تعودنا أن نجتزئ من كلام أية موسسة دولية أو شخصية دولية ما يعزز الانتفاخ ويواسي أنانيتنا ولو كنا في الوضع الأصعب في العالم. وقع ذلك مرارا، ووقع البارحة تكرارا مع السيدة كريستين لاغارد.،رئيسة صندوق النقد الدولي والسياسية الفرنسية المعروفة. فقد أخذنا عنها أن المغرب بدأ يجني ثمار المجهودات من أجل تنويع وتعزيز الصادرات وتقوية الاستثمارات العمومية. أخذنا عنها، وعممنا أن المغرب تعامل بذكاء كبير (لاحظ النعت) مع خط الوقاية والسيولة لإعطاء إشارة للمستثمرين والمانحين ( ولنا أن نفسر المعادلة التي تجعل المانح والمستثمر على ثقة واحدة، بعد أن يكون الأول في انتظار فوائد الأرباح من الدين والثاني الأرباح وحدها من ماله ). لاغارد قالت إن المغرب حقق تقدما هائلا (لاحظ النعت مجددا )... ولكن بدون سبب أسقطنا قولها إن « على الدول التي عرفت التغيير أن تضاعف من معدلات النمو» ،وأعلنت صراحة أنها في مستويات 3 %. وقولها إن البطالة تبلغ معدلا مخيفا في أوساط الشباب يقارب 29 %.. لاغارد قالت أيضا إن في بلدان التحول «في مصر والمغرب والأردن، نصيب الطبقة المتوسطة من ثروة المجتمع اليوم أقل بكثير مما كان عليه في الستينيات من القرن الماضي ..». لم نأخذ قولها بأننا عدنا أكثر من أربعين سنة إلى الوراء، أي إلى تلك الفترة الصاعدة من العمل والحماس، وأن 3 سنوات من الربيع العربي لم تنبت سوى الفوارق الضخمة . لم نأخذ عنها خلاصتها وهي تقول بصراحة« إن مكاسب النمو غالبا ما كان يستحوذ عليها أصحاب القمة، تاركين الكثيرين صفر اليدين»!. نحن نكتفي بتطبيب اليأس، عبر مهادنته، وتمريض الفقر عبر تسويغه، بنصف الكأس المملوءة. الذين دخلوا الى حوليات التاريخ، ما بعد فورة الستينيات، كانوا هم الذين خرجوا منها صفر اليدين.. وقد عادوا في الخطاب بعد تجديد الفقر السياسي، وصدقنا، كما كتب العبد الضعيف لربه سنة 2008..! اعتقدت ، بغير قليل من المرح، بأننا أكبر مفاجأة يمكن أن تقع لنا. فقد اكتشفنا بأننا، بعد أن كنا تهمة في هذا البلد السعيد يتكتم الخطاب الرسمي علينا وينفي عنه تهمة وجودنا فوق ترابه، يمكننا أن نكون سببا كافيا لكي يثق العالم بأننا نتقدم، وأننا نتعقل، وأننا نستطيع الحركة إلى جانبه بعد أن ظلت البلاد مشدودة إلى أثريائها وحدهم. وأننا بالفعل أجمل ما في هذا البلد، فنحن الحجة الكبيرة التي يستعملها السياح لكي يأتون الى شمسنا، ونحن حجة العاشق لكي يأخذ العشيقة في رحلة طويلة إلينا، ونحن أيضا سبب السعادة في هتاف امرأة متزوجة حديثا جاءت لقضاء شهر العسل بيننا وأمامنا ووراءنا... وفوق السرير. كأننا أفضل ما فينا، منا الفقراء الذين لم تكن الكاميرا ترانا عندما نصرخ جوعا، ومنا الطبقة المتوسطة ومنا ...كلنا وبعضنا. ومنا السوق والسواعد ، منا الاستغلال الطبقي والساعات الاضافية، ومنا الذين يقتلون في الخنادق والذين يقتلون بالبنادق، واعتقدنا في السابق بغير قليل من حسن الظن بأن ذلك سبب كاف لكي تهتم بنا الطبقة الحاكمة، وتهتم بنصف مليون متسول ، وأربعة ملايين معوز، وخمسة ملايين فقير ، زائد واحد ، كما نقول باكالوريا زائد واحد. وتهتم بالطبقة الوسطى من معلمين وأساتذة وأطباء ومحامين ومهندسات وممرضين وغيرهم من الطبقة نفسها.. لكن ضاع كل شيء وعاد إلينا كل شيء«. كما عادت الطبقة الوسطى الى فم النقد الدولي ، بعد عودة الفقراء الى اللغة الرسمية، ودخلوها كما يدخل الحمام الى جدار من ثقوب. وقد عادت الطبقة الوسطى إلى عهدها في القاعات المكيفة وإلى الاستعارات الجميلة.. وبدا ألا شيء أهم من الطبقة الوسطى سوى الحديث عن الطبقة الوسطى، وخير الطبقات أوسطها وحتى التي تحتها. وأما الذين هم في الأسفل، فلهم نخبة تتذكرهم عندما يسقط المطر ( وبالرغم من كل المياه النازلة مازال الغبار يعلو وجوهنا ويعلو طريقنا؟). وقد تحدثت المعارضة عن الطبقة الوسطى طويلا حتى خلتها من السنن.. وتحدث الوزير الأول عن الطبقة الوسطى بعطف كبير حتى اعتقدت بأنها مرسوم يقوي صلاحياته. وحتى المذيع الذي لم يكن يعرف سوى طبقات فحول الشعراء، خاطبها بعناية فائقة كما لو يتأهب لربطة عنق فاخرة. ومن كثرة ما تحدثوا عن الطبقة الوسطى والطويلة الأمد، قلنا إنه آخر اكتشاف جاء به المغاربة الى العالم. وتبين من بعد أن الطبقة الوسطى في الخطاب الرسمي من اختصاص وزارة السكنى. وهكذا كنا أول وطن يرمي بالطبقة الوسطى كما يرمي البناؤون »»الضالا» «، ولا أحد اعتذر للطبقة الوسطى منذ أن قرروا تقزيمها وتجويعها وإفراغها من محتواها.. ولا أحد قال بأنه كانت لنا طبقة وسطى قرروا تجويعها لكي تتبعهم وتترك مطالبها.. والسؤال الذي لابد منه : هل يمكن أن نقبل بالطبقة الوسطى ، كما يقبل المغاربة بسيدي علال؟ »اللي ابغا سيدي علال يبغيه بقلالشو« كما يقول المثل. هل نقبلها بلغتها ومطامحها ومشروعها التحديثي ولا ندفع بها الى دور آخر واحتجاج باسم أفق آخر؟ فلا يمكن أن نبني الطبقة الوسطى كما نبني شقق السكن الاجتماعي أو نبني عمارات تنهار في أول هزة، ولا يمكن أن نبنيها بالمواد المغشوشة وسرعان ما تنهار، الطبقة الوسطى أسس مشروع ومجتمع وفكرة عن الحضارة والوجود ... ولا يكفي أن نقول عليكم بالطبقة الوسطى، لكي تكون لنا هذه الطبقة أو لكي يوجد مشروعها.. الطبقة الوسطى هي أيضا اختيار فوق الطبقات كلها ... وبلغة السيدة لاغارد، والذين تم نسيانهم في الطريق الموفق الى العهد التقنوقراطي الجديد، بعد أن تسلمتهم، في منتصف السبيل، الطرقية الجديدة، المزينة بتوقيعات القرن الواحد والعشرين. سنظل نأخذ ، باقتطاع غير موضوعي الكلام الذي يعجبنا، وسنظل نخطئ الطريق الى الطبقات كلها.. بما فيها الطبقات الصوتية!