واحد من رواد الحركة المسرحية الهاوية بمكناس، وأحد المؤسسين للفعل المسرحي. وشكلت إسهاماته في التمثيل والتأليف والإخراج والسينوغرافيا مدرسة فنية سار على منوالها العديد من الجمعيات المسرحية التي تأسست في سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي. كان لإشعاعه الفني المبكر تأثير في المشهد المسرحي الهاوي على المستوى الوطني. وبموازاة مع عمله الميداني، انشغل بالبحث النظري. فقد كان ذا إلمام واسع بمدارس واتجاهات المسرح الغربي. انخرط منذ حداثة سنه في جمعية العمل المسرحي. كان لقاؤه الأول مع المسرح في السنة السابعة من عمره، حين قدم رفقة تلاميذ القسم مسرحية "ثورة الخضر" . وهي "مسرحية باليه" قدمت باللغة الفرنسية لفائدة تلاميذ المدارس الابتدائية بفضاء مسرح الحبول الذي جرت العادة أن تقدم فيه عروض مسرحية برسم اختتام السنة الدراسية؛ حيث توزع جوائز على العروض المتألقة. وفي المعهد الموسيقي بمكناس درس أصول الفن الدرامي. كان أول عهده بالممارسة المسرحية بالتمثيل في المسرح المدرسي أيام التلمذة في المرحلتين الابتدائية والثانوية. فقد برهن على موهبة متفردة في التشخيص، فأسند إليه الدور الرئيسي في مسرحية "الشرارة الأولى" التي اقتبسها وأخرجها عبد الهادي بوزوبع، وشارك بها في المهرجان السادس عشر لمسرح الهواة سنة 1975 . كما مثل الدور الرئيسي في مسرحيتي "آكلة لحوم البشر" و"الحقيقة ماتت". اقتحم عالم الإعداد والإخراج في سن مبكرة؛ ففي سنة 1966 أخرج مسرحية "من النافذة" لجورج فاليو بالفرنسية، وقدمتها فرقة مسرحية تابعة لجمعية الشبيبة المدرسية بمكناس. وفي العام 1967 التحق بجمعية "العمل المسرحي". اقتحم عالم الكتابة الدرامية بتأليف وإخراج مسرحية "اليوم نصعد الخشبة وغدا نمثل" عام 1974 . وأخرج مسرحية "في انتظار كودو" لصموئيل بيكيت سنة 1977، شاركت بها جمعية "العمل المسرحي" في مهرجان الربيع الأول الذي نظمته "جمعية البعث الثقافي". ألف وأخرج مسرحية "الدوارة" التي عرضت في المهرجان الوطني التاسع عشر لمسرح الهواة سنة 1978، وهي مقتبسة عن مسرحية "لوتورنيكي" ل"فكتور لان"، ومسرحية "المرسطان سنة 1983 . شارك في تداريب "المعمورة" ممثلا ومؤلف ومخرجا، كما شارك في مهرجان "أفينيون" سنة 1978 . أسس جمعية المختبر المسرحي، وكان آخر عمل له إخراجه لمسرحية "عيشة في الريشة" لمؤلفها لحسن قناني سنة 1992 . ويعتبر الفقيد أحمد بنكيران من الأعضاء المؤسسين للجامعة الوطنية لمسرح الهواة التي انتخب عضوا فيها. في حوار نادر له مع مجلة الفنون التي كانت تصدرها الوزارة المكلفة بالشؤون الثقافية (العدد الأول - السنة السادسة - نونبر 1979) يرى أحمد بنكيران أن الممارسة المسرحية واجهة نضالية، وأداة للتوعية الجماهيرية، وقناة تثقيفية، ووسيلة لتمرير وترسيخ القيم الجمالية في المجتمع. فقد كان يعتبر أن "مسرح الهواة" هو ما يجسد جوهر الممارسة المسرحية المغربية، وهو المدخل إلى عالم الاحتراف. وبالنسبة إليه «لا يجوز أن نصنف المسرح في المغرب إلى هاوي ومحترف باعتبار أن الاحتراف غير موجود إلا بصورة باهتة »، ولا يمكن أن يتحقق في ظل الغياب الشبه التام للشروط الموضوعية المساعدة على ذلك. إذ كيف يمكن اعتبار موظف مكلف بمهمة إدارية بحتة، ومقيد بالدوام الإداري، ويتلقى مرتبا شهريا أن يمارس المسرح، حتى ولو كان يمتلك موهبة فنية في تخصص من تخصصات الفعل المسرحي ... فهؤلاء - في نظر ه- يكرسون مسرحا رسميا تبريريا مفروضا من أعلى، ولا يستجيب لانتظارات الإنسان المغربي الذي يجد ضالته فيما تعج به الأسواق والفضاءات العمومية من حلقات تعبيرية أصلية ومستوحاة من صميم التراث الفرجوي المغربي كالبساط والحلقة وغيرهما من الأشكال المسرحية التي تنعت ب: الماقبل مسرحية. كان الفنان أحمد بنكيران يستند في ممارسته المسرحية إلى خلفية معرفية شاملة ومعمقة بالعمل المسرحي. فقد كان على اطلاع واسع بالتجربة المسرحية الغربية. والنسبة إليه، فجوهر العمل المسرحي هو العرض. وأن الأساس في الفعل المسرحي يجب أن ينصب على الممثل الذي يرى فيه آلة وسط الخشبة تتحرك في اتجاه اختزال لغة النص الدرامي "الأدبية" إلى لغة "مسرحية" جسدية بليغة تحقق الإمتاع الجمالي، وتستجيب لانتظارات المشاهدين المتمثلة في تلبية شغفهم في الإشباع البصري، وهو القائل: «وأنا هنا حينما أثير مسألة التقنية لا أعني بالضرورة المؤثرات الصوتية والبصرية والملحقات، بل أقصد التقنية المتوفرة في جسد الممثل من تعبير صوتي وحركي وإيقاع "كوريكرافي". إن جل العروض التي نشاهدها تعتمد أداء يغلب عليه الطابع الانفعالي، وفي بعض المناسبات انفعال لا مبرر تقني أو أدبي له.» لقد كانت جمعيته المسرحية "المختبر المسرحي" مختبرا حقيقيا في إعداد الممثل مستوحيا الفكرة والتسمية -على ما يبدو- من "جروتوفسكي" ومن "مختبره المسرحي- teater laboratorin . ويتضح ذلك في كل أعماله المسرحية سواء التي أخرجها، فهي تتخذ من الممثل المركز الأساس. وحتى النصوص التي ألفها "اليوم نصعد الخشبة وغدا نمثل" كانت فكرة العرض ماثلة وحاضرة بقوة. وهو ما يدعو إلى الإقرار بأن أحمد بنكيران كان ذا رؤية حداثية للفعل المسرحي، فقد كان سباقا في تجاوز فكرة "نص المؤلف" إلى "نص المخرج". إن العرض المسرحي في تجربة أحمد بنكيران يختزل في "مرسل"(الممثل) و"مرسل إليه (المشاهد). أي أن العلاقة تتحدد أساسا في ثنائية: ممثل - متفرج التي تستهدف الجمهور. فالمتعة لا يمكن أن تكتمل إلا بالإثارة التي تكون مدخلا إلى إقحامه في الحدث وتوريطه فيه. وهو ما يفسر انتقاداته المتكررة للكثير من العروض المسرحية. وبالنسبة إليه، فالعائق الأكبر يتمثل في غياب النص الدرامي المحلي ذي المواصفات الحداثية. وهو القائل: «إن جل الكتاب المغاربة الذين يكتبون للمسرح اليوم لا يعيرون أي اهتمام لجمهور المشاهدين ولمستوياتهم الثقافية وانتماءاتهم الطبقية، مما يجعل كتاباتهم لا تعكس الواقع المعيش، وبالتالي فهي بعيدة كل البعد عن المساهمة في تغييره.» ورغم أن هذا الرأي يعكس في ظاهره موقفا إيديولوجيا؛ فإنه في واقع الأمر يعكس تصورا جماليا لما يجب أن تكون عليه الممارسة المسرحية. لقد كانت مآخذ أحمد بنكيران كثيرة على الوزارة الوصية، وغالبا ما كان يحملها ما آلت إليه تجربة الهواة. فقد كان يؤاخذها على «ندرة التداريب التقنية التي كانت تنظمها في العطل المدرسية، وعلى انعدام التجهيزات الضرورية.» وعن المهرجان، فأحمد بنكيران لم يكن على وفاق مع المقاييس المعتمدة في انتقاء الفرق المسرحية للمهرجان الوطني. «فبالنسبة للوزارة الفرق الجادة هي التي تشارك في الإقصائيات للمهرجان الوطني لمسرح الهواة، بينما العكس تقريبا هو الصحيح، خصوصا إذا علمنا إلى ماذا يمكن أن تجرفنا مهرجانات كالتي شاهدناها انطلاقا من الدورة الخامسة عشرة.» كما كان له موقف من الجامعة الوطنية لمسرح الهواة وهو أحد المؤسسين لها. فالفكرة الأساس من تأسيسها تتحدد في الدفاع عن مصالح الهواة المتمثلة في توفير شروط ممارسة مسرحية تستجيب لطموحات الهواة كالرفع من قيمة المنحة السنوية التي لم تكن تتجاوز حدود الألف درهم، وتجهيز دور الشباب - على قلتها - بالوسائل التقنية كالإنارة والمؤثرات الصوتية... وضمان حد أدنى من الاستقلالية إزاء الجهاز الإداري الرسمي. وهو ما يفسر الغياب الملحوظ لأحمد بنكيران في أغلب الدورات باستثناء الدورة التاسعة عشرة سنة 1978، حيث شارك بمسرحية "الدوارة". لقد مثلت مسرحية "الدوارة" تحولا بارزا في المسار الإبداعي لأحمد بنكيران. فقد أثارت جدلا واسعا اهتماما كبيرا من طرف الجمهور المتتبع لفعاليات المهرجان، ومن لدن المنشغلين بالشأن المسرحي. فالطريقة غير المنتظرة التي اعتمدها المخرج في إنهاء العرض قبل نهايته التي يقتضيها تطور الحدث/الأحداث كانت مفاجئة للمشاهدين. وهناك من اعتبرها نهاية متعمدة؛ وبالنسبة للمخرج أحمد بنكيران فقد كان رده كالآتي: « ...فالطريقة التي أنهيت بها العرض كانت نابعة من رغبتي في وضع نهاية للمسرحية تتماشى مع اختياري وموقفي، وهي مكتوبة أسود على أبيض في النص المسرحي الذي كتبته، وطبعا لا علاقة لها بالنص الأصلي.» وتتلخص المسرحية في كون أشخاص (الممثلون) كانوا ضحية علاقة استغلال مع مندوب لشركة منتجة للمصبرات. حصل بين الطرفين اتفاق غير متكافئ للدعاية للمنتوج لقاء أجر زهيد. وقد ارتأى المخرج فضح هذا الاستغلال أمام الملأ. وهذه النهاية - كما تصورها المخرج - تدخل في تقنية "المسرح داخل المسرح". وهي تقنية اشتهر بها مخرجون مشهود لهم مثل بيراندللو وبيتر بروك وبيتر فايس وغيرهم، وصارت مألوفة لدى المشاهد المغربي والعربي عموما. ويدافع أحمد بنكيران بخصوص النهاية التي اختارها مبررا اختياره بالقول: «أنها(النهاية) تدخل في إطار سياق المسرحية، ذلك أن الشخصيتين في المسرحية وصلا إلى تطبيق مغلوط للاشتراكية من خلال تعايشهما داخل النفق، فكان من الضروري توضيح الفكرة بواسطة الإخراج، وإيضاح أن الاشتراكية المبتغاة والتي تخدم الشعب هي المنبثقة من الشعب وليست مفروضة عليه من فوق، كما اتضح أثناء العرض الذي تكسر فيه الإيهام ليحل محله إيهام من مستوى آخر. فالممثل الغاضب في نهاية العرض يوحي للجمهور أنه أنهى التمثيل في الوقت الذي لازال التمثيل مستمرا. وهنا يحصل نوع من التداخل السيكولوجي بين الممثل والشخصية التي يتقمصها، وهذه الطريقة مستمدة أصلا من نظرية التباعد البرشتية.» وقد تساءل أحمد بنكيران في الندوة الصباحية لمناقشة العرض عن سر التركيز أكثر على نهاية العرض، في وقت وجب النظر إلى العرض ككل، وإلى بدايته تحديدا. ويقول في هذا الصدد «وإذا انتهى العرض قبل نهايته، فقد تعمدت أن يبدأ قبل أن ينطلق على الخشبة، والمتتبع للمسرحية سوف يلاحظ ولا شك الإطار الذي سار فيه الإخراج، المفروض أن العرض يبدأ قبل بداية المسرحية على الخشبة؛ بحيث أن العمل الدرامي كان منقسما إلى قسمين لا يفصل بينهما أي شيء على الإطلاق. فضاء العرض: (الخشبة والكواليس) من جهة، وفضاء الجمهور: (القاعة والشارع) من جهة أخرى؛ والحوار بين الفضاءين كان مفتوحا طوال العرض، وإن كان في غالب الأحيان بطريقة صامتة تجسدها اللوحة التي يسجل عليها الممثلان عدد المرات التي نطقوا فيها باسم "بانوليف". ومهما يكن من أمر السجال الذي دارت رحاه بخصوص هذا العرض، فتلك سنة مألوفة ومعتادة في مهرجانات الهواة. وما ينبغي التأكيد عليه أن تجربة بنكيران تعكس هاجس التجريب والمغامرة والبحث الدؤوب في الحقول غير المأهولة. إن الأمر يتعلق بالسعي إلى تأسيس لغة مسرحية بديلة، قوامها الإثارة البصرية، وبلاغة التعبير الجسدي كبديل للغة اللفظية الكلامية التي كان يعتبرها أحمد بنكيران مظهرا من مظاهر المسرح التقليدي. لقد كان الممثل والمؤلف والمخرج أحمد بنكيران يشتغل في صمت، مخلصا لثوابته، ووفيا لقناعاته، ومبدئيا في مواقفه على الرغم مما كان يلاقيه جراء ذلك من سوء فهم. ولعل انكفاءه على الذات الذي طبع أيامه الأخيرة يترجم نوعا من الاحتجاج الصامت والبليغ في ذات الآن على ما آلت إليه الأمور؛ إذ اكتفى بتتبع مستجدات المسرح المغربي، وكان حريصا على مشاهدة عروض المهرجان الوطني بمكناس خصوصا في دوراته الأولى. والتساؤل الذي يطرح نفسه باستمرار هو: - لماذا لم يكرم أحمد بنكيران في أي من دورات المهرجان الوطني، في وقت تم تكريم البعض أكثر من مرة ؟ - ما الذي يمنع من تكريم أهل الدار أولا من باب الاعتراف الإنصاف؟ إنها مناسبة لتذكير القائمين بأمر إدارة المهرجان ومسؤولي المدينة أن تكون الدورة المقبلة فرصة لإعادة الاعتبار لفقيد المسرح المغربي الفنان أحمد بنكيران، ولمن ما يزالون على قيد الحياة من رواد المسرح الذي صنعوا مجد مدينة مكناس. رحم الله أحمد بنكيران، وتغمده بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنانه. (*) عضو الجامعة الوطنية لمسرح الهواة - مكناس