تشاء الصدف الماكرة أن يتزامن يوم المرأة العالمي بأحداث مارس 73 الحالكة، هذه الأحداث التي كانت مشحونة بالاضطهاد والقمع والعذاب والأحلام المغتالة، وبطواحين الرعب والاختطاف والتنكيل والإعدام الجماعي، وكانت بحق "القلب النابض لسنوات الرصاص"، وفي ثنايا هذا الجحيم توجد الكثير من الحكايات الرهيبة التي ما تزال موشومة بأسماء وعائلات واجهت آلة المآسي والاستبداد. عائلة محمد أومدا بخنيفرة يصعب على دعاة "طي صفحة الماضي" طيها بسهولة، وكلما تم فتح جراح هذه العائلة تتجلى صورة المرأة الأمازيغية، عيدة بويقبة، زوجة محمد أومدا، التي رتبها تاريخ الاعتقال السياسي ببلادنا كواحدة من الصامدات التي ظلت واقفة إلى أن زارها ملاك الموت، بعد معاناة مريرة مع مرض طويل حملته من برودة غياهب المعتقلات الرهيبة التي "استضافتها" على مدى ثلاث سنوات وخمسة أشهر ما بين خنيفرة وميدلت تحت أبشع ضروب التنكيل وأصناف التعذيب الجسدي والنفسي، حيث لم يفت معشر الجلادين الارتقاء بوحشيتهم إلى نحو حمل هذه المرأة على متن طائرة عسكرية من نوع هيلوكبتر، وتعليقها من رجليها في وضعية متدلية من الفضاء بغاية ترهيبها عن طريق التهديد بإلقائها على الأرض أو في البحر إن لم تدلهم على مكان زوجها محمد أومدا الذي لم تكن تعلم أي شيء عن مكانه، وعلى كل سؤال يوجهونه إليها كانوا يصطحبونه بصفعة خشنة على وجهها النحيل. وبعد الإفراج عن عيدة بويقبة بنظام الاستمرار في مراقبة تحركاتها والتوقيع كل إثنين لدى السلطات، وجدت نفسها في دوامة من التيه والبؤس جراء إقدام زبانية الأجهزة القمعية على نهب وإتلاف كل ما كانت تملكه من متاع وأثاث، وقد تنكر لها جميع أقاربها ومعارفها وجيرانها جراء الخوف الشديد الذي كان سائدا يومها، خصوصا في عودة زوار الفجر لاختطاف ابنتها بالتبني فاظمة أعساري، واعتقالها في ظروف سيئة بأمر من الكولونيل أرزاز، دونما أن يشفع له عمرها الذي لم يتجاوز آنذاك 12 سنة في شيء من طرف الجلادين، كما اختطفوا شقيقتيها رقية وحادة بويقبة في إنزال مكثف طوق الحي بكامله. ولم تكن عيدة بويقبة وحدها ضمن أفراد العائلة التي ذاقت ويلات الجمر والرصاص، بل ابنتها بالتبني أيضا، فاظمة أعساري، وهي أصغر أنثى يُزج بجسدها الناعم في طاحونة الرعب لمدة تسعة أشهر، وعمرها لا يتجاوز 12 سنة، وقد عمد زبانية أوفقير وأرزاز إلى ترهيبها هي الأخرى في محاولة منهم ابتزاز أي معلومة من أمها قد تقودهم لمكان اختباء محمد أومدا، ولما لم يحققوا مبتغاهم الجنوني عمدوا إلى نقل فاظمة صوب غابة "عاري أوحيدوس" وصلبها هناك على غصن شجرة لم يتحملها فانكسر وسقطت على الأرض بقوة، وأصيبت إثر ذلك برضوض وكسور لم تندمل آثارها.. لا زالت فاظمة تتذكر بوضوح شديد الساعات التي كان فيها الجلادون يعذبون والدتها أمام أعينها، وبعدها بأشهر أفرجوا عن البنت واحتفظوا بالأم في غياهب الظلمات. وجبة الجلادين لم تكتف بزوجة محمد أومدا أو ابنته، وأظافرهم المرعبة تمتد إلى أصهاره أيضا، رقية بويقبة التي تم اختطافها وتعريضها للتعذيب والتنكيل بصورة أفقدتها جزءا من ذاكرتها، ثم شقيقتها حادة بويقبة التي تم اعتقالها في ضيافة الجحيم، وبعدها فاظمة أمزيان (زوجة محمد بويقبة)، الملقبة بأم حفيظ، هذه التي أقدم الجلادون على وضع اسمها ب "المربع الأحمر" إثر فرار زوجها خارج الوطن، ولم تسلم من أبشع أنواع التنكيل والتعذيب الجسدي والنفسي، وكانت السلطات القمعية التي أفرجت عنها بعد أربعة أشهر من اختطافها بتغاط، عادت لتداهم بيتها في وقت متأخر من الليل واختطافها نحو مكان مجهول، وهي وقتها حامل، وانتزعوا منها طفلتها التي لم يتجاوز عمرها آنذاك ست سنوات، وفي جحيم الاعتقال، الذي دام حوالي 19 شهرا، ما بين مولاي بوعزة وخنيفرة وفاس، وضعت مولودها الذي اختارت له من الأسماء "حفيظ"، والذي اعتبر آنذاك أصغر رضيع في تاريخ الاعتقال السياسي. أما أحمد بويقبة، صهر محمد أومدا، الذي وجد نفسه منخرطا في صفوف المقاومة ضد المستعمر الفرنسي، رفقة صهره محمد أومدا، فقد أخذ موقعه بين المتمردين الذين آمنوا بالكفاح المسلح وسيلة للتغيير، حيث بدأت مرحلة التنسيق مع الخارج، ثم مع الفقيه محمد البصري، وفي أوج موجات القمع والاضطهاد والعنف لجأ أحمد بويقبة مع من لجأ من "الثوار" إلى الجبال والغابات، ورغم مطاردتهم لعدة مرات كانوا يتمكنون من الإفلات من الاعتقال ويفضلون ظروف الجوع والعطش لأزيد من سنتين. في هذه الأثناء بدأ السلاح يتدفق من الجزائر ليد رفاق أحمد بويقبة عبر فكيك، وقبل حلول شهر مارس بأيام قليلة صدرت أوامر خاصة ل "الثوار" بالنزول إلى الميدان، وذلك عبر إبراهيم التزنيتي ومحمود بنونة الذي سيستشهد، خلال اليوم الخامس من مارس 1973، في مواجهة مسلحة بأملاكو بمنطقة كولميمة صحبة رفيقه مولاي سليمان العلوي، وتم الاتفاق على يوم الثالث من مارس كموعد لإطلاق النار، والبداية من مولاي بوعزة، حيث تم التخطيط للهجوم على ثكنة للمخازنية بهدف الاستيلاء على بعض الأسلحة التي أكدت بعض المعلومات وجودها بهذه الثكنة، وأقدم الكومندو المُهاجِم على اغتيال الحارس الليلي ولم يتم العثور على أي سلاح. "الخطة الفاشلة" أجبرت الثوار على العودة إلى الجبال التي تم تطويقها من كل جانب بالعسكر والدرك، وبالمأجورين من المدنيين "الحيَّاحَة"، لتقع مواجهات واشتباكات مسلحة بين الطرفين، ومن "الثوار" من نجا ومنهم من سقط قتيلا، ناهيك عن اعتقال المئات من الأبرياء، بمن فيهم الشيوخ والنساء والأطفال، وتعذبهم بوحشية، لإجبارهم على الإدلاء بمعلومات عن أماكن "الثوار" التي لم يكن أحدا يعلم بها، وحينها أفلح محمد أومدا في إقناع مرافقيه بمغادرة البلاد نحو الجزائر، وفعلا غادرها هو وصهريه أحمد بويقبة ومحمد بويقبة، ثم احماد تغاط، ليصدر في حقهم، يوم 30 غشت 1973، حكما بالإعدام من طرف المحكمة العسكرية الدائمة، ليعود إلى الحياة من جديد، عبر عفو صدر في حقه وهو يومها خارج وطنه الأم الذي غادره هربا من موت لا يرحم، وعندما عاد إليه وجد نفسه دون بيت يأويه ولا أرض ولا أهل، لقد مسح العساكر بيته بالقنابل، ودمروا كل ما فيه من أثاث وأوان وحبوب، وأتلفوا مواشيه ودكوا محاصيله الزراعية، بينما اقتادوا أفراد أهله نحو الظلمات المجهولة لإكرامهم في ضيافة الجلادين. وإلى ذلك لم تصل أيادي الجلادين لمحمد أومدا الذي ظل لاجئا بالديار الجزائرية إلى أن وافته المنية عام 1986 بعد صراع طويل مع مرض ألم به، ودفن هناك غريبا عن وطنه الذي كان غارقا يومها، بفعل جلاديه، في جحيم من انتهاكات حقوق الإنسان، ومن هذا الوطن كانت قبيلته بآيت خويا بإقليم خنيفرة قد تعرضت لسياسة الأرض المحروقة ببشرها وحيواناتها وأشجارها، وبذات الإقليم كانت هناك عائلة احماد عسيل المعروف باسم "احديدو"، هذه العائلة التي واجهت بدورها عواصف القهر والإذلال بهدف إجبارها على إرشاد العساكر إلى مكان عميد الأسرة، ومن هذه العائلة تم اختطاف الزوجة فاظْمَة أوخلف، معصوبة العينين ومكبلة اليدين، إلى حيث تعرضت لأبشع أشكال التعذيب والتنكيل المتوحش على مدى تسعة أشهر قضتها بين ظلمات الثكنة العسكرية لمولاي بوعزة ومعتقل "الكوربيس" بالدار البيضاء الذي نقل إليه عدد من أفراد أسرتها، بينهم ابنان، وبقي ثلاثة من أشقائها عرضة للتشرد، وحينها نزل الخبر الصاعقة المتمثل في نبأ تنفيذ حكم الإعدام، ليلة عيد الأضحى، المتزامن ويوم 30 غشت 1973، رميا بالرصاص في حق زوجها احماد عسيل، صحبة رفيقه موحى والحاج أمحزون وآخرين في ما كان يعرف بمجموعة محمد دهكون. وبعد الإفراج عنها، وجدت فاظمة أوخلف نفسها مسؤولة عن عيش أبنائها الخمسة، إذ كانت السلطة آنذاك قد قامت بحرق وهدم منزل الأسرة وإتلاف ممتلكاته، واضطرت للعيش على صدقات المحسنين بالطرق السرية المعلومة، وانضافت إليها حكاية شقيقتها إيطو التي توفيت مباشرة بعد خروجها هي الأخرى من جحيم الاعتقال دون محاكمة، ولم تسلم شقيقة زوجها فاظمة إيطو عسيل هي الأخرى من دوامة القمع، إذ اعتقلت في مرة أولى، وبعد إعدام شقيقها اعتقلت ثانية يوم نزعوا منها طفلتها واقتادوها إلى حيث قضت عدة أشهر في ضيافة الظلام والتعذيب.