النضال الحضاري الذي ربانا عليه مربي الأجيال الدكتور محمد كسوس كعالم اجتماع وكقائد اتحادي، هو فعل التعاون بين المناضلين فما بينهم ، وبينهم وبين جماعات الأفراد من كل الأجيال المتعاقبة وذلك لأن المجتمع هو الذي أنتج الحضارة وهو الذي يحافظ عليها، وهو الذي سلمها ويسلمها أمانة إلى الأجيال اللاحقة . ونحن تسلمنا عمق هذا الجزء الحضاري في نضالنا من مجموع القيم الإنسانية العليا التي كان يمتلكها . وكنا ، من تواضعه ، ندرك أن مجتمع حزبنا هو حقيقة أخصب وأسمى من حقيقة كل ما يملكه المناضل ، أي مناضل ، في صفوف الحزب مفردا . ولكن د . كسوس ظل بيننا وفينا . تلك الحقيقة التي تصدر عنها القيم ، متجلية في شتى مساهماته الجماعية ومجهوداته الخاصة. فحول فينا حقيقة النضال الممارس إلى نضال نستبطنه ونتشربه ونبلوره في ممارسة كالتي يستحقها المجتمع وخيرة أفراد المجتمع، مبتعدين عن كل سيطرة أو هيمنة ، مبتعدين عن الارتجال والعفوية ، متشبثين بالمناقشة والاستدلال، وهو ما ميز لقاءات المناضلات والمناضلين سابقا حيث كانت الثقافة المتبادلة تجعل من المناضل ذلك المثقف الحزبي الذي يسعى إلى بلوغ مستوى المثقف العضوي، الملتصق بالثقافة المعيشة لا بتلك الثقافة المطلة من البرج العاجي كثقافة مثالية ، المدافع عن قضايا التطور وتقدم المجتمع وتنميته، المدافع عن الحرية والديمقراطية والاشتراكية، وكلها في ظل التمسك بالوحدة والوحدة الوطنية / الوحدة الترابية التي لا يكفي للمواطن المغربي أن يؤمن بقضيته هاته الإيمان الفطري والفعلي والقوي ، بل أن يساير الأحداث المرتبطة بها ويعرف تطوراتها ولا ينظر إليه كمنعزل عنها ، سواء كمواطن فرد أو كمجتمع مدني . كان مثقفا صادقا، يفهم بعمق أن لا يتطفل على أنواع أخرى من المثقفين ووظائفهم وهوياتهم . فبقي يتحمل كثيرا من التضحيات في سبيل قضية الثقافة والتعليم والجامعة . وكلنا يتذكر ما عاناه وعاناه الحزب معه، من ذلك العرض الذي ألقاه أمام الطلبة المشاركين في الملتقى الوطني الرابع للطلبة الاتحاديين في نونبر 1989 ومع ذلك بقي أيضا ذلك المثقف الفاعل في مجتمعه الحاضر في انتمائه السياسي ، المؤثر إيجابيا في الجامعة بين طلبته وأصدقائه . مما جعله يحظى بالاحترام ويرتقي إلى ذلك المثقف المطلوب الذي لا يخاف في الله لومة لائم من أجل أن يحقق الرغبات الجماعية المهيئة لواقع أفضل لمجتمعه، بعيدا عن أية علاقة مع ما قد يربطه بمنفعة ذاتية . ظل يرفض أدلجة النسق الثقافي كما يرفض أدلجة الدين والمعتقدات الإيمانية . وهذا ما يستشفه كل من استمع إليه من طلبة ومثقفين أو مناضلين أو عمال، إذ كانت له قدرة خاصة مميزة تجعله يستطيع تبسيط نظريات علم الاجتماع بأسلوب غير مسبوق ، يخرج منه المتلقي وقد تشرب روح الإقدام والشجاعة والمبادرة ، ولو في الحد الأدنى من اكتساب آليات التكيف مبدئيا لبلوغ التغيير التدريجي واكتساب الحقوق بالحجة والإقناع ، لا عن طريق التلملق والنفاق. واستطاع - في تقديري - وبفكره الواسع أن يحول النسق إلى نسق اجتماعي يعبر فيه بشكل عملي وصريح وواضح عن متطلبات مجتمعه الذي يرفض ، ولو في صمته ، مظاهر اللاعدالة في توزيع مقدرات البلد ، ويرفض الزيف والتلاعب باسم التضامن، ويرفض تكميم الأفواه في زمن شعارات حرية التعبير عن الرأي، ويرفض تعليما يروض بدل أن يربي، ويرفض محاولات غزو العقول والقلوب وتدبير شؤون الناس باسم الدين. وجراء هذه المواقف والتمكن من تحليل الواقع، لم تجد بدا أن تخرس في حقه تلك الأصوات التي كانت تدعو إلى الفصل بين الثقافي والسياسي وترى أنه نموذج يصعب الاقتداء به لأنه فعلا سياسي ومثقف ومربي الأجيال . ولو اعتبر من طرف أصحاب القوة والنفوذ وشرذمة المذعنين لها ممن نشأوا على التدجين والخوف والخضوع ، اعتبر مذنبا وسرعان ما تبدد الوقائع والأحداث وشواهد الامتحان التي تختبر السلوكات ، تلك الادعاءات . فظل وسيظل رغم غيابه نجما ساطعا لأنه مثقف عالم يخلص لعلمه ، وسياسي مقتدر يخلص لمبادئه، واجتماعي تتوافق إرادته مع إرادة المجتمع الذي خاض من أجله أشد أشكال الصراع . فكان يتضح للعيان أن كلا منهما يستجيب للآخر ويتفاعل معه ،ويفطنان معا لكل أساليب المكر التي ووجه بها في عدة أحيان ، وخارت قوى القمع أمام صلابة مواقفه وعميق علمه ومستوى تجذره في مجتمعه.