لماذا لا يحفظ الطغاة دروس التاريخ الأولية؟ لماذا لا يحفظونها عن ظهر قلب؟ لماذا يتجاهلون إرادة الشعب عندما لم يعد يريدهم؟ لماذا يتصوَّرون أن مصيرهم سيختلف عن مصائر أمثالهم من الطغاة الذين سبقوهم؟ لماذا يدفعوننا إلى أن نشرح لهم ما لَمْ يعد بحاجة إلى شرح: مبدأ الرفض؟ مبدأ الرفض لا يناقض مبدأ القبول. إنه النقطة الأخيرة في سطره. إنه لا النهاية. لا التي تعْني: أنه لم يعد مقبولاً ما كان كذلك من قبل. وهذه ال لا المحتومة هي التي تحدد كل شيء. لأنها لا الشعب الذي ما عاد يستطيع الإستمرار في الخضوع لمَنْ كان يخضع له بالقوّة. والخضوع، دائماً، في التاريخ وفي الحياة، مسألة سيطرة وقهر. ليس ثمة خضوع في المطلق. كما أنه لا توجد حرية مجردة، ومستقلّة عن البشر. الخضوع: سقطة الكائن التي لم يستطع أن يتفاداها في ظرف معيّن. ومنذ أن تتهَيّأ له الأوضاع، ينقلب على كل شيء، ولا يعود يحترم شيئاً، ولا يخاف: إنه في طريقه، أخيراً، إلى حريته التي تتجسّد أمام عينيه، هناك. وهذا الأمل بالوصول إلى نقطة الحرية، هذه، هو وحده الذي يعطي الحياة الإنسانية جدوى ومعنى. على السطح تحدث الأشياء الأشدّ عمقاً : مثل التمرّد المفاجيء في الحياة، وانتفاضة الشعب ضد المستبدين والطغاة. وهو ما يحدث اليوم، عندنا. لكن طاغيتنا، مثل كل الطُغاة، أعمى، وأخرس، وأصمّ. إنه لا يرى إلا نفسه ومصلحته. وهو لا يسمع إلا خرير بلاهته وأوهامه. ولا يتحدّث إلا مع نفسه. لأن المحيطين به ليسوا أكثر من مرددين لأفكاره المبتذلة حتى قبل أن يفكِّر هو بها. ولذا فهو سيظل يعاند إرادة الشعب حتى ولو أدّى ذلك إلى تدمير البلاد وقتل العباد. وكما هي حال غيره من الطُغاة، سيظل يطفو إلى أن يقع في مزبلة التاريخ التي حوت الكثيرين من أمثاله. ليس السؤال، إذن: لماذا نخضع؟ وإنما: لماذا نثور؟ ولا يشرح لنا الثورة إلا مبدأ الرفض. فهو، مبدأ الرفض، يُلغي مبدأ الخوف، ويزيل الغشاوة التي انسدَلَتْ على العيون، لأسباب ومبررات كثيرة. ويفتح السبيل الذي كان مغلقاً أمام النفوس. وفجأة يبدأ الشعب بالإبْصار بوضوح كاف، يُحَوِّله من جماعات من المترددين إلى أفراد واعين ومصممين على بلوغ الحرية التي ينشدون، شاء الطاغية ، أم أبى. وهو لن يشاء. لكنه سيرضخ في النهاية. مبدأ الرفض وعي بالعالم وبالوجود. وهو يساوي بين جميع الكائنات لأنه يحررها من الخضوع، والإستسلام، والإسترزاق، والاستيعاب، والإستعمال المجاني. ويصير شعار الشعب الثائر: بعد أن خسرنا كل شيء، لم يبقَ أمامنا إلاّ أن نخسر الباقي. ويبدو الفرد الثائر في قمة وعيه بالوجود، وتمتعه بالحياة، حتى وهو يواجه الموت. والطغاة يخشون الوصول إلى هذه النقطة: نقطة المتعة المعلنة حتى ولو كانت عاقبتها الفناء. فَهُمْ، لعمق شعورهم بالجُبْن، لا يرتاحون إلا للخنوع، ولا يستسيغون إلاّ لَبَّيْكَ. هكذا نرى أن طريق الثورة ليست محفوفة بالمخاطر طالما أنها ستؤدي إلى الحرية. المخاطر تهدد النظام الذي يريد أن يدوم بالرغم من إرادة الشعب. ولكن لماذا لا يفهم الرئيس بالوراثة ذلك؟ لماذا لا يدرك: أن الكائن الذي يرفض الخضوع لا يساوي كائناً لا زال يقبل به؟ لماذا لا يفهم: أن الرفض طاقة مُحَرِّرة، والخضوع قوة مُدَمِّرة. أنا أرفض، إذن، أنا موجود، حتى ولو ميتاً! وهو ما سيحررننا في النهاية. وربما سيحرر الطاغية، نفسه، إنْ بقينا، معاً، أحياء.