رغم مرور أسابيع، لا زالت إمامة الشيخ محمد الفيزازي، أحد رموز السلفية بالمغرب، للملك محمد السادس في صلاة الجمعة بطنجة يوم 29 مارس الماضي، تثير العديد من التعليقات وردود الأفعال، في ظلّ اهتمام بأبعاد هذه الخطوة وما تستبطنه من إشارات، إن كان في علاقة الدولة المغربية بالتيارات السلفية بعد مُواجهات حادّة استمرت لأكثر من عشرة أعوام، أو حول مستقبل علاقة هذه التيارات مع التيارات الأخرى ذات المرجِعية الإسلامية في البلاد. الباحث والجامعي المغربي مصطفى المعتصم اعتبر أن إمامة الشيخ الفيزازي، وهو أحد رموز السلفية الجهادية وحُكِم عليه بالسجن 30 عاما، وصدر عفو ملكي عنه في عام 2011 بعد أن قام بمُراجعات وهو بالسجن، من رجل مؤمن ومُلتزم بتعليمات أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، إلى رجل يرفُض مثل هذا الكلام، يُمثل "إشارة إضافية وتتويج لسيرورة من الإشارات أطلقت أخيرا حول حالة من الإنفراج بين الدولة وأتباع السلفية الجهادية"، بعد أن انتقلت العلاقات من المواجهة إلى التهدئة منذ فبراير 2012، إثر العفو الملكي الذي صدر عن عدد من رموز السلفية (الشيخ حسن الكتاني والشيخ محمد رفيقي، الملقّب بأبي حفص والشيخ عمر الحدوشي)، الذين اعتُقِلوا مع مئات غيرهم، وحمَّلتهم الدولة مسؤولية الهجمات الإنتحارية التي استهدفت مدينة الدارالبيضاء يوم 16 مايو 2003 وراح ضحيتها 45 قتيلا وعشرات الجرحى. «الإنفراج بين الدولة والسلفيين أمر إيجابي» ويوضِّح المعتصم أن الدولة شجّعت أحد الأحزاب السياسية (حزب الفضيلة) على استقطاب رموز السلفية الجهادية، وشرَّعت لهم أبواب وسائل الإعلام، الرسمية منها وغير الرسمية، وتمّ استدعاءهم إلى المحاضرة والمناظرة والمُرافعة في كل القضايا التي تُطرح في الساحة، بمناسبة وبغير مناسبة، وهو أمر ذو دلالة وأبعاد كثيرة، سياسية ومذهبية، بانتظار ظهور إشارات الإرادة السياسية لإنهاء هذا الملف، لأن فيه يكمُن الحلّ وخدمة لخيار الإصلاح الذي تبنّاه المغرب في ظل الربيع العربي من الملح بالنسبة إلى حقوق الإنسان. وحول تقييمه للإنفراج المسجّل في العلاقات بين تيار السلفية الجهادية والدولة، يقول المعتصم (الأمين العام لحزب البديل الحضاري المحظور): «إن الإنفراج في العلاقة بين الدولة والسلفيين شيء إيجابي ولا يمكننا إلا التّنويه به، وأملنا في أن تُطوى صفحة السلفيين وأن ينجح المغرب في إدماجهم". في السياق نفسه، أوضح المعتصم أن "سيرورة المصالحة الوطنية الشاملة، يجب أن تشمل الجميع، كما أن الديمقراطية تعني أن من حقّ كل مواطن مغربي أن يحظى بحقوق مواطنتِه كاملة غير منقوصة، وأن يكون له الحق في إبداء رأيه والتعبير عنه في وسائل الإعلام، وأن يختار التنظيم السياسي الذي يريد، وأن يمارس مِهنته من غير تضييق ولا حِصار، وأن يستفيد من إعادة الإدماج وإعادة الإعتبار لحقوقه السياسية، متى عبّر عن مراجعات لمَواقِفه وأفكاره السابقة، التي وضعته في مواجهة مع المجتمع أو بعض مكوِّناته وفي تعارض مع قوانين البلاد، وشرط أن لا يدعو للكراهية والعُنف والتطرّف أو انتهاك حقوق الناس، وخصوصا الفئات التي تُعاني أكثر من الهشاشة، كالنساء والقاصرين". من سلفية إصلاحية إلى متشددة لا مفر من التذكير بأن السلفية ليست حديثة العهْد في المغرب الأقصى، إذ تبنّى رُواد محليّون مثل علال الفاسي وأبو شعيب الدكّالي والمختار السوسي (بعد رواد الإصلاح الأوائل بالمشرق من أمثال محمد عبدة وعبد الرحمن الكواكبي والأفغاني وغيرهم)، ما يمكن أن يُطلَق عليها "السلفية الإصلاحية"، التي تؤمن بالعودة للإسلام الصحيح النقي، وبأن من مستلزمات النهضة، الأخذ بعناصر القوة عند الغرب كالعِلم والتكنولوجيا. وفي وقت لاحق، ظهرت "سلفية متشدِّدة" ترى أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأن السلف الصالح منذ عهد الرسول إلى اليوم، قد "عالج وقرر في كل شيء، لذلك يكفي العودة إلى ما اجتهدوا فيه وما رأوه، لكي تظهر شوكة المسلمين من جديد". وهذه - حسب مصطفى المعتصم -«سلفية مرتبِطة بالماضي، بل أن بعض توجّهاتها ترى أننا نعيش في أسوإ العصور وأرذلها، وبالتالي، لا خير مرجُوّ من الاجتهاد، خصوصا فيما يتعلق بسؤال النهضة». مع ذلك، يمكن العثور داخل هذه السلفيات، على طيْف واسع من التوجهات، منها ما هو مقرّب من السلفية الإصلاحية كتقي الدين الجيلالي، ومنهم مَن هو بعيد جدا عنها، كرموز السلفية الجهادية بالمغرب كالشيخ عمر الحدوشي وغيره. من أقصى التطرف إلى الحد الأدنى من الإقتراب على المستوى السياسي، تتباين مواقِف الحركات السلفية من الدولة تبايُنا كبيرا، إذ نجد مَن هو مقرّب جدا من الدّعوة إلى إطاعة أولياء الأمور وعدم معارضتهم، ومنهم مَن يذهب إلى مستوى تكفير الحاكمين وإخراجهم من الدِّين، لذلك "نحن أمام تيارات تذهب من أقصى التطرّف بالموقف من الأنظمة والحكّام إلى الحد الأدنى من الإقتراب"، حسب المعتصم. في الأثناء، يعتقد الباحث الجامعي أن "ظهور الحركة السلفية الجهادية بالمغرب، ارتبط بالأساس بظهور تنظيم القاعدة وتوابِعها منذ الحرب الأفغانية الأولى ضد الإتحاد السوفييتي، وتبنَّت نفس الخِطابات والتوجهات التي كان يتبنّاها أسامة بن لادن وقيادات القاعدة والحركات المشابهة"، وأوضح أن "القاسِم المُشترك بين هذه الحركات، هو الخطاب التكفيري والخروج على الحاكِم والسَّعي إلى إقامة الدولة الإسلامية على أنقاض الدول القُطرية العربية الإسلامية الحالية". على صعيد آخر، أدى تفاعل بعض الشباب ورموز السلفية الجهادية بالمغرب، مع كل ما حدث من صراع بين أمريكا والقاعدة وتبنّي مقولاتها وشعاراتها (بالإضافة إلى توجّه هؤلاء للقتال في أفغانستان) إلى إقدام أطراف أخرى على الدعوة إلى خوض الصراع ضد أمريكا وحلفائها من خلال هجمات بالمغرب، وتمثلت بمجموعة يوسف فكري (31 عنصرا)، التي تم تفكيكها في ربيع 2002، أي قبل سنة من هجمات الدارالبيضاء (مايو 2003). هذه الهجمات كانت إيذانا بحصول تحوّل نوعي في مقاربة السلفية الجهادية لكيفية عملها وأيضا في أسلوب تعاطي الدولة مع هذا التيار، بغضِّ النظر عن نفْي رموزه مسؤولياتهم عن تلك الهجمات، إذ "في غياب الشفافية والوضوح والمحاكمة العادلة وحالة التجييش التي حصلت بعد مايو، وعدم اهتمام الحركات الحقوقية في تلك اللحظة بخطورة الأحداث وما قد يترتّب عليها، فإنه يصبح من الصعب الحديث اليقين أن مَن نفَّذ هُم أتباع السلفية الجهادية"، حسب المعتصم الذي يُضيف قائلا: «أنا لا أبرِّئ ساحة أحد، لكن من الصعب جدا عليّ التسليم أن عشرة آلاف من الذين تمّ اعتقالهم كانوا وراء التفجيرات". الأجواء المشحونة ضد السلفية الجهادية بُعيْد هجمات الدارالبيضاء، تبدَّدت الآن، كما نُظمت لقاءات ومطارحات فكرية خلال السنوات الماضية وبات رموز السلفية الجهادية حاضرين بالمشهد السياسي المغربي وأحيانا يتقدّمون الصفوف في التظاهرات والمسيرات وبعض اللقاءات مع كبار المسؤولين (كان آخرها لقاء بمنزل وزير العدل مصطفى الرميد)، تتراوح النقاشات فيها بين البحث عن حلول لمسألة بقية المعتقلين من أتباع السلفية الجهادية ومسألة إدماجهم بشكل رسمي في الحياة السياسية المغربية (خصوصا بعد عدم حصول محاولة ضمّهم لحزب الفضيلة على نجاح مُماثل لاستيعاب حركة الإصلاح والتوحيد، الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية الحاكم الآن، في عام 1997 من طرف الحركة الشعبية الدستورية، التي كان يتزعمها الدكتور عبد الكريم الخطيب). وكما هو معلوم، تثير حالة معتقِلي السلفية الجهادية القلق والإنزعاج لدى مختلف المعنيِّين بهذا الملف، الذي لا زال حائلا دون إتمام المصالحة بين الدولة وهذا التيار، إضافة إلى وقوف الحركة الحقوقية في المغرب بمختلف اتِّجاهاتها إلى جانب هذه الفئة من المعتقلين، وإلى التظاهرات التي تنظمها عائلاتهم دوريا في مدينة الرباط. مخاوفُ من التوظيف يقول مصطفى المعتصم"إنه شيء إيجابي أن يتم استيعاب السلفيين أو جزء منهم في عناوين سياسية معروفة، ويتم إدماجهم في الحياة السياسية، لكن بعيدا عن فكرة توظيفهم ضد هذا أو ذاك، لأن المغرب قد حاول توظيفهم في الماضي، إما تقربا من دول لها نفس التوجّهات المذهبية، أي سلفية، أرادت نشر مذهبها ورؤيتها للدِّين، ووظائفه عبْر ربوع العالم السُنّي وتقديم نفسها كرائدة ودولة مرجِعية للعالم الإسلامي السُني في مواجهة إيران، الدولة المرجعية للشيعة، وإما للمساهمة في الحرب ضد الإتحاد السوفييتي، خصوصا بعد غزوه لأفغانستان أو لمواجهة تنامي شعبية الجمعية الخيرية الإسلامية أو العدل والإحسان، وكانت النتيجة عكس التكهّنات والتوقعات وكارثية". في السياق، أوضح المعتصم في حديثة أن "المملكة العربية السعودية، الحاضن للسلفية الحديثة من خلال المذهب الوهّابي، احتضنت عام 1973 مؤتمرا عالميا للإخوان المسلمين، وحدث تقارب بين السلفيين والإخوان لمواجهة التيارات اليسارية والقومية والليبرالية، وبقيت أرضية التقارب فاعلة، إلا أن تباعُدا بدأ يظهر خلال السنوات الأخيرة، ليُتوّج بالقطيعة بعد انقلاب مصر في يوليو 2013 ولتظهر آثاره، ليس فقط في مصر، بل بين الفصائل الإسلامية التي تقاتل ضد نظام الرئيس بشار الأسد"، على حد قوله. أخيرا، يخشى المعتصم من أن يكون الإنفراج بين الدولة والسلفية الجهادية مندرجا في إطار الصراع بين السلفية والإخوان المسلمين بالمغرب، وفي إطار توظيف السلفيين في مواجهة إيران والمد الشيعي، وأيضا لإضعاف حزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان، على غرار ما يجري في مصر من وقوف السلفيين ضد الإخوان المسلمين، رغم ما عرفته السنوات الماضية من مُراجعات فِكرية داخل التيارات ذات المرجعية الإسلامية، حيث "تسلَّف الإخوان المسلمين وتأخْوَن السلفيون"، حسب رأيه.