كانت الفلسفة المادة الوحيدة التي لا تدرس إلا في السنة النهائية من التعليم الثانوي . هذا الأمر أضفى عليها هالة جعلتنا نتهيب منها حذرين متوجسين ، وذلك انطلاقا من تمثلات ، وتصورات ضبابية . بدت لنا شيئا مدهشا ، كما أساتذتها ، الذين يبدون لنا كائنات استثنائية ، لأنها تفكر بشكل يختلف عن الآخرين . هكذا كان تصورنا للفلسفة ، ونحن بصدد دراستها في ذلك الموسم الدراسي [1974/1975] . هذا الموسم تطلب منا استعدادا نفسيا استثنائيا ، ليس بسبب هذه المادة التي لا نعرف عنها شيئا فحسب، بل لأنه يعتبر الجسرالآمن إلى المستقبل الواعد بالمتمنيات ، إذ كان الحصول على شهادة الباكالورية هو ضمان العيش الكريم من خلال التوظيف المباشر في الوظيفة العمومية. هذه الشهادة أيضا كانت بالنسبة للكثيرين المعبر لولوج الجامعة بمختلف كلياتها ، ومعاهدها العليا . في ثانوية الكندي آنذاك كان أستاذان فقط لهذه المادة ، وهما الأستاذ سمير ، ومحمد الفكاك . كلاهما ترك ذكرى طيبة في العقل والوجدان . الأول لم أكن من تلامذته في الفصل ، ولكن من خلال أحاديث الزملاء الذين درسوا عنه تَكوَّن لدي انطباع يتلخص في الإعجاب بشخصيته كأستاذ مثقف ، وقد لمست ذلك من خلال تدخلاته ومساهماته المثمرة في النادي السينمائي ، إذ بعد عرض الشريط عادة يقدم قراءة من زاوية نظر محترمة. ساهمت تلك التدخلات ، والمقاربات لأساتذتنا ، وغيرهم من العارفين بالخطاب السينمائي في جعلنا نكتسب بعضا من ثقافة العين . كان الأستاذ سمير شابا وسيما مقبلا على الحياة.متشبع بالفكر اليساري التوَّاق إلى التغيير من أجل مغرب أفضل. كان هذا الأمل يكبر في عينيه يوما بعد يوم . كان يبدو للكثيرين في بعض الأحيان خاصة في فصل الربيع عائدا من الحقول القريبة من العمران ، وفي يده باقة أزهار برية ، وإلى جانبه زوجته بلباسها العصري . كان هذا المشهد « الرومانسي» غير مألوف آنذاك في المشهد العام لمدينة فلاحية يغلب عليها الطابع البدوي المحافظ . هذا المشهد الذي تكرر أكثر من مرة جعلنا نكن له المزيد من الاحترام ، لأن هذا السلوك الحضاري النبيل قوّى فينا رغبة الانسلاخ عن نظرة الآباء لأمهاتنا ، وهي نظرة دونية تقوم على تعامل فج في أغلب الأوقات ، أو على الأقل تعامل لا يسمو إلى المقام الذي يليق بالمرأة. الجميل في هذين الأستاذين هو أنهما لا يُدرِّسان الفلسفة فقط ، بل يمارسانها كسلوك في حياتهما اليومية ، إذ استطاعا قدر الإمكان أن يكونا في مستوى ما يحملانه من فكر تنويري يسائل كل شيء،بما في ذلك العديد من المسَلَّمات التي كرسها التقليد المتوارث،وجعل منها حقائق مقررة ، كما هو الشأن بالنسبة لكثير من اليقينيات العابرة من الأسلاف . الأستاذ محمد الفكاك هو الآخر كان استثنائيا في كثير من مظاهر شخصيته المرحة . بشوش ، ولا تخلو حصة من دروسه من مستملحة نبيهة تثير كثيرا من الضحك ، الذي كان ينخرط فيه بسخاء كاسرا بذلك الجدار الرابع بين الأستاذ والتلميذ . متواضع في تعامله ، وفي لباسه إلى حد الإهمال . شجعنا على أن نعبر بكل حرية عن أفكارنا ، وأن نتخلص ما أمكن من جهلنا المركب،لأنه هو العائق الأكبر لفهم الواقع الضاج بكثير من الظواهر،والمفارقات،التي لا يقاربها غير التفكير القائم على برهان العقل . هذا الأستاذ ما قط رأيناه ينجز درسا من دروسه الشيقة انطلاقا من ورقة التحضير. كان كل شيء مرتبا بشكل منهجي دقيق في رأسه . كان المقرر هو كتاب « دروس في الفلسفة لطلاب الباكالورية المغربية « ، وهو من تأليف الأساتذة الدكتور محمد عابد الجابري ، وأحمد السطاتي ، ومصطفى العمري. قبل أن نشرع في دراسة هذا المؤلف الغني بما تضمن من دروس شملت حقول معرفية عديدة تنتسب للحقل الفلسفي أمضى معنا عدة أسابيع في التعرف على المصطلحات والمفاهيم ، وفي طليعتها مصطلح الفلسفة ، وما عرفه من تطور منذ الكوسمولوجيين ، أوالطبيعيين الأوائل ، الذين بحثوا في ماهية الكون والوجود ، ومن تلاهم من كبار الفلاسفة كسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من أقطاب هذا الفكر عبر العصور. كانت طريقته في التدريس هي أن يقرأ أحدنا من الكتاب ، وبين الحين والآخر يتدخل ليشرح لنا مسألة تحتاج إلى تفسير، وأحيانا يعقب ، أو يُغْني الفكرة بإضافات مفيدة عشنا معه دهشة الفلسفة من خلال تلك الرؤى الثاقبة لمفكرين كرسوا حياتهم لفهم العالم . أول درس كان هو ما الفلسفة ؟ والمواضيع التي تدرسها، والغاية منها . أكد لنا الأستاذ صعوبة التعريف ، لأن لكل فيلسوف تصوره الخاص لفعل التفلسف ، ولكن المشترك بين هؤلاء برغم اختلاف الغايات والمشارب هو الإلحاح على السؤال ، الذي يكون أحيانا أهم من الجواب ، لأنه يكفي طرحه لزلزلة يقين مُسَلَّم به على أنه لا يأتيه الباطل من أية ناحية . تتبُّع مفهوم الفلسفة كان إلى حد ما إبحارا في التاريخ المجمل للفلسفة. كان الأستاذ كلما حدثنا عن فيلسوف انبهرنا بعمق رؤيته للعالم والأشياء، ونؤكد لأنفسنا بأن هذا الفيلسوف هو أوج التفلسف، ولا يقلل من شأن ذاك الاعتقاد الراسخ غيرالتعرف على فيلسوف آخر يليه ، لأنه يكشف العديد من الثغرات في المنظور الفلسفي لسابقه . هكذا إلى أن وصل بنا المطاف بعد رحلة شيقة في تاريخ الفكر إلى الفيلسوف ماركس،الذي حاكم كل تلك الفلسفات السابقة لأنها غارقة في الميتافيزيقا ، والماورائيات ، داعيا إلى فلسفة عملية تربط الفكر بالواقع ، وتسعى إلى تحرير الإنسان من كل استعباد. الدرس الثاني أفادنا كثيرا ، لأنه سمح لنا بأن نتعرف على شيء كنا نجهله تماما ، وهو أصناف التفكير البشري بدءا بالتفكير السحري الأسطوري الذي تعرفنا من خلاله على العديد من الميثولوجيات الكونية مرورا بالتفكير الديني ، من حيث المنشأ والتطور، وآليات اشتغاله كخطاب ، مرورا أيضا بالتفكير العلمي ، ثم الأيديولوجيا ، وانتهاء بالتفكير الفلسفي ، وذلك تبعا للترتيب الذي وضعه مؤلفو الكتاب . في الفصل الثالث من القسم الأول تعرفنا على الاتجاهات الفلسفية من خلال المثالية والواقعية ، كما جاء في الكتاب . القسم الثاني تناول أسس المعرفة ، وفي الباب الأول تعرفنا على مناهج العلوم ، وفيه عدة فصول عرفت الأسس العامة للتفكير المنطقي ، ثم مناهج العلوم في الرياضيات ، والعلوم التجريبية ، وعلوم الأحياء ، وأخيرا العلوم الإنسانية من خلال ثلاثة علوم هي علم النفس ،والتاريخ ،وعلم الاجتماع . الباب الثاني تناول سيكولوجية المعرفة ، وبعد التمهيد درَّسنا الأستاذ الإدراك ، والتذكر والنسيان ، والذكاء ، والتعلم . في الباب الرابع تناول المقرر سوسيولوجية المعرفة من خلال فصلين هما : المعرفة والأطر الاجتماعية ، والوظيفة الاجتماعية للمعرفة . للحديث بقية لأن الحيز لا يسمح بالمزيد.