كان لا بد من جرعة قوية من الإرادة السياسية وصرح مؤسساتي متين كي يلتزم بلد ما رسميا بمتابعة يومية وفعالة لشكايات المواطنين وتعرية ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان. وبارتقائه درجة في ميدان حماية الحقوق الأساسية، يخطو المغرب خطوة أخرى نحو تفعيل النموذج الذي طوره منذ أزيد من عشر سنوات ضمن ورش واسع للإصلاحات السياسية والمؤسساتية. وتعكس مبادرة تعيين مخاطبين دائمين في كل قطاع لمعالجة الشكايات المرتبطة بحقوق الإنسان، المسافة الطويلة التي تم قطعها في التفاعل والتعاون مع الآليات الوطنية والدولية. والشيء الأكيد أن الحكومة تنخرط أولا في النضال الذي يقوم به المدافعون عن حقوق الإنسان من أجل مواكبة أفضل للدينامية المجتمعية، والتي يعكس صداها المجلس الوطني لحقوق الإنسان عبر توصياته. ثم إن الأمر يتعلق ، ثانيا، بالوفاء بالالتزامات التي أخذها البلد على عاتقه داخل منظمة الأممالمتحدة كعضو مؤسس لمجلس حقوق الإنسان التابع لها. ويشهد على ذلك، قرار الحكومة بالتفاعل السريع والتجاوب الفعال مع الشكايات والمقترحات الواردة من المجلس الوطني لحقوق الإنسان ولجانه الجهوية في الأقاليم الجنوبية للمملكة. ويوضح الأمين العام للمجلس السيد محمد الصبار لوكالة المغرب العربي للأنباء أنه في الواقع، سيخول هذا القرار "تجاوز صعوبات التواصل" مع القطاعات الوزارية وجعل التحقيقات ومختلف سبل التقاضي ممكنة. ويعتبر السيد الصبار أن التفاعل المنتظم بين الجهاز التنفيذي وتوصيات المجلس يأتي ثمرة مسار أشمل لتقوية آليات مراقبة حقوق الإنسان وتوسيع مجال الحريات. وتعبر هذه الدينامية عن نفسها في المصداقية التي يحظى بها المجلس، خاصة لدى منظمة الأممالمتحدة، كمؤسسة دستورية ذات صلاحيات واسعة وجديرة بالثقة. ويجسد المجلس الوطني لحقوق الإنسان، العنصر الأكثر دينامية في النموذج المغربي للنهوض بحقوق الإنسان وحمايتها، تمسك المملكة المتين باحترام التزاماتها الدولية في هذا المجال والعزم الأكيد لجلالة الملك محمد السادس على المضي قدما في تقوية دولة القانون والمؤسسات. ولا يمكن فصل تجربة المجلس بعد ثلاث سنوات من وجوده عن العديد من المبادرات التي لا تقل أهمية وتم تفعيلها في إطار مسار متدرج وشامل وبالخصوص لا رجعة فيه. وبالفعل، بادر جلالة الملك وطور أفكارا جديدة أعلن عنها في خطابات كثيرة ، بدءا من صدور مدونة الاسرة التي اعتبرت ثورية على المستوى الدولي وبكل المقاييس ، ووصولا لإحداث المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان، ومرورا بعمل الذاكرة والحقيقة الذي قامت به هيئة الإنصاف والمصالحة وعمل جلالة الملك، منذ البداية، وفقا لمقاربة تعددية ومؤسساتية لترسيخ مفهوم المواطنة باعتباره أساس نموذج الديمقراطية والتنمية الذي يرعاه جلالته من أجل مجتمع حداثي ومتضامن ومتصالح. وبناء على هذا التوجه، تم تعزيز الضمانات المؤسساتية للحق في العدالة في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان وتمت المصادقة على قانون ضد التعذيب. وإذا كانت هيأة الإنصاف والمصالحة قد ساءلت الماضي بكل ما يحمله في طياته من صفحات مؤلمة، فلم يفتها كذلك أن تضع المستقبل في جوهر عملها. وهكذا أكدت الهيأة على فصل السلط كضمانة رئيسية لاستقلال القضاء التي تتطلب قبل كل شيء "الحظر الدستوري لكل تدخل للسلطة التنفيذية في سير السلطة القضائية"، حسب ما جاء في توصيات تقريرها الهام. وفي هذا الاتجاه، أوصت "بتأهيل التشريع والسياسة الجنائية" عبر إحداث ضمانات مسطرية ضد انتهاكات حقوق الإنسان التي تعد حجر الأساس في جهود حماية الحريات الفردية والجماعية. ونحن هنا أمام برنامج إصلاحات فعلي رفعته هيأة الإنصاف والمصالحة للنظر السامي لجلالة الملك، والذي جعل منه جلالته إحدى أولويات العمل الحكومي بهدف تحديد اختصاصات مختلف المتدخلين لتفادي خلط المسؤوليات الذي يهدد بتشجيع الإفلات من العقاب وبالتالي عرقلة البعد الآخر للتمرين الديمقراطي والمتمثل في المحاسبة. ومن المكتسبات الهامة الأخرى، الرقي بدور منظمات وجمعيات المجتمع المدني إلى مستوى الشريك الفعلي، في اتجاه مشاركة مدنية أكبر في السياسات العمومية. وتعضد يقظة هذه الجمعيات والمنظمات ضد كل مس بقيم وحريات المغاربة، الآليات الوطنية للدفاع عن الحقوق الإنسانية التي يجب أن تستفيد منها الفئات الأكثر هشاشة في المقام الأول. وعلى العموم، فإن المؤسسة الملكية، كفاعل مسؤول، تلعب دور القوة السياسية المدنية، الملهمة لعقد اجتماعي جديد للمستقبل، كما تشهد بذلك المقاربة التشاركية التي سادت خلال مسار إعداد دستور 2011 والتطور الحامل للآمال الذي نتج عنه. إن هذه الإنجازات التي تتعزز يوما بعد آخر، لم تكن لتكون ذات الأثر الاجتماعي أو السياسي المنشود، لو لم تكن مؤسسة على البناء المؤسساتي الذي يعد، في آن واحد، تجسيدا للسياسة الإرادية لجلالة الملك، وانبثاقا للقوى الحية للمغرب الجديد