( إلى سعيد منتسب ) بالنسبة لرجل غامض مثله، كثير الانتقال من مكان إلى آخر بحكم طبيعة عمله، وشديد التمسك بسحنة الغريب لكون الإقامة تفسده، كانت الأيّام صورة فوتوغرافيّة بلا إطار. حين أضحت المنازل المؤقتة التي كان يحطّ الرحال بها ، حاملا أثاثه الزهيد ، وحقيبة سفره القديمة ، وسيرته المقطوعة من شجرة ، كما لو أنّها غرف تحميض . ولأنّ صاحبنا ، الذي وقع عليه اختيارنا ليلعب دور الشخصيّة الرئيسيّة في هذه الحكاية، من النوع الذي يثق بما يهدمه ويلامس العثرات فيه ، فقد كان بالغ الحرص على أن لا تكفّ الصورة الفوتوغرافيّة عن تعديل نفسها، لكن مع احتفاظها في كلّ مرّة بتفصيل واحد لا يتغير ، هو : الدّمية !. الدّمية ذاتها ، التي لم يكتب له يوما أن يمتلكها في طفولته القديمة ، غير أنّها قبل هذا التاريخ بثلاثين عاما كاملة ، سكنت أحلامه الفتيّة ، وغدت بمثابة طيفه الصديق ، الذي انتصر به على عزلة الابن الوحيد للعائلة . في الحقيقة ، لقد ربّاها طيلة السنين الكثيرة الماضية في ركن دافئ من أعطافه حتى صارت بصنو عمره . وهاهو الآن ، على مفرق الكهولة ، لم يعد يعلم هل هي نفس الدّمية الأصليّة التي كان يحتفظ بها بين أشيائه الحميمية الخاصة ، دون أن يجرؤ على كشف سرّها لأي كان ؟ أم هي دّمية أخرى خرجت من غفوتها على الضفة المجهولة لوعيه ، كي تعوض دّميته الأصليّة بعدما نهب الزمن رونقها مثل صورة فوتوغرافيّة محروقة؟ . لا عجب ، فالذاكرة نزّاعة إلى التبديد ميّالة إلى الابتكار ، ولابدّ من قسط تشابه حتّى يكتمل كلّ نسيان زائف . ومادامت بيوت شتّى قد أنكرته ولا أهل تحت ثيابه ، فلم لا يتخذ من الدّمية أهلا وسكنا بديلين له . فغداة كلّ منزل جديد ، ينتقل إليه متطوّحا من مدينة إلى أخرى ، كان همّه الأوكد وشغله الشاغل هو أين يضع الدّمية. وبما أنّنا أقرب إلى صاحبنا من حبل الوريد، سندّعي والعهدة علينا ، أن الرجل كان يفتلذ من الفضاء حيزا مخصوصا لها ، في واسطة الصالون أحيانا ، ثم يحفّها من الجانبين بالوسائد، كيما تكون في أوج زهوها . لكم يحب أن تكون قدامه ، عندما ينخرط في إغراق اللّيل في كؤوس الويسكي الرخيص، مبدّد النفس وقاتل الصحة . يحاورها وتحاوره . ينادمها وتنادمه . يباسطها وتباسطه . يصعد برفقتها إلى ذرى وحدته ، وينزل برفقتها إلى سفح قنوطه . يخاطب بمعيتها خيال أمه التي ماتت منذ عشرين عاما، ويصمت بمعيتها حينما يثقل السكر لسانه في حضرة أب غائب وغائم في حناياه ، لسبب مجهول لم يرفع بعد عنه الغطاء . ثمة جروح لا تلتئم أبدا ، ويستحسن أن لا نرفع عنها مطلقا فضل الغطاء . تكفيه الدّمية فحسب . فهي صديقة الغصص التي تزدحم في الصدر، ورفيقة اللّحظات الباردة الموحشة التي تصيّر المرء عدوا مثاليّا لنفسه . كما سندّعي من موقعنا كسارد عليم ، أنّ صاحبنا ، في أحيان أخرى ، كان ينتقي للدّمية موضعا مناسبا في الرواق المؤدي إلى غرفة النوم ، ويثبت في مواجهتها مجموعة من المرايّا المتقابلة ، التي كانت تكرّر صورتها. ُترى، هل كان الرجل يعمد إلى هذا لأنّ ما لا يتكرّر يفنى ؟ أم لأنّه كان يتصوّر بأنّ دّميته العزيزة تكره أن تبقى بمفردها أثناء غيابه عن المنزل ؟ فتعيّن عليه أن يجلب لها ذاتا أخرى من صلبها ، وأن يخرج لها من انعكاسات المرايّا تلك الروح التي تقطن جسدها علّها تملأ بياضات الغياب ، في انتظار عودته الوشيكة . آنذاك وبمجرد وصوله إلى المنزل ، أيّ منزل، في أيّ مكان ، أو في أيّة مدينة ، كان يسدل ثوبا أسود اللّون على المرايّا ، على كلّ المرايّا ، ويستعيد لوحده الدّمية ، ثم يستأنف صحبتها. فإذا كان النهر لا يستريح بغير تلاشيه في البحر، فهو بالمثل كان لا يستريح بغير تماهيه في الدّمية . هنالك صوت مزدوج مثلما لو أنّ له نبرته الخاصة وحياته الموازية المستقلة عنه ، كان يتحدث ويصرخ بلا توقف داخل جوفه : » أنت هو الدّمية «. وعلى هذا الدأب ، ظلت تمضي علاقة صاحبنا بالدّمية ، التي صنعها في طفولته الآفلة، وأدمنها في شبابه المتواري ، ولم يسأمها في ما تبقّى . لا يعكر صفوهما تعدّد المنازل ، ولا يغتال سكينتهما تناسخ الصالونات والأروقة والمرايّا . إلى أن جاء يوم ، قرّ فيه عزم الرجل على وضع حد نهائيّ لنمط حياته التي أنهكها السفر وأثخنتها المسافة . فغيّر عقب هذا القرار الحاسم عمله ، ثم امتلك أخيرا شقة جديدة (تقع في الطابق الثالث لعمارة). أليس السفر بدوره جرحا تذكيه المسافة ، وإذا ما تحوّل إلى مهنة مضنية ، يفقد معناه بفقدان معنى المسافة ، فيتوقف عندئذ عن النزف. وبمجرد الاستقرار في الشقة ، حدث لصاحبنا ما هو مذهل ومخالف للتوقعات التي كنت قد وضعتها مسبقا للحبكة. أزعم بأنّ الرجل شرع يحسّ بأنّه يتغيّر في أعماقه، وبأنّ كلّ شيء طفق يحمل معناه الصحيح بالنسبة له . بل، قد يجنح بي الزعم إلى القول بأنّ نفسه كانت تبدو له، في تلك الأثناء إذا ما رغب في وصفها ، كما لو أنّها شخص بعيد يراه من النافذة ، من نافذة لا مرئية بداخله ، يراه من الخلف ، يبتعد مرتديا معطفا شتويّا في يوم قائظ ، يبتعد ويبتعد حتّى يستحيل إلى نقطة بيضاء نحيلة أو حبّة حصّى سوف تغيب بعد برهة عن مجال الرؤية . ألّمت بصاحبنا حالة توازن تام ، فتوقف عن السكر ، وأصبحت عاطفته خاوية وغير أمّارة بالدّمية . فالدّمية التي كانت ملء العقل والخاطر نفدت دفعة واحدة من الجسد والوجدان ، لدرجة أنّه أقدم على وضعها مع بعض المتلاشيات في شرفة الشقة. وضعها الرجل بلا أسف أو ذّرة ذنب في الزاوية اليمنى للشرفة . هناك تماما ، قرب المظلة الصغيرة، المغلقة ، الواقية من المطر . تماما هناك ، حيث بقيت بلا حراك، ليستبدلني المؤلف في التو بسارد عليم آخر ، لاأعرف عن نواياه أيّ شيء . في الأسبوع الأول لحلولك بالشقة ، الجديدة طبعا . كنت تضع رأسك على المخدّة ، وتغمض عينيك، وخلال ثانية واحدة ، تغرق في النوم مثل رضيع أنهى بزّازة الحليب . لكنّ إرادتنا الشريرة ، بخلاف السارد السابق الذي كان يبدي تعاطفه مع حالتك ، اقتضت أن لا يستمر الحال على هذه الشاكلة . إذ لامنّاص من اختلاط واختلاق كلّ شيء ، الواقع والوقائع . ولا فكاك من جعلك تركض كالفأر داخل مربع رعب متساوي الأضلاع . فحينما تغادر شقتك في اتجاه عملك الجديد ، كنت أدفعك إلى الالتفات فجأة بمجرد اجتيازك البوابة الرئيسيّة للعمارة. ومن موقعك عند انحناءة الطريق ، كنت أعمد لأن يخيّل لك بأنّك ترى الدّمية واقفة على الشرفة غبّ كلّ صباح ، تحمل بيديها المظلة الصغيرة الواقية المفتوحة ، ترنو إليك مضيومة بوجه ممتقع وبعينين يملؤهما الأسى . وكنت أطيل تحديقتها وأحوّلها إلى وجع هائل يتركز في محجريها حتّى يرتجّ كيانك ويعصف الخوف بيقينك . أمّا إذا جنّ اللّيل ورقدت على سريرك ، فكنت أتوغل إلى كوابيسك وأفتعل أن تنتفض وجلا من عمق نومك، لأنّ المشهد المتكرر الذي كنت تظّن أنّه يجري من وراء جفنيك ، سيتضح لك في ما بعد أنّه ربما يكون حقيقيّا فعلا وباعثا على الفزع : لقد كنت أحفّز الدّمية لأن تغادر موضعها على الشرفة ، وتتجوّل في أرجاء الشقة . تشعل مصباح الرواق ، وتقف لدقائق طويلة أمام باب غرفة نومك الموصدة . وبعد ذلك ، تختفي ظلال قدميها من تحت فتحة الباب ، ثمّ ينطفئ النور. كنت أشجّعك لأن تغالب فزعك ، وتهرع من سريرك في إثرها ، غير أنّك كنت تفاجئ في كلّ مرّة بوجودها متكوّمة وسط المتلاشيات ، في الزاوية اليسرى للشرفة، تماما على مقربة من المظلة الصغيرة، الواقية، المغلقة. بل، الأدهى من ذلك، لمّا سوّلت لك بأن تطاردها في إحدى اللّيالي ولم تستطع ضبطها في حالة تلبّس، وقفت على الشرفة لتدخن سيجارة ، فاستشعرت ما حسبته يدا ضئيلة تجذب تلابيب سروال بيجامتك . وعندما انحنيت لتستطلع الأمر ، صوّرت لك بأنّ الدّمية أضحت بسيقان كثيرة ، وبأنّ خيوطا دقيقة لا حصر لها تتدلى من كلّ زوايا الشرفة . وفي نوبة جيشان وهوس أشعلتها بأعصابك المتلفة، كنت كلّما كسرت للدّمية ساقا ، انبتت لها في فجوة الكسر ساقا أخرى . وكلّما ظهرت في الفجوة ساق أخرى ، خرج منها المزيد من الخيوط ، وسرحت في كلّ الاتجاهات ملتفة على بعضها كأنها نسيج جهنمي يوشك أن يطبق عليك بحبائله. عنكبوت ضخم صار يجلس على صدرك، وخاصم النوم عينيك . وكي لا تتفاقم الأمور وتنقطع كلّ أوتار الكمان كما يقال ، اتّقيت فيك وجه الله ، ثم أوقفت عبثي حتّى لا تتجاوز خطوط المربع الحدّ المرسوم لها. من فضلك صدقني ، لست مسؤولا عن الخبطات . تلك التي كانت تندلع خفيفة على جدران الشقة تحت جنح الظلام . لست مسؤولا عن الخبطات لمّا ارتفعت وتيرتها كأنّما هي مطرقة هائلة تشقّ بطن الأساسات. لست مسؤولا عن تهشّم الأواني والثريات وزجاج النوافذ . لست مسؤولا عن الشظايا ، عن كّل الشظايا، عن كلّ شظايا الشقة وشظايا حياتك كلّها . لست مسؤولا عن الهزّة العظيمة ناحية المطبخ كما لو أنّ زلزالا صغيرا ضرب الشقة على حين غرّة . لست مسؤولا بالتأكيد عن أيّ شيء . من فضلك صدقني، فأنا مثلك مصدوم و غير مصدق . مثلك أقف على الهاوية التي تطل على الشارع . أقف بصحبتك وأتطلع بحزن وفؤاد يتفطّر إلى الشرفة التي انهارت من مكانها ، سقطت من عليائها، وقررت مغادرة الشقة. أقف بصحبتك وأفكر بأنّها انتحرت كمدا على الدّمية ، التي كان منظرها مؤلما وهي مضّرجة بدمائها وسط الأنقاض والحطام !.