اختُتمت فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته العشرين، وعاد معه طرح مسألة ضعف القراءة في بلادنا. واللافت أن الأمر لم يعد يقتصر على القرّاء "العاديين" الذين لا يشتغلون بالكتابة والنشر، بل اتسع ليشمل ظاهرة عدم إقبال المثقفين المغاربة على اقتناء كتب مغاربة آخرين. فهل يمكن الجزم بأن الكتّاب المغاربة لا يقرؤون لبعضهم البعض، بل إننا لاحظنا، في أروقة المعرض، أنّ بعض الكتاب، في مختلف أجناس الكتابة، يكونون بصدد توقيع كتبهم في رواق شبه فارغ، والجميع يمر بدون الانتباه إليهم، ولا اقتناء مؤلفاتهم. والمسألة هنا لا تتعلق بثمن الكتاب الذي لا يتجاوز أحيانا 20 أو 30 درهما، بقدر ما تتصل بظاهرة سوسيولوجية ما فتئت تتنامى. وتؤكد مظاهر عديدة على وجود أزمة حقيقية للقراءة في المجتمع المغربي، من بينها توزيع نسخ محدودة تعد ببضع مئات فقط من الكتب لمؤلفين ومثقفين مغاربة لهم باع طويل في مجالات الأدب والفكر والمعرفة، نتيجة الإقبال الهزيل على شرائها للاطلاع عليها وقراءتها. ومن المظاهر الأخرى الدالة على حدة الأزمة التي تعيشها القراءة في المغرب، ضعف البنى التحتية التي تساهم في ربط الفرد بقراءة الكتب، من قبيل المكتبات العمومية والخزانات الثقافية التي لا توجد بوفرة في البلاد. أزغاريد: الاكتساح الرقمي يعمّق الأزمة يُرجع الشاعر جمال أزراغيد الأسباب في تدني القراءة بالبلاد إلى عوامل ذات تأثير بالغ، من ضمنها انعدام تربية أسرية للأجيال الناشئة على التمرس على القراءة من الصغر. ويرى أزراغيد أن عوامل رئيسية أخرى تلعب دوراً حاسماً في الوضعية المزرية للقراءة في البلاد، من قبيل الاكتساح الرقمي، أو ما سمّاه جاذبية النّت في جلب الشباب إليه، وشيوع الكتاب الإلكتروني عوضاً عن تصفح الكتاب الورقي، فضلاً عن ضعف القدرة الشرائية لشرائح عديدة من المجتمع المغربي. ويساهم تفشي الأمية بنسبة تتجاوز 40 في المئة في تكريس أزمة القراءة بالمغرب، كما أن التلاميذ والطلبة يكتفون فقط بما لديهم من مقررات دراسية مكثفة، ولا يتعدونها لقراءة ما تجود به قرائح المثقفين والمفكرين والأدباء من كتب ومؤلفات. الداهي: عدم وجود مراكز أو بنيات للبحث والمتابعة والتقويم تهتم بالقراءة وتقدم اقتراحات الباحث الأستاذ محمد الداهي يقول أنه "لا تنشر الأبحاث الميدانية واستطلاعات الرأي على نحو منتظم لتشخيص وضع القراءة بالمغرب، وتعرف ميول القراء واهتماماتهم والمصاعب التي تعترض سبيلهم، وتعيق ولوجهم إلى الثقافة. وهذا راجع إلى عدم وجود مراكز أو بنيات للبحث والمتابعة والتقويم تهتم بالقراءة وتقدم اقتراحات للرفع من نسبها وجودتها وتحسين مردودها وأدائها (على نحو مركز علم اجتماع الوقائع الأدبية عام 1960، الذي أسسه روبير إسكاربيت وتحول في عام 1978 إلى معهد علوم الإعلام والتواصل)". ويضيف أنه يصعب حصر موضوع القراءة لكونه يمتد عبر مجالات عديدة نذكر منها التأليف والنشر والتوزيع والاستهلاك. كما تتحكم فيه اعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية وقانونية وإعلامية. وهذا ما يتطلب، إبان إعداد أي خطة للنهوض بالقراءة، إشراك الجهات المختصة والمتدخلة من مؤسسات الدولة وفي مقدمتها وزارة الثقافة، والمؤسسات الجامعية والتعليمية، ودور النشر، ومكونات المجتمع المدني ذات صلة وثيقة بالشأن الثقافي، ومراكز ومجموعات البحث المعنية بالقراءة. وبالتالي لا يتوفر أغلب قيّمي الخزانات والمكتبات على مؤهلات علمية تؤهلهم إلى بيان عدد المنخرطين، وتحليل بطاقات المنخرطين وتوصيل الكتب المقتناة والمستعارة ، وضبط البيبوغرافية الوطنية، وبلورة برامج فعالة للتنشيط الثقافي والنهوض بالقراءة العمومية، ورصد الأعطاب التي تحول دون إقامة صناعة ثقافية، والرفع من نسب القراءة، وترويج المتنج الوطني على نطاق واسع، وتحسين الخدمات في عين المكان وعن بعد. أزغاي: القراءة اختيار شخصي يعكس حساسية القارئ ويستجيب لذائقته وفي السياق نفسه، يعتبر الشاعر عزيز أزغاي أنه تنبغي الإشارة إلى أن فعل القراءة هو، في المقام الأول، نشاط مرتبط بالمتعة. إنه اختيار شخصي يعكس حساسية القارئ ويستجيب لذائقته. وهو إلى ذلك شأن فردي تتداخل فيه الميولات مع الحاجيات والقناعات، قبل أي شيء آخر. ومن ثم يحوز قيمته كفعل تقع مسؤوليته ونتائج ممارسته على القارئ، أيا كان وضعه الاعتباري، في عزلته وفي خصوصيته. ويقول :"أن أقرأ لكاتب دون آخر، مسألة تبقى مرتبطة بمدى حاجتي لنوعية معينة من الكتابة دون غيرها بالدرجة الأولى، وهو أمر يظل مشروطا كذلك براهنية القراء لدى الذات القارئة: النفسية والوجدانية والعملية. وعلى العموم، لا يكون لهذا الاختيار، أو بالأحرى يفترض ألا تكون له أية خلفية آثمة أو انتقائية بسيطة ومجانية. بل ينبغي أن يبقى الأمر مترفعا على هذه الصغائر، على اعتبار أن الخوض في مثل هذه المبيقات، لا يفسد للقراءة ودا فحسب، وإنما أيضا يهين الكتابة كممارسة إنسانية سامية ونبيلة، وهذا ما نميل إلى استبعاده في هذا المقام. وفي اعتقادي، ربما كان لمسألة غياب تقاليد اقتناء الكتّاب المغاربة لكتب مواطنيهم وأصدقائهم دور ليس فقط في إهمال قراءة بعض الكتّاب مقابل كتّاب آخرين، ولكن أيضا في بروز بعض الأنانيات المرضية، التي قد تتولد عليها مواقف عدائية، اتجاه هذا الكاتب أو ذاك، من لدن من أخمن بأنهم يعتبرون أنفسهم " سلطة معرفية عليا ومقررة " يحتاجها كل من يصدر كتابا وينتظر سماع أو قراءة رأي زملائه. ولعل هذا الأمر هو ما شجع على ظهور فصيلة جديدة من الكُتّاب - القراء ممن يمكننا ننعتهم ب " قراء الأعمال المهداة " دون غيرها. وعلى صعيد آخر، إن خضوع القارئ المغربي، والكتّاب بشكل خاص، لقصف المنشورات الشرقية لقرون مضت، خاصة في البرامج والمناهج التعليمية والجامعية، قد يكون سببا مباشرا وتاريخيا في تكريس مقولة " مطرب الحي لا يطرب "، وهي " قناعة " مازالت تعشش إن في عقلية القارئ العادي، كما في عقلية بعض الكتاب والمبدعين المغاربة على السواء". ويخلص أزغاي إلى أننا لا ينبغي، في المقابل، أن نؤول هذا الخلل القرائي فقط بناء على المعطيين سالفي الذكر ونلقي باللائمة عليهما. ربما كان في بعض ما يقدم للقارئ العادي، والمختص على السواء، من إنتاج أدبي تحديدا ما لا يرقى إلى آفاق انتظاره، ولا يشفي ذائقته الأدبية والجمالية والتخييلية. ومن ثم، ينبغي طرح السؤال حول طبيعة ونوعية ما ينشر بالدرجة الأولى. فالأكيد أن وثيرة النشر التي أصبحت يسيرة ومتاحة لأي كان، مع ما أفرزه هذا المستجد من تخلي عدد من دور النشر عن بنية لجان القراءة التي كانت تستعين بها حتى وقت قريب، واستفحال تلك الروح الجشعة لدى عدد غير يسير من الناشرين...، كلها عوامل، إلى جانب أخرى مرتبطة بالمدرسة ودورها الأساس في تربية الذوق، قد تكون سببا بنيويا في تفشي ظاهرة العزوف عن القراءة، إن من جانب الكتاب أو القراء العاديين. وتلك مسألة تلزمها وقفة تأملية حقيقية، لتجاوز تبعات هذا الخلل المعيب. الغرباوي: مغني الحيّ لا يُطرب... ومن جهته، يركّز الكاتب والقاصّ عبد الحميد الغرباوي على ظاهرة ما فتئت تستفحل في حقلنا الثقافي، وهي نفور الكُتّاب من قراءة بعضهم البعض. ففي نظره " أننا لا نقرأ لبعضنا البعض، لأننا نعرف بعضنا البعض بما فيه من كفاية تلامس حد الملل أو القرف... لأننا نعتقد جازمين أننا لن نكتشف جديدا، و أن كل ما سنقرؤه عند الآخر هو مضيعة للوقت... لقناعة مهزوزة ، أو مقلوبة أو مشروخة، أو مجذومة، تشبه وجها نخره الجذام أن الذي أهدانا كتابه لا نتفق معه و بالتالي ما الجدوى من كتابه، ما دمنا لن نشغل النفس بقراءة " زابوره"؟.. لأن ما يودع بين دفتي كتاب، سبق لنا قراءته متفرقا في صحف ومجلات، و مواقع إلكترونية، و بذلك يصبح الكتاب، في نهاية الأمر، يشبه ملفا يضم بين دفتيه فواتير ماء و كهرباء و كراء قديمة، لا نلجأ إليها إلا لإثبات التزامنا بالأداء أو لمراجعة حساباتنا القديمة... لأنّ مغني الحي لا يُطرب... لأننا نعتقد أن طريقة التفكير لدينا واحدة، و بالتالي فنحن بحاجة لأن نعرف طريقة تفكير الآخر الذي ينتمي إلى عالم غير الذي ننتمي إليه... لأن «شيئا» ما، كائنا لامرئيا يسد منافذ القلب، يصم الأذنين كي لا نسمع نبض «القريب» الكتابي، يعمي البصر و البصيرة، يوسوس لنا كالشيطان، و يصدنا صدا عن القراءة ..هكذا..» لله في سبيل الله «.. لأن بداخلنا لا يزال ذاك الطفل الذي فتح عينيه عن الخصومات بين الجيران في الأزقة الضيقة المعتمة، يمرح و يقفز في البرك الآسنة و يطارد الفئران، و يجر ذيل قط أعور مستلذا بموائه المستغيث و هو ينظر إلى طفل الجارة التي لها خلاف مع والدته بعين سوداء متمنيا له أن تصدمه دراجة أو يسقط في حفرة، أو يسقط في الامتحان... المسألة لا علاقة لها بالجودة البتة... المسألة ظاهرة رغم محاولتنا تفسيرها، فهي في نهاية الأمر صعب فهمها أو تفسيرها... قد نلامس بعضا من أسبابها، و شخصيا قد أكون قد أخفقت في ملامسة بعض منها، في هذه الورقة، لكن المسألة، مع كل ذلك، تبدو لي جدارا سميكا ليس من السهل اختراقه.. و ماذا عن النقاد؟ ...هل يقرؤون كتبنا؟...» بندحمان: الكتاب بدون وصاية الكاتب منصف بندحمان يعتبر أنّ «الكتاب عصارة فكر وتجربة ومخاض عسير يفوق أحيانا وبكثير مخاض الولادة . يعيش فينا دهرا ويكبر معنا يقتات من روحنا ووعينا وحياتنا كما يغذينا ويشحننا، يوجهنا ويهدينا في مسارب الحياة المتضاربة. ها هو وقد اكتمل بناؤه، رفع صوته عاليا، تمكن من الحياة يخرج صارخا أو باكيا، متوعدا أو مهددا في حلة أنيقة أو باهتة، تم تبدأ دورة الحياة. كثيرا ما تعوزه القابلية والتواصل، يخذله القارئ الهارب في تفاصيل اليومي ومكره. نطرحه في المكتبات، ننتظر من يتكرم عليه ويقتنيه، قد نهديه بلا هدي منا إلى صديق أو حبيب، إلى طالب أو صاحب أو شخص غريب صادفناه في لقاء ما بمناسبة أو بدون مناسبة. نريد أن نسمع صوتنا، نبحث عن من يشاركنا فرحنا، قلقنا، أوجاعنا وهواجسنا، أفكارنا وطموحاتنا في بناء عالم نظنه الأفضل. تم يغيب عنا متكوما في مكان مهجور تتقطع أطرافه من الهجر والنكران كعاشقة قد هجرها الحبيب والليل اشتد وزره» . من ثمّ يعتبر أنّ الكتاب يحتاج إلى عاشق صادق يضع اليد في اليد يقبله في الجبين تم يسيران معا إلى البيت والجسدان يتعطشان إلى وصال قريب. الكتاب لحظة لقاء حقيقي يتم فيه الإعجاب والتماهي، الرغبة والاتحاد .صاحبه متفرج بامتياز وقد مزق الحبل السري الرابط كما يحصل في الإنجاب. نرعاه، نعتني به ولا نتدخل في شؤونه إلا برضاه وموافقته. من حقه أن يشاغب ويشاكس، أن يحب ويعشق، ليسافر في الدنيا كما يشاء، ونحن نتابع دأبه . نعتز بطفلنا وقد أصبح راشدا يأخذ حظه من الحياة». اللوزي: الكتاب تربية وسلوك الأستاذ الجامعي والمترجم المغربي محمد اللوزي يحكي حكاية إهداء كتاب بأميركا تعود لخريف سنة 1987، رافقت إحدى الزميلات وهي أستاذة النقد الأدبي بالجامعة الأمريكية بواشنطن إلى حفل توقيع مجموعة قصصية من تأليف أحد زملائها. الحفل تم بمكتبة لناشر الذي نشر المجموعة القصصية. وقد حضر للحفل كل الزملاء والزملاء الأساتذة والكتاب والأدباء المهتمين بالقصة القصيرة. ومعلوم أن في أميركا من العيب أن تكون ناشرا دون ان تمتلك مكتبة. هذا أمر معيب في أميركا. حضرنا حفل التوقيع بدأ الحضور يقتنون ويوقعون المجموعة القصصية. فسألت زميلتي التي كانت تحمل في يدها نسخة من الكتاب: هل أهداك الكاتب مجموعته فاستغربت الأمر وقالت هذا أمر غير موجود وغير مقبول. وقالت إنها سعيدة بكونها اقتنت الكتاب موقعا من طرف كاتها وهو زميل لها. وأخبرتني أن الناشر في الولاياتالمتحدة لا يُمنح للكاتب إلا نسخة واحدة فقط. فكيف يمكن للكاتب آن يهدي كتابا لا يملك نسخا كثيرة عنه. فالمكتبة هي من تبيع الكتاب والكاتب يوقع فقط. وسعادة القارئ في اقتناء وامتلاك كتاب ممهور بتوقيع مؤلفه. ويضيف الأستاذ محمد اللوزي أن القراء يقتنون الكتب بكثرة وتهافت لأن في الولاياتالمتحدة تقدر كثيرا الشخص الذي يملك مكتبة في بيته. فالمكتبة ثروة، خصوصا إذا كانت الكتب موقعة بخط كتابها. وعن عادة إهداء الكتب في إيران، يقول الأستاذ اللوزي أن التقليد الموجود في أميركا هو نفسه في إيران، أي اقتناء الكتب من أجل تكوين مكتبة. فالشخص الذي يرد كتابا مجانا من كاتبه، كما هو عندنا في المغرب، يثير سخرية الناس، ونفس الشيء بالنسبة للكاتب الذي يهدي كتبه مجانا، ويوزعها يمينا وشمالا، فهو كاتب غير جدير بالحترام. لذلك فإيران تحتل المرتبة الخامسة في النشر العالمي. وتساهم وزارة الثقافة الإيرانية على نشر «كاتالوغ» شهري يضم أوصافا بيليوغرافية على كل المنشورات الصادرة في إيران قصد إطلاع القراء على مستجدات النشر، ويوزع مجانا، ورقيا وعلى موقع وزارة الثقافة. وينهي الأستاذ اللوزي بحزنه على الكاتب الذي يوزع كتبه مجانا. ويؤكد الأستاذ اللوزي انه من بين أشكال دعم الدولة للقارئ الجامعي وللأساتذة تقديمها لقسيمة شراء تمنح من طرف وزارة التربية والتعليم قصد تشجيع القراءة على اقتناء الكتب. ويذكر اللوزي أنه في ربيع 2001 صادف دورة من دورات المعرض للكتاب بطهران فأُخبر أن اليوم الأول من المعرض خاص بالأساتذة والطلبة.