كما ساهم الأستاذ العمري في فتح عيوننا على محبة الأدب العربي ، ساهم أستاذ آخر في مادة اللغة الفرنسية موسيو تِسْيي الطيب الذكر في جعلنا نحب الأدب الفرنسي . كنا في السنة الأولى أدب من التعليم الثانوي ، والمعروفة الآن بالجدع المشترك الأدبي . هذه السنة يمكن اعتبارها الخطوة الأولى الأساس في التكوين المؤهِّل للحصول على شهادة الباكالوريا. هذه الشهادة ذات القيمة الكبيرة آنذاك كانت تسمح بالولوج إلى العديد من الوظائف المحترمة ، والمتاحة في العديد من القطاعات الواعدة بالأماني ، والضامنة للعمل والاستقرار. هذا ما فعله الكثيرون من أبناء جيلي ، الذين أغرتهم الوظائف، فانخرطوا فيها بدون أدنى تفكير في استكمال الدراسات العليا ، مع العلم أن منهم من له مؤهلات واعدة للنجاح في المسار التعليمي الجامعي . حتى أولئك الذين تعثروا ، ولم يسعفهم الحظ في الحصول على هذه الشهادة الأثيرة استطاعوا بفضل المستوى الدراسي فقط أن يلجوا سوق الشغل . أعود بعد هذا الاستطراد إلى الأستاذ تِسْيي ، الذي قضينا معه سنة رائعة تعلمنا فيها أشياء كثيرة تركت أثرها في مسار حياة تعلمنا. كان موسيو تِسْيي أستاذا أنيقا على الدوام . بشوش ومرح . قامة متوسطة . خفيف الظل ، ورشيق في حركاته ، ليس بالنحيف ، ولا بالجسيم ، وما رأيناه قط يجلس على الكرسي ليخاطبنا من وراء المكتب . كان وهو يلقي درسه يستعين كثيرا بيديه ، وبتقاسيم الوجه . يحرص في كثير من الأحيان على أن يمنح لكل تلميذ فرصة التحدث بالفرنسية ، خاصة في حصة المحادثة ، التي كانت الغاية منها تدريب اللسان على لغة موليير. كان يكتفي بإدارة الحوار، وتصحيح أخطاء اللغة ، والتعبير، مع التأكيد على أن أدب الحوار يقوم أساسا على الإنصات للآخر، ومنحه الفرصة تامة للتعبيرعن وجهة نظره ، وأن الاختلاف في الرأي وإن احتد أحيانا لا يفسد للود قضية . كان الأستاذ تِسْيي عاشقا للأدب ، وقد لامسنا ذلك من خلال تفاعله الإيجابي مع ما درَّسه لنا من نصوص شعرية ونثرية. يشد إليه الأنظار ، وهو يبسط تلك المعارف ، والأحاسيس المعبر عنها في نصوص بهية منتقاة بوعي ديداكتيكي بديع . نصوص حاملة حد الفيض لقيم إنسانية كالمحبة والجمال والحرية والتسامح ، وما إلى ذلك من قيم الخير. ساهمت الفلسفة الأخلاقية الكامنة وراء تلك النصوص في فتح وعينا على عالم بدا لنا أنه قادر على أن يتسع للجميع. من تلك النصوص ، التي كانت أكبر من أن تسقط من ثقوب الذاكرة ،لأنها باذخة بإنسانيتها قصيدة «موت الذئب» للشاعر الفرنسي ألفريد دو فينيي ، وقد كتبها في شهر أكتوبر من سنة 1838 ، وهو يجتاز مرحلة صعبة من حياته بعد موت أمه ، والانزواء من شدة الحزن في عزلة رمادية أوحت له بهذه القصيدة الفريدة ، التي تداخلت فيها عدة أجناس أدبية هي الشعر ، والقصة ، والحكاية : جانب الشعر نلمسه في اللغة المجازية والصور الشعرية المبتكرة والإيقاع . القصة تجلت في الشخوص والسرد ، أما الحكاية ، فلأن البطل الأساس في هذه القصيدة حيوان . يضاف إلى ذلك حضور الوصف بكثافة . تبدأ هذه القصيدة الطويلة نسبيا بوصف المكان العام المؤطر للحدث ، والشخوص ، حيث يطارد مجموعة من الصيادين المهرة ذئبا لقتله . كانت السماء الملبدة بالغيوم شاهدة على جريمة حصار الجلاد لضحيته . مات الذئب ميتة بطولية بحيث لم يصدر عنه أنين ، أو صرخة ألم . مات ، وعينه على الشاعر، كما لو أنه كان يهمس له : أهذا هو الإنسان ؟ هذا ما حدا بالشاعر ليختم قصيدته بتأمل أليم وعميق انتهى باستخلاص درس بليغ هو أن ما يقوم به الإنسان اتجاه الطبيعة جريمة لا تغتفر . حدثنا أيضا موسيو تِسْيي طيلة دورة دراسية ، وبإسهاب عن مولْنْ العظيم ، وهو بطل رواية تحمل نفس الاسم . كانت تلك الرواية مقررة في مادة دراسة المؤلفات ، وهي من توقيع الكاتب الفرنسي ألان فورنيي المأسوف عليه ، لأنه قتل وهو في السابعة والعشرين من عمره في أولى معارك الحرب العالمية الأولى في منطقة لا لورينْ شمال شرق فرنسا في معركة سميت بِلاموزْ يوم 22 شتنبر من سنة 1914. هذا الموت التراجيدي لأنه رحل بكاتب كبير في بداية مساره الإبداعي جعلنا نتعاطف معه من خلال محبة ما تركه من حبر ناب عنه في الوجود . قرأنا الرواية بشغف بعد أن حفَّزنا الأستاذ على الدخول إلى عوالمها الباذخة بالجمال ، وبالعلاقات الإنسانية ، بالإضافة إلى أناقة وسلاسة أسلوبها الشاعري . صدرت هذه الرواية سنة 1913 ، وقد ضمنها الكاتب ذكرياته في مسقط رأسه في الريف ، حيث أمضى طفولته مع والديه الذين كانا يدرسان في التعليم الابتدائي . بطل هذه الرواية كما أسلفت هو أغوستان مولْنْ البالغ من العمر سبعة عشر عاما . قامته الطويلة ، وسنه ، وهيئته جعلت زملاءه في الدراسة يلقبونه بمولْنْ العظيم ، أو الكبير. شخص جذاب ، لذا فهو يحظى بإعجاب الرفاق ، خاصة منهم صديقه الأثير فرانسوا سوريل الذي أسند إليه الكاتب مهمة السرد . يجسد مولْنِ المراهقة بتوتراتها وأحلامها وتوجساتها من المجهول الواعد دوما باللامتوقع . غريب إلى حد ما ، ويحب المغامرة . وقع في حب الآنسة الجميلة إفون دو جالي [ مع نطق الجيم على الطريقة المصرية ] .هذه الآنسة التي اختفت فجأة جعلت مولْنْ يقضي شطرا من حياته في البحث عن حبه الضائع . ذهب إلى باريس لاستكمال الدراسة ، وكله أمل في العثور على فتاته . أخيرا كان اللقاء ، إلا أن المفارقة هي أن الزواج لم يدم بينهما غير سويعات قليلة ، كي يذهب كل إلى حال سبيله .أذكر أنه قبل أن يشرع الأستاذ تِسْيي في تدريسنا هذا المؤَلف طلب منا أن نقوم بقراءة الغلاف ، الذي كان مزينا بمنظر طبيعي أخاذ. اجتهد كل منا بحسب مؤهلاته الذاتية ، لأن مثل هذا النشاط التعلُّمي لم يُطلب منا قط من قبل . منحنا الأستاذ بضعة أيام للإنجاز. استحسن اجتهاداتنا في محاولة فهم دلالة الغلاف. بعدها قام بقراءته وفق منهجية محكمة ، مع التأكيد على أن الغلاف خلافا لما كنا نعتقد ليس للتزيين ، ولا يتصف بالحياد ، فهو إذن إيماءة بصرية ، وعتبة أولى للنص المكتوب .ما تبقى من تلك الرواية بعد أربعين سنة من قراءتها ظلال شخوص من قبيل فرانسوا سوريل البالغ من العمر خمس عشرة سنة ، وهو السارد كما أسلفت والصديق الأثير لأغوستان مولْنْ . مراهق هادئ خجول . انتهى به المطاف إلى أن يكون معلما على نحو أبويه . شخصيات أخرى ظلت في الذاكرة كأسماء من غير سمات وملامح وأفعال ، كالآنسة فَلانْتينْ ، وفْرانْزْدو كالي، وموسْيو سوريلْ ، وغيرهم .