحياة من جديد بوضعه داخل العالم الواقعي. كما هو في بداية القرن الحادي والعشرين؟ وتجديد اليسار يفترض اولا ان يغير هذا الأخير نظرته للفاعلين الاقتصاديين. لان الاقتصاد اصبح معولما ولأن قدرته على المقاولة اصبحت مرتبطة اكثر فاكثر بالعلم والاختراع. وليس بالرأسمالية المالية. فمن الضروري الدفاع عن مصالح العمال ضد جميع اشكال الربح غير المرتبطة بالابداع الاقتصادي. فنهوض اقتصادنا بعد الحرب لم يكن ممكنا الا بفضل ربط الحداثة بالعدالة الاجتماعية وبالانبعاث الوطني. ونحن نعلم جميعا بأن أي حكومة في السنوات القادمة سيتم الحكم على قدرته على استرجاع النمو وتقليص البطالة. كل اوربا يمكن ان تنتظر من فرنسا ومن ايطاليا ايضا - عوض تحويل سياساتهما نحو اليمين كما فعل البريطانيون الالمان - ان توحدا الاهداف الاقتصادية والاجتماعية. بتدشين الحراك الاجتماعي وتغيير التعليم. نحن نعلم ان فرنسا ليست متأخرة. علىِ صعيد العلم والاختراع كما هي باقي الدول الاوربية. من الصعب ان نطلب من الفرنسيين خاصة من اليسار, تغيير مفهومهم للفاعلين الاجتماعيين فلقد دخلنا عالما انتشرت فيه الرأسمالية في كل مكان وتصاعدت فيه الفردانية الاستهلاكية. لا أحد يفكر اليوم في الاشادة بالفقر، لكن الفردانية التي تجذب شباب اليسار غير موجهة نحو الاستهلاك, بل نحو المطالبة بالكرامة, وهي كلمة فيما يبدو لي- تحمل من قوة التغيير اكثر من كلمة التضامن. قبل مائة وخمسين عاما او الاخوة في 14 يوليوز 1790 ,فهنا نلتقي حقل الصراع الرئيسي للروح الديمقراطية اليوم.لقد فرضنا حقوق الاغلبية وعلينا اليوم فرض احترام حقوق الاقليات. من لا يتألم وهو يرى البرود الذي يتم الحديث فيه عن قضايا الشباب في المدرسة وفي الجامعة وفي سوق الشغل؟ اننا نرىِ تصاعدا في العالم اجمع لهاجس الهوية, الخوف من الآخر, اغتيال الاقليات. عكس الانتصار البارد للموت وللمنع, يبقي التنوع المبني على كونية الحقوق الاساسية هو من ينير لنا طريق الانفتاح عوض الانغلاق, والتجديد عوض الرفض. ارجو ان لا ألام لأني اهرب من المشاكل الملموسة الى القفز نحو افكار عامة جدا. فليس هناك اكثر حسية من تحريك الحياة السياسية والمؤسسات بواسطة الامال والمطالب والوعي بالحقوق. فالسياسات التي تتحدث إلا عن الإقصاء والمنع والامتيازات قد قطعت اي رابط لها مع مطالب الجسد والروح التي ينبغي ان يتعبأ لها العمل السياسي من أجل قلب الحوافز المرفوعة من طرف المصالح والافكار الجاهزة. ضد صعود الجبهة الوطنية. سيكون الخطأ الأكثر خطورة الذي يمكن اقترافه هو تسليح الشرطة وخلق 6 فبراير 1934جديد. فكل واحد منا قد شعر به خلال الانتخابات الأخيرة, انها نفس الحركة، نفس الضعف الذي يعتري النظام السياسي. نفس الفراغ الفكري والعلمي الذي يقود البعض نحو الامتناع عن التصويت ويدفع الاخرين مباشرة نحو الجبهة الوطنية. فليس بمعاملة جزء مهم من الكتلة الناخبة ككتلة اقل مستوى. سنعيد الحياة لمطالب الحرية والكرامة اللتين بدونهما لا تكون الديمقراطية الا فصلا في مدونة حقوق. نحن بحاجة الى قرارات واصلاحات وتجديدات, لكننا بحاجة الى المزيد وبشكل استعجالي من الإرادة ومن القدرة على الفعل للمسؤول دون القطيعة والعنف ولنتعلم من جديد على العيش جميعا.