كيف تعرف المعارض الهاوي؟ مِنْ لجوئه إلى المفاهيم الأخلاقية في الجدل. ومن «خلْقَنَة « الحوار مع «عدوّه السياسيّ» المتعَسِّف، عندما يُدافع عن قضيته العادلة، وكأن الكلام الأخلاقيّ، وحده، يكفي. والطاغية المحترف؟ من لجوئه إلى «بَرْمَلَة « السكان الآمنين حتى ولو لم يكونوا معارضين. ومن إصراره على التمَسّك بما استَولى عليه بغير حق، ولو أدّى ذلك إلى تدمير البلاد بأكملها. والفَرْق بينهما؟ لا جدوى اللَّغْو الفارغ الذي يمارسه المعارض الهاوي وكأنه في «بيزنطة القديمة»، والموت الأكيد الذي يفعله الطغاة، ذلك الموت المرعب الذي تُسَبِّبه « بَرْمَلَة « الناس الآمنين الذين لهم الحق المطلق في السلام. «تَفْريغ الكائن» في «سوريا الأسد» ، وكذلك في مناطق أخرى من العالم العربيّ، ولو بشكل أقل وُضوحاً وأكثر تَمْويهاً، «أبدَعَ» الكائنات التي أرادها، وخَطََّط لها: «طُغاة بلا قلب»، و»رَعية بلا دفاع»، أقصد بلاد دفاع منطقيّ، عَنيد، واضح، ومعقول، وذي سلوك مستقيم لا اعوجاج فيه. وأنتَجَ استسلام العقل المريع، فصار «عقلاً مادِحاً بامتياز» بعد أن اسْتَلّ منه «شوكة النقد»، كما تُسْتَلّ الشعرة من العجين. وكأن هذا الاستسلام «المدنيّ» المقصود لم يكن يكفي، أنجز، في بُعْده الثالث، «تَوَحُّش العسكر» الرهيب، ورَفَعه إلى درجاته القصوى، متهيِّئاً منذ عشرات السنين « لما يأتي»، والمعارضون هائمون، ونائمون (وأحيانا في سجونه). في مقابل « أسْر العقل» وخذْلانه، أفْرَزَ هذا التفريغ الطويل والمتَعَمَّد للكائن : « الشَرّ المحض». «قَتَلَة بلا رؤية تاريخية»... قَتَلَة خالصين أو قَتَلة بلا روادع. وليس ذلك على الطغاة بغريب. فالطاغية لا أهلَ له، ولا عقل. ولكن، كيف تَمّ كل ذلك التفريغ ؟ وكيف تَراكَم كل هذا الوَخَم الإنسانيّ : الحقد الأعمى في سوريا منذ عُقود، والناس تبدو وكأنها لا تدري؟ أو هي كانت تدري ولا تستطيع أن تفعل شيئاً، أو لا تهتمّ، أو لا تجرؤ، أو لا حيلة لها، وكأنها ليس من أهل هذا البلد الذي لم يكن له أحد. لا! هذا كله غير قابل للتصديق بالرغم من حصوله. فحصوله لا يعني أنه كان «حَقّاً». ومنذ الآن، أصبح كل ما حصل لا غياً بعد أن ثار الشعب على وضعه. لم نعد، اليوم، في مجال السؤال. نحن واضحون بلا التباس : نريد الحرية. وكل الأسباب التي تحول دونها، الآن، لن تكون إلاّ عوائقَ مؤقَّتة، وزائلة. لأن التاريخ ليس أعمى، والوضع ليس مراوغاً. وعندما يُدْفَع البشر للمطالبة بحريتهم يكونون قد عرفوا النقطة التي يبتغون الوصول إليها، جيداً. وسيحصلون على ما يريدون الحصول عليه، ولكن، بشرط، بشرط ألاّ يتوقَّفوا في منتصف الطريق. وحتى هذا الشرط أحسّه متعسِّفاً، ومَقْحوماً، فليس للحصول على الحرية من شروط. الطاغية المحترف هو الذي يصنع المعارض الهاوي، معتقداً أنه، هكذا، سينعم بطغيانه «قرناً كاملاً» على الأقل، كما حسب الأب المؤسس. لكن الوضع غير المستقر هو الذي ينتج الثورة التي تلائمه. وهو ما حدث في سوريا. ومن «أعراض» ذلك الوهم الشنيع أن ثمَّة مَنْ لا يزال يعتقد بعد سنوات من السجن على غير حق، أنه دفع كفَّارة خضوعه، كفّارة الخطيئة الأصلية بقبوله، ولو صمتاً، وبالرغم منه، ما لم يكن قبوله ممكناً. وخضوعه، ولو بشكل غير معْلَن، لما كان يحدث حوله، دون أن يصل إلى حالة التمرّد الفعلية التي لا يمكن لها أن تُسْتَوْعَب، كما هو حاصل الآن. فالثورة السورية كشَفَت ابتذال هذا الوهم المريع، أيضاً. وبَيّنَت أن المعادلة بين السجن وتغيير الواقع، تساوي الصفر، أحياناً، مع الأسف. فالعقل المسجون، هو الآخر، عقل واهم. وهو ما كان يتناسب، ربما، مع تسلُّط القرن الماضي. وفي النهاية، ليس للحرية شروط. الطغاة هم الذين يضعون شروطاً لنَيْلها. نحن نريدها مسالمة وجميلة، وهم لا يريدون. واليوم، صرنا نعرف أن تجاوُزَ «وضع الخضوع» المزمن الذي لم يعد محتمَلاً، يقتضي منا التخلُّص من الهواة، والمحترفين، معاً. فليس أشنَعَ من حماقة السلطة، إلاّ غباء المعارضة. وبين «خلقنة» الأقوال، و»بَرٌمَلَة « الأفعال، ضاعت البلاد.