حين يخطب الكثيرون في الشرق الأوسط، تصمت إيران، تستغل التناقضات وتربح على الأرض. إنه ما لا ينتبه إليه في حراك التحولات التي تحدثها أزمات غرب آسيا الممتدة من أزمة القرم الأوكرانية ? الروسية، إلى تطورات الشد السياسي في تركيا، إلى الملف السوري/ اللبناني/ العراقي. وحين كانت الأضواء مسلطة إعلاميا وسياسيا، على نتائج استفتاء القرم، وما تلاه من تصعيد كلامي بين واشنطنوموسكو.. ثم، على تطورات الصراع المحتدم بين أوردوغان وجماعة غول الشديدة التعقيد والإلتباس، كانت طهران تربح على واجهتين، في صمت وبدون بهرجة: هما واجهة المفاوضات مع المجموعة الدولية (خمسة زائد واحد)، حول ملفها النووي. بل وتقدمت تلك المفاوضات خطوات ملموسة، يترجمها ذلك المكر اللغوي الصادر رسميا بفيينا، الذي يقول ب «سد الثغرات»، رسالة على أن المسألة بلغت مرحلة الترميم النهائي، مما سيسمح عمليا ببداية رفع الحصار الإقتصادي والنفطي الخانق عنها. ثم، واجهة عمقها العربي باتجاه العراق وسوريا ولبنان، حيث يحقق محميوها في جماعة المالكي ببغداد، وجماعة الأسد بدمشق، وجماعة نصر الله ببيروت، انتصارات حاسمة على أرض المعارك الداخلية الخاصة بكل بلد، سواء عسكريا أو سياسيا. وفي مقابل ذلك، تبعثرت الورقة العربية، عمليا، أمام هذه النجاحات الإيرانية. وقدمت قمة الكويت، بنتائجها المفاجئة حول الملف السوري، الدليل الأوضح على ذلك. بل إن المثير أكثر هنا، هو أن نتائج بلديات تركيا، التي فسرت كنوع من الإستفتاء الشعبي لصالح أوردوغان، قد جعلت الورقة الإيرانية أقوى في ميزان الحسابات الجيو ? ستراتيجية بين موسكو والحلف الأطلنتي، من حيث عودة الرهان عليها من الجهتين معا، كقوة إقليمية، هي الوحيدة عمليا، القادرة على فرملة الطموحات العثمانية لزعيم إسطنبول الجديد، طيب رجب أوردوغان. ورغم كل المخاطر التي تشكلها مجتمعيا، الأزمة الإقتصادية الخانقة بطهران، فإم ملامح قوة الورقة الإيرانية كامنة، في أنها كبلد، تكرر لعب ذات الدور الذي ظلت بلاد فارس تلعبه ضمن محيطها الإقليمي منذ 120 سنة. أي منذ كانت رهانا روسيا ? بريطانيا حتى حدود 1920، قبل أن تصبح رهانا أمريكيا سوفياتيا بعد الحرب العالمية الثانية، وتصبح اليوم رهانا روسيا/ أروبيا/ أمريكيا. بل إن أمامها الآن، هدايا استراتيجية مثالية، هي أزمة أوكرانيا التي سوف تحسن التفاوض حولها مع الغرب ومع موسكو في آن، بفضل عمقها الإستراتيجي جغرافيا بالمنطقة. ثم تطورات الملف التركي. بالتالي، فإن الحدائق الخلفية التي تحسن طهران، إدارة معاركها الإستراتيجية فيها، هي أوكرانيا (وبترول وغاز الشمال)، ثم العراق وسوريا ولبنان واليمن وقطر مجلس التعاون الخليجي. إن الحالة الإيرانية هنا مغرية بالتأمل. ولا يمكن استيعاب معاني قوتها الإقليمية هذه، دون فهم دقيق لتطورها التاريخي خلال القرنين الماضيين. إذ علينا هنا أن لا ننسى أن القصة الفارسية ظلت دوما سؤالا فكريا وسياسيا وأدبيا عند الأروبيين، منذ «الرسائل الفارسية» لمونتيسكيو سنة 1721، التي شكلت المقدمة لكتابه الأشهر «روح القوانين». بالتالي، فإنه لا يمكن في ما أتصور، فهم القصة الإيرانية والذهنية الإيرانية ومعنى الدولة بإيران، دون العودة إلى كتابات بعض من أهم مفكريها، خاصة عالم الإجتماع الراحل منذ سنتين، إحسان نراغي، والمؤرخ الفيلسوف يرفند إبراهيميان. وإذا كان كتابا إحسان نراغي «الحظ المستحيل» و «من بلاط الشاه إلى سجون الثورة»، من بين أحسن ما يمكن قراءته كتحليل سوسيولوجي عن إيران الحديثة، فإن كتب إبراهيميان خاصة كتابه الأطروحة «إيران بين ثورتين» وكتابه التحفة «الخمينية»، يقدمان تشريحا سياسيا لبنية السلطة في بلاد فارس. والتي عززها بتحليل علمي موثق، ضمن آخر كتبه الصادرة حتى الآن، سنة 2013، تحت عنوان: «1953، المخابرات المركزية الأمريكية وطريق العلاقات المعبدة بين واشنطنوطهران». لكن أجمل كتب إبراهيميان، ليست هذه فقط، بل كتابه التحليلي الآخر، الذي قرأت هذه الأيام بمتعة ترجمته العربية الصادرة بالكويت (عالم المعرفة لشهر مارس الماضي)، الذي هو بعنوان «تاريخ إيران الحديثة»، الذي صدر قبل بالإنجليزية سنة 2008. فهو كتاب أطروحة، بكلماتعنيه الكلمة من معنى، كونه يفتت بدقة متناهية، كيف تشكلت الدولة الإيرانية الحديثة منذ دستور 1906، حتى قيام الجمهورية الإسلامية الحالية. وكيف صعد آل بهلوي وكيف سقطوا مرتين خلال القرن 20. بل كيف تشكلت النخب في إيران خلال 100 سنة الماضية. ولم بقي الدين ورقة حاسمة في تطور الذهنية الفارسية وكيف تشكلت الثقافات الإيرانية وتدافعت في ما بينها، وكيف ترسخت فكرة «نظام المدينة» باكرا في كل إيران منذ نهاية القرن 19. وما الدور الذي لعبه البترول في رسم خرائط السياسة هناك، في علاقة مع موسكو ثم مع لندن وبعدها واشنطن. بل، إن الأساس، هو منح إمكانية فهم كيف ظل يصنع القرار السياسي بإيران خلال 100 سنة الماضية، وكيف أظهر الإيرانيون، كما يقول إبراهيميان، وعيا قوميا يبدو سابقا على العصر الحديث بكثير. وكيف أن السلطة الحاكمة نجحت دوما في فرض استراتيجيتها عبر التلاعب المنظم بالإنقسامات الإجتماعية، خصوصا الإختلافات العشائرية والعرقية والطائفية. ويحق للمرء هنا التساؤل: أليست تلك هي الخبرة نفسها التي توظفها إيران اليوم في حسابات غرب آسيا والشرق الأوسط؟ أليست الإستراتيجية هي هي؟. الحقيقة، إن إبراهيميان قد لخص قصة بلده في أول جملة من كتابه القيم هذا، حين قال: «دخلت إيران إلى القرن 20 بالثور والمحراث الخشبي، وخرجت منه بمعامل للصلب وبواحد من أعلى معدلات حوادث السير في العالم، وببرنامج نووي يثير رعب الكثيرين». واضح أن القصة الإيرانية قديمة بالمشرق. ولأنها تجر وراءها تراكما لمنطق الدولة فهي تعرف جيدا كيف تمارس السياسة بما يجب لها من توابل المكر وبرودة الدم والمصلحة.