يعيش الأستاذ عبد الإله بنكيران، هذه الأيام حيرتين: حيرة شعبيته في أوساط عموم المغاربة، وحيرة شعبيته في .. البرلمان. فقد أخبرته مؤسسة سينريجيا، ويومية ليكونوميست، أن الاخبار السارة التي حملتاها له في بداية ولايته ، تتحول باستمرار في المختبرات اليومية لحياة المغاربة، وأن 88 % من الذين كانوا راضين عنه ( وهو ما اعتاد أن يسميه :«الشعب باغيني» ) قد تراجعوا بما يفوق 45%. وبذلك، فإنه في أقل من سنتين، تدحرج من رأس الإعجاب إلى منتصف الرضى. ولم يبق معه، لينتظر إعطاء رأيه في حكومته بعد انقضاء ولايتها ، سوى 50 % فقط من ..«الشعب الناخب». غير أن حيرة الشعبية في الوسط الشعبي، في تقدير ميزان الحيرة، يبدو أنها تقلق الرئيس أقل من شعبيته داخل البرلمان. ولذلك براهين تتعدى التخمين -الذي نستشفه من تسريبات إعلامية مدروسة، نقلتها الصحف اليومية ، تقول بأن الأستاذ عبد الإله بنكيران هدد بتقديم استقالته، وبالتالي التخلي عما تبقى من شعبه وشعبيته في البلاد خارج المؤسسات، إذا ما فاز كريم غلاب، الرئيس الحالي للقبة ومرشح المعارضة-. الحرب التي تدور حول غلاب، تفوق الحرب التي تدور حول أي اسم آخر، بما فيه اسم مرشح الأغلبية الطالبي العلمي، الذي كان الى حين دخوله في تحالف الحكومة، مفردا إفراد البعير المعبد! والذين كانوا ينشرون فضائحه، بعد كل تدخل أو بعد كل كلمة، بعد كل برنامج تلفزيوني أو بعد كل تقديم ميزانية، وجدوا أنه يصلح اليوم .. للنسيان، والبرلمان. وأصبح كريم غلاب، الذي كاد العناق بينه وبين الأستاذ بنكيران، في لقطة التنصيب يشبه عناق ممثلين في فيلم عاطفي، ويكفي الرجوع إليها، البعير الجديد في ذات البريد العمومي الذي يصل الى قراء الصحف، ومتابعي المسؤولين السياسيين. شخصيا فقدت حس المفاجأة، ولا أعول عليها في الصراع حتى ولو وجدت على رؤوس البرلمان شخصا لم يترشح قط، بل لم يتم انتخابه أو حتى ولو وجدت .. محمد الفيزازي على رأس الغرفة الاولى ، وسأعلن بوضوح تام أن الخلل في. (بنكيران نفسه ألم يقل لنا : آش من دستور، المغرب هادا؟!!). لكن ما لا أفهمه هو أن تنقلب الأدوار الى هذه الدرجة من الركاكة فعلا في قضايا لا تخضع للمزاج كما لا تخضع للحساب السياسي: أن تكون لهذا قضايا في المحاكم أو في السجل العمومي للأخلاق السياسية، فلن تسقط بفعل التقادم أو بفعل المنصب أو بفعل التواري السياسي، الذي يشتغل أصحابه أحيانا من تلقاء...تحايلهم! وما لا أفهمه حقا، هو أن يكون رئيس الحكومة، في دور الترتيب السياسي المعتمد طريقة شبه رسمية في مخاطبة الفرقاء السياسين، في وضع من يهدد بتقديم استقالته إذا ما فاز شخص آخر غير الطالبي العلمي ( وهو ما ليس واردا في تقديري؟). فالرئيس، لم يدافع أبدا عن ضرورة تنصيبه البرلماني، ولا تنصيب حكومته، لا في النسخة الأولى لشعبيته ( عندما كان يصيح في الشعب المغربي أنت لي !) ولا في النسخة الثانية عندما تقدم متخفيا الى التحالف السياسي ليعلن ، بعد مسيرة أربعين يوما، أنه اكتشف أن صلاح مزوار رجل صالح للسياسة وللنسيان أيضا، وأنه حليف ما منه بد لإنقاذ التجربة المغربية للربيع العربي ( الذي ما زال كاتيسارى.. اوووووووف!)! فما الذي يغيظه في سقوط مرشحه لرئاسة البرلمان إذا لم يعتبر ذات يوم أنه ضرورة دستورية أو حقيقة سياسية من حقائق البرهان الدستوري لما بعد الربيع العربي؟ فهو موجود بدون الحاجة إلى هزيمة غلاب أو انتصار العلمي؟ وهو موجود بدون الحاجة الى توصيف سياسي معين لحلفائه ( فمن معي فهو من ثلة أصحاب اليمين، ومن ضدي فهو من أصحاب الشمال ، والعكس صحيح عندما تتغير التحالفات..؟)، فالذين كانوا منبوذين في السابق أصبحوا حلفاء تقام لهم الدنيا وتقعد والذين كانوا حلفاء أصبحوا لصوصا ومختلسين ومستفيدين من دعم البرلمان ومن دعم المهربين.. ودول أجنبية لا تحب الاسلام والمسلمين؟ إذن لماذا التهديد بالاستقالة.. أو الحرب على الخصوم؟ قد يكون للعقل، في ترجيحاته النسبية وهو يقترب من الحقل السياسي المغربي، بعض التخوف مثلا إذا ما أصبحت الغرفة الاولى، بعد الغرفة الثانية في يد المعارضة، وأصبحت أغلبية بنكيران في المنزلة بين المنزلتين؟ لكن من قال إن العقل عضو في الحكومة المغربية؟ وأنه ضرورة سياسية في بلادنا؟ ، وأنه شرط منطقي في دورة الاشياء والسياسات الحكومية والبرلمانية؟ خلاصة القول إن السيد الرئيس ليس في حاجة الى أية شعبية من الشعبيتين: أولا بالنسبة للشعبية الأولى، قال عنها لتذهب شعبيتي ولا أريدها» وكررها كذلك في البرلمان وفي الشارع العام وفي الصحافة وأمام مناضليه. ولا أراه بأنه استبق ذهابها واستطلاع الرأي. والشعبية الثانية، فقد اجتهد اجتهادات غبر مسبوقة لكي لا تعنيه سياسيا، ولا أراه أيضا بأنه استبق ما يقال. ولا معنى للخوف أيضا لأنه لا يمكن للمعارضة ( وقد سبق إليها في ما مضي من أيام الفصول المغربية الأخرى ) ألا تقدم منافسا لمرشح أغلبيته. وإذا كان حق المعارضة ذلك، فمن يهدد بالاستقالة : هل يهدد حلفاءه؟ أم يهدد دولة عميقة ينطق بها لسان اللاعقل في تصريحات أفتاتي وبوانو. دولة ما كان لها أن تكون أعمق من .. العبث الذي تجرها إليه الأغلبية. فالدولة التي تحترم نفسها، كما في مغرب الانتقال اليوم، لا تحتاج الى عمق يملأه العبيد أو يملأه عشاق الطبلات النحاسية، الذين يعتبرون التراشق رياضيات مفيدة في بناء منطق الدولة!!