لم يكن من السهل على فعاليات الدورة 15 للمهرجان الفيلم الوطني الأخيرة أن تكشف عن التجربة السينمائية التي يترقبها كافة السينمائيين، إذا علمنا أن جمهور المهرجان الوطني هي نوعية صعبة من المتتبعين، سواء تعلق الأمر بالنقاد أو الإعلاميين أو المهنيين أو رواد الأندية السينمائية.. غير أن المفاجأة الجميلة هي في انتظار أن تباغت الجميع في توقيتها وموضوعها و أسلوب المعالجة.. هذا بالضبط ما وقع لعشاق الفن السابع حينما عرت، دورة المهرحان على أحد ذررها بعد متابعة مشوقة لتفاصيل الفيلم المغربي الجديد "وداعا كارمن". فيلم "وداعا كارمن" من إخراج محمد أمين بنعمراوي، ومن إنتاج مشترك مغربي بلجيكي إماراتي، حصل على جائزة "تنويه خاص" من مهرجان الفيلم الدولي بدبي سنة 2013، وعرف قبولا نقديا وإعلاميا في عدد من التظاهرات. يحكي فيلم "وداعا كارمن" تجربة حياة شخصيات اجتماعية ناطقة باللجة الريفية من منطقة الشمال المغربي المهمش، يتداخل في الحكاية رصد المسار الذاتي للشخصيات بلحظة فارقة من تاريخ المغرب الحديث، حيث لا زال المغرب يعرف منطق الاستبداد وتعثر فترة الإنتقال الديمقراطي، وحيث عسر وصعوبة المواجهة مع المحيط الدولي وترتيبات استكمال الوحدة الترابية، دون إغفال العلاقة مع الجار القريب البعيد.. الجار الإسباني. صفق الجمهور المغربي طويلا بعد انتهاء عرض الفيلم ذاك المساء، ورغم كل التحفظات الممكنة، فقد جاء الفيلم مليئا بلحظات مشرقة، مستحضرا لجزء من ذاكرة الزمن المغربي الجميل. ها هو الطفل بالفيلم «سعيد المرسي» المعروف بخجله وضعفه أمام زملائه بالحي وبصراعه الدائم مع أصدقاء الحي، يعرف انعطافة كبرى في حياته بعد أن تقرر العائلة هجرة أمه المطلقة إلى بلجيكا حيث إقامة الزوج الجديد، يعرف انعطافة ضمن رؤية جديدة لصراع الجيل ذاته مع زملائه، ومع جيل الخال وأفراد الأسرة. هكذا، ظلت المعاناة سيدة المشاهد في علاقة الطفل بالمحيط.. كما تم تفصيل الوضع الجديد للطفل الذي أضحى يعاني من وحدة بالبيت وعنف الشارع أمام لامبالاة الخال المتكفل بتربية الطفل.. تتطور سيرورة البناء الحكائي ويتقاطع مسار حياة الشخصيات، ويتكاثف الحدث الفيلمي مع اقتراب شخصية كارمن من الطفل.. كارمن (الممثلة الإسبانية الشهيرة المحترفة والمتألقة في بلدها باولينا كالفير) بائعة تذاكر دخول "سينما الريف" بالحي بمعية أخيها الإسباني (الممثل خوان إستيلريتش)، الهاربان من جحيم واستبداد اسبانيا قبل وخلال مرحلة فرانكو، تقرر تعريف الطفل على قاعة السينما التي تعمل بها وتسمح له بمتابعة مشاهدة أفلام هندية وصينية كثيرة تعرض بالقاعة، مقابل تسهيل الطفل لها مأمورية بعث رسائل حب بينها وبين عشيقها مصلح الدراجات العادية بنفس الحي. بعد رفض كارمن لحب الخال، وحينما يكتشف الخال بتفاصيل اللعبة يزداد البناء الدرامي توثرا وتتقوى حبكة العمل، حيث يصبح العنف لغة التواصل الوحيدة مع جميع أفراد الأسرة والمحيط، الذي ينتهي بسجن البطل بسنتين ونصف. وسط هذا الركام من الأحداث المتصلة، يبرز المكون السياسي كأحد التوظيفات الموفقة الجميلة في بناء سيرورة تطور أحداث القصة.. خطابات الحسن الثاني من خلال معركة الوحدة الترابية وفي علاقة متصلة بنزاعات المغرب مع إسبانيا خلال مرحلة السبعينيات وحدث المسيرة الخضراء، يعضد منطق حضور الأحداث قوة بناء شخصيات الفيلم، متماسكة بعضها البعض، معنية بشكل مباشر بين ما يحدث على المستوى الشخصي وعلى المستوى التطورات السياسية. يبدو أن مخرج فيلم "وداعا كارمن" محمد أمين بنعمراوي توفق بشكل كبير في تقديم عمل فني يسلط الأضواء على حميمية أحداث من صلب الواقع المغربي خلال زمن السبعينيات، على مستوى الفضاءات كما على مستوى طبيعة تركيبة الشخصيات، خاصة وأن المنطقة الشمالية وبالأخص منطقة الريف المغربي تعرف خصوصيات ثقافية واجتماعية محددة، كما توفق الفيلم في تقديم موضوعة تزاوج بين فترة عرفت مراودة كثير من الغاربة لقاعات الفن السابع وولع البعض بنماذج وأجناس سينمائية محددة، تجعل عشق السينما، باديا حتى البكاء، لدى هذا الجيل لا يموت أبدا. على مستوى الشكل، لا يشك أحد في بروز إدارة قوية للممثلين عند المخرج بالفيلم، بالموازاة مع قدرة كبيرة لشخصيات العمل، بدء بالخال (الممثل المغربي المتألق أمان الله بن الجيلالي) والطفل (سعيد المرسي) والممثلة شخصية كارمن (باولينا كالفيز) والممثلة دنيا الحميدي والممثل فاروق ازنباط والممثل عبد الله أنس، وغيرها من الشخصيات القوية البصمة والإقناع والحضور.. كما لا يمكن تناسي مكون الملابس والموسيقى الذي حضر بشكل منسجم وتطورات أحداث القصة.