عم صباحا، أيها الفتى المتوج بنسغ الحياة عم صباحا، يادمعة ترسبت في المآقي غصة، حرقة، ياوجعي، أنا المقيم في المسافة الفاصلة بين الاستحضار والنسيان . كم امتلأنا بك، وهل امتلأنا بك؟ وكم امتلأت أنت بالحياة، يا اسما آخر للفراغ الموحش، كيف تلتبس بالحضور المؤجل، أحسني دوما في انتظار أوبتك، أترقب لقاء بتفاصيله، أتهيأ لحوارك عبر أسئلة أنتقي في كل مرة أقواها على البوح ورتق شروح الحكاية، أتمنى أن لاتكون صورة القاتل قد تسربت إلى بريق عينيك الضاجتين بالبراءة والابتهاج . عم صباحا أيها الفتى الذي قد من مسرات وكأنما الحياة أخبرتك بفترة الإقامة العابرة كحلم تركت تفاصيله بغير ترتيب، لا أحد يملك القدرة على إعادة صياغة الحلم القصير إلاك، ووحدك من يملك أن يفك شفرة الحبر السري للحضور المغيب وأن يعيننا على تهجي أبجدية الفقد فأنت النص الشهادة . كثيرا ما ينتابني إحساس بأن الحياة ورطة، وأن علي عدم الانسحاب والبقاء لآخر اللعبة، كل ما علي أن أؤثتتها بصداقات وأعمال وأحلام وخذلانات وخيبات، علها تضفي بعضا من معنى لكل هذا اللامعنى، أحاول، فقط كي لاأوصف بالاستسلام، غير أنني وبعيدا عن المواضعات الاجتماعية وفي أوج عزلتي أكابد فداحة الخسران، من أين لي بضحكتك ملء نشوة الحياة لأبعث في الزوايا الباردة دفئا عله يعينني على مقاومة تكلس ويباس شفاه فقدت قدرتها على الابتسام والاكتفاء بالتحريك الآلي حتى تعكس شرط وجودها . برحيلك الفجائعي، صار للألم تاريخه، دورة الحساب التبست بكتلة المشاعر، ها قد مر عقد أول وفقدانك يتمطط عبر ثنايا اللحظات يبدد سلطة الوقت، ويغير جلدته كالحية لكي لايهلك ويفتر، فالحزن هو الإحساس الوحيد الذي يولد كبيرا ويظل كذلك. موجع الاستحضار حين يصير إبدالا معكوسا للنسيان، إذ تغدو الأمكنة والأوقات والمناسبات والمغامرات مرايا متجاورة ينعكس عليها عمرك القصير والمضمخ بعبق الابتهاج، الكل افتقدك، وأنا منذ افتقدتك افتقدت الاستكانة لوهم الحياة وتورطت في ترويض عزلتي والتدرب على تحمل الخسارات المتتالية . رجاؤك كبرت ومعها يتمك، لا أقوى على مفاتحتها لأقرأ معها وبها وجع اليتم والغياب، اغتالوا حقها في الحلم معك وبك وأجبروها أن تستعيدك طيفا يتأبى على الانمحاء، قدر لها أن ترسمك صورة لأب بذاكرة الاحتمال، من أجلها ومن أجل كل أطفال الضحايا، كيف لي أن أنسى كل هذا الألم وهذا الحقد الهمجي الذي يغتال الفرح ويصادر المودات، سألوذ بعزلتي وأستحضرك ومعك كل الراحلين المقيمين جهة التذكر المزمن، لن نفسد لحظة اللقاء في الذكرى، بألم النسيان والتجاهل الرديف للاغتيال المزدوج، مدفوعا بصفاء اللحظة وقدسيتها أعانقكم واحدا واحدا وأختلي بك علني أفلح في ملء فراغات آخر نظرة تبادلناها قبل رحيلك، وقد صار غيابك تمرينا يوميا قاسيا للتعود على مقاومة الإحساس بعد الامتلاء بك .