هل يمكن تطويع عطاء التاريخ في مجال الكتابة المسرحية ؟ وهل يمكن الجمع بين دروس هذا العطاء ومستلزمات تأثيث فضاء الركح بمضامين وقيم إنسانية نبيلة تشكل أساس الإبداع المسرحي الراهن ؟ وماذا يمكن أن يضيفه توظيف التاريخ في الكتابة المسرحية من إمكانيات واسعة أمام رحابة فعل التخييل الضروري في كل كتابة إبداعية مجدة ؟ ... أسئلة متناسلة تفرضها القراءات المتأنية للأعمال المسرحية الأخيرة للمبدع رضوان احدادو، من موقعه كفاعل مسرحي استطاع أن يحقق تركما هاما في مجال اهتمامه، بشكل جعله يصبح أحد أعلام الممارسة المسرحية الراهنة المجددة على المستويين الوطني والعربي الواسعين. ويمكن القول إن صدور نصه الجديد المعنون ب « المتنبي يخطئ زمنه «، عند مطلع السنة الجارية ( 2012 )، في ما مجموعه 75 صفحة من الحجم المتوسط، تعزيز لمسار طويل في مجال الولع بالممارسة المسرحية، تأطيرا وتأليفا وتنقيبا وتوثيقا. ولا يمكن ? بأي حال من الأحوال ? التوثيق لتراكمات الممارسة المسرحية بشمال المغرب بدون الاستناد إلى منجزه التنقيبي بهذا الخصوص. فهو رائده الذي أضحى مرجعا مركزيا بفضل مسيرته الطويلة المعطاءة التي تؤرخ لها محطات أساسية من تجربته، مثل أعماله التنقيبية المنشورة على صفحات جريدة « الشمال « منذ أكثر من عشر سنوات، وإشرافه على تسيير إطارات جمعوية رائدة بمدينة تطوان، وإصداره لعدة أعمال إبداعية أو تصنيفية متراتبة نذكر منها ? على سبيل المثال لا الحصر ? مسرحية « الأرض والزيتون « ( 1979 ) وكتاب « الحركة المسرحية بمدينة طنجة « ( 1992 ) وكتاب « كتابات على جدران مدينة منسية « ( 2001 ) وكتاب « ثريا حسن رائدة مسرحية من شموخ « ( 2005 ) ومسرحية « طارق الذي لم يعبر « ( 2011 ) ... وفي كل هذه الأعمال المجددة، سواء منها التوثيقية أو الإبداعية، ظلت مضامين توظيفات المؤلف لعطاء التاريخ بارزة بقوة، بل ومارست سلطة موجهة لمجمل ما اشتغل عليه المبدع احدادو طيلة مسيرته الطويلة في الميدان المسرحي. لذلك، أمكن القول إن رضوان احدادو قد نجح في تطويع لغة التاريخ قصد إكسابها عناصر التجدد لاكتساب القدرة على تفكيك خصائص الواقع الراهن. بمعنى أن عطاء التاريخ لم يعد مجرد وقائع مدرسية تقنية خالصة، بقدر ما أنها أصبحت تكتسي روح العصر، تستنطق تفاصيل الواقع، وتلتقط الإشارات الناظمة لعناصر التحول ، تستوعب الماضي لتفكيك تراكمات الراهن، تعيد قراءة مضامين التراث لاستيعاب تحولات الواقع. فيصبح التراث واقعا معيشا، مستفزا لشعورنا الجمعي، من خلال تشريحات المؤلف وإنتاجه لسلسلة من الأسئلة الصادمة التي تعمل على خلخلة اليقينيات وعلى إعادة النظر في المسلمات. ونتيجة لذلك، أضحى المؤلف ينحو ? باستمرار ? نحو تجديد متنه المسرحي استنادا إلى مجمل التقابلات الممكنة / أو المفترضة بين زمن نصوصه التراثية بخصائصها التاريخية المميزة، وبين ظلال ذلك على الواقع الراهن في تقاطعاته السياسية والاجتماعية المتداخلة. في هذا الإطار، أصبح المتنبي ابنا غير شرعي لهذا الزمن « الرديء «، يستحضر من خلاله أمجاده باعتباره فارس عصره وشاعر زمانه، ليقف عند أسئلة الهوية في زماننا الحاضر بعد أن يقطع المسافات والأزمنة، وبعد أن يرصد بعينه النقدية الثاقبة مظاهر النكوص في واقعنا الراهن. باختصار، هي قراءة لسقوط المرحلة في محيطنا العربي، انطلاقا من التوظيفات الصادمة لمضامين التراث الذي يعاد تجسيده في شكل ضمير جماعي منتصب في وجه كل مظاهر السقوط والتردي المزمنين. ولإبراز عمق هذه التوليفة التي جمع فيها رضوان احدادو بين « ضمير التراث « ومستلزمات الكتابة المسرحية بآفاقها التخييلية الرحبة، يمكن الاستدلال بمقاطع من نص المسرحية موضوع هذا التقديم، ففي ذلك اختزال لخصائص أنساق التجديد لدى المبدع احدادو داخل متونه التخييلية المؤسسة. ففي إطار رصده لمعالم انتشاء شخصية المتنبي بذاتها مع إسقاطات ذلك على الواقع الراهن، يقول المؤلف : « أنا المتنبي سليل العظمة وروحها المعتقة والمجنون بها .. بديل الأنبياء في الناس .. سأعرف كيف أبني قواعد مجدي المنشود وحدي. يهون علي من أجل ركوب الصعب، والوعر، والمتشعب، والشائك والمتشابك، لأنني أدرك أن هذا العالم الممسوخ لن يسود فيه إلا صعلوك أو من كثر ماله، ولا مجد فيه لعزيز أو لمن قل ماله .. إن الفقر سيظل دائما الحطب الذي يحرق جلود نفوس الفقراء ويتدفأ به السادة ... « ( ص . 27 ). وفي نفس السياق، يعيد المتنبي رفع صوته عاليا ضد انحطاط المرحلة وتردي الواقع قائلا : « هذه مدينة متسخة، صدئة، عاهرة، مدينة باعت عفتها وطهارتها .. مجدها ونخوتها، عزتها وشهامتها، فضاعت بذلك هويتها وملامحها، لقد لبست عباءة كل المدن السافلة .. مدينة أناسها هم أيضا بلا أحاسيس ولا أرواح، مستنسخون حتى ليتعذر على المرء التمييز ومعرفة من الرجل فيهم ومن هي المرأة. معبأة بالفراغ والخراب .. فراغ النفوس وخرابها « ( ص. 67 ). وفي سعيه لرصد معالم المصير والمسار، بين الماضي والحاضر، بين الذي كان والذي سيكون، يقول « متنبي العصر « : « لا تسألني عن الطريق، ولا تسألني عن العلامات، ولا تسألني عن الوصول، فلقد أخطأت العلامات العلامات والطريق الطريق، وليس كل من يمشي في الطريق يكون فعلا على الطريق، الطرق كلها فارغة من المحتوى مملوءة ومزدحمة بالضجيج والخواء، أتعرف أن كل الطرق توصل إلى المراد حتى المقطوعة والمغلقة والمنغلقة منها، فقط أن تكون لها إرادة السير، وإرادة الوصول .. ليست الأقدام هي التي تخطو وتقطع المسافات. الأقدام قد تشعرك بذلك كما قد تشعرك بالتعب والعياء، إنما هي الأرواح القادرة على التحليق بعيدا .. بعيدا ... « ( ص. 69 ). وانطلاقا من مثل هذه المضامين الوجودية العميقة، انساب نص « المتنبي يخطئ زمنه «، ليقدم احتفالا مسرحيا مجددا، نجح في الإمساك بطرفي المعادلة الصعبة في فهم أسرار سقطاتنا وانحطاطنا، معادلة الربط بين الماضي والحاضر والتي نجحت في تفجير مضامين التراث لإكسابه القدرة على قطع المسافات والأزمنة قصد تشريح الواقع وخلق منطق الصدمة والثورة في قراءتنا لهذا الواقع. وبعد، .. أليس التاريخ جزءا من الواقع ؟ بل، أليس التاريخ هو الآتي ؟ أسئلة وجودية استطاع متن نص « المتنبي يخطئ زمنه « تفكيك مكوناتها ورصد مظاهر إبدالاتها خارج الأزمنة والأمكنة والسياقات.