تعتبرالكتابة النسائية السجنية بالمغرب، ظاهرة ثقافية خليقة بالوصف والتحليل،فهذا النوع من الكتابة،ليس وقفا على الرجل،فالمرأة أثبتت هي الأخرى أنها قادرة على فضح المسكوت عنه،عازمة على نسف المحظور في المجتمع والانعتاق من أشكال الحجر والوصاية التي يفرضها فرضا المجتمع والقيم الرجولية. بدأت هاته المغامرة في الكتابة السجنية منذ نهاية التسعينيات،ومعها تكشفت للوطن والعالم والإنسان عموما، محاذير وتجاوزات وانتهاكات يمجها الضمير والدين وسائرالهيئات الحقوقية. معتقلات يكتبْن سيرهن حول ما عانينه بشدة بين أربعة جدران سجن خال من أبسط مظاهر الانسانية بجرأة نادرة وتطاول غير مسبوق، منهن المناضلة فاطنة البيه التي لم يكن هاجس الكتابة لديها هوالاحتفاء بالكلمة لمجرد الكلمة ولكن التعبير بصدق عما يعتمل داخلها وما يمور بالذات من حرقة وتذمر وتأس. في هذا الصدد، أجرينا حوارا مع هذه الكاتبة/المناضلة فاطنة البيه ،لنقف على مغامرتها السجنية الأدبية والانسانية،والتي لاتخلو من جسارة ووعي وعمق. { هل هناك سيرة سجنية نسائية؟ إن الكتابة عند المرأة عموما وعي ممتلك ووعي الذات وبالوجود بعالم المرأة ،وهي تكتب لا تنتصر فحسب،بل تحيا حياة مضاعفة،حرية وانعتاقا من ثقافة ذكورية سادت لقرون طويلة،وإن تسامحت معها،فهي جسد محاصر بالصمت.إن الكتابة من داخل السجن، تختلف بين الرجل والمرأة، وهي وعي بأن المرأة والرجل إنسان مع اختلافات بيولوجية،لا تبعد عن أي منهما المهارات العقلية والذكاءات والقدرات على الخلق والابداع والابتكار. عند مقارنة كتاباتي مع الكتابات الصادرة -لحد الساعة- بالنسبة للمعتقلين السياسيين الذكور، هناك تفاوت وتباين: في المعاناة وفي شكل الكتابة والبوح. و من زاوية البوح، ثمة اختلاف كبير،حيث هناك سهولة البوح بالنسبة للرجل، عموما. لكن بما أن المعاناة لها خصوصية، حتى بالنسبة للرجال،إذ مسألة البوح، ليست »أوطوماتيكية« ولا بديهية وعسيرة، فالكتابة في سيرة أدب السجون لها عملية البوح، ولكن بالنسبة لخصوصية كتابتها يعتبر »البوح« بالنسبة للمرأة شكلا مختلفاً وكبيراً وصعبا. بالنسبة للمسألة الثانية، فالكتابة -بالنسبة لي-كانت شهادة ووسيلة للإثبات، فهناك اعتقال سياسي للمرأة أولاً، وثانياً كانت من باب الشهادة وهي في حد ذاتها »بوح«، حيث كان بما يسمى بتملك المعلومة في ما هو عام بعالم المرأة، لأن هناك اعتقال المرأة وتعذيبها ومحو هويتها، يعني عناصر »البوح« هي ما دار في »العتمة«. الهاجس الأساسي هو الشهادة وهو الحديث عن المرأة، يبقى أسلوب المعالجة وجنس المعالجة كأسلوب أدبي يطبع بالشهادة ولا توجد به عناصر القصة، إذ أن الاختيار يبقى للكاتب. وبالنسبة لي أولا، هناك اعتقال سياسي للمؤنث ومعاناة للمؤنث وهناك شجاعة النساء بالتجربة. وبفضل هذه العناصر الثلاثة المذكورة، استطعت أن أكتب وبفضل كتابة يدي الأدبية، كان التعبير موسعاً لدرجة الوضوح. { ما الدافع إلى هذه الكتابة؟ أولا، كتبت الشهادة داخل السجن. الدافع الأول هو تسجيل الاعتقال السياسي للمؤنث، واعتقال المرأة بصفة عامة تسجيل كيف تعالج المرأة قضية الاعتقال، وكيف تواجهها، حيث كان تتبع بعض الحالات داخل السجن مثل المرأة والولادة داخل المرأة والسجن المؤبد. المرأة والمخدرات يعني الأشكال التي تؤدي بالمرأة الى الاعتقال، لكن بشكل خاص، كان هناك تسجيل رفع التحدي بالنسبة للنساء في الاعتقال السياسي، لأنه كان شيئاً رائعاً ومتميزاً. وللتأكد من أن المرأة تختلف عن الرجل أمام كل ا عتقال، تختلف عن الرجل في المحن، وهذا تأكد لي فيما بعد، من خلال ما كتبته عن أنسنة السجون وكيفية ما تعانيه النساء وما يعانيه الرجال، ويكفي أن تواجه المرأة الاعتقال بقوة وشجاعة،وهذا يستحق الاهتمام والكتابة. { بماذا تتميز السيرة النسائية عن السيرة الذكورة؟ تتميز بطابعها الإنساني والأنثوي الرقيق، نستحضر قضية التبليغ دون تأليم الآخر. لهذا أقول، مسألة العموم لن يكون لها تأثير وأقول أن للرجال سهولة البوح، وبالتالي يعطون كل شيء لمكامن الألم، ثم هناك التركيز على الذات بالنسبة للرجل معاناة الذات الفردية، في حين بالنسبة للمرأة ليس هناك تركيز على الذات، بقدر ما هو موجود عن الجماعة على معاناة النساء على اشتراك الألم على كيفية مواجهة الألم ،وهي مسألة تستحضرها المرأة كالتربية وقوة حضور العائلة، أشياء تواجه معها الاعتقال للتواصل مع العالم الخارجي الذي يؤثث رؤيتها لتبقى روحها حالمة وأنثى هائمة حتى تواجه الألم ثم شكل التضامن النسائي. { ما هي خصائص الكتابة السجنية عندك؟ هل البوح فقط، أم الشهادة والكتابة؟ أولا هي شهادة، ثانياً هي كتابة أدبية، ثالثاً هي وسيلة للتأريخ لمرحلة معينة التي كانت بها مكانة للمرأة في مواجهتها لقضايا عامة لم تكن لها سابقة ولم يكن بها أي انخراط للنساء، ثم مسائل أخرى ذات خصوصيات كمثل تفاصيل الحياة اليومية، لأن تلك الفترة توجد بها تفاصيل يومية وأشكال المواجهة اليومية للمرأة وهو بمثابة تسجيل للتفاصيل الموجهة للمرأة »يوم في حياة معتقلة«، نلاحظ كيف يمكن للإنسان أن يخلق أشكال الفضاء» المحروم منه كفضاء الحرية، وهنا يكمن الاختلاف بين الرجل والمرأة، لأن كيفية التعامل مع المرأة هي خلق الحياة المختصرة المحدودة بشكل مختلف عن الرجل. أيضاً هناك أشياء أخرى لا نطلب المستحيل، إذ هي كتابة خرساء لا تبلغ ومحجوزة تحجز تفاصيل المعلومة، لأن الأنثى تراعي بفضل مكانتها داخل المجتمع، ولا يمكن لها البوح بكل شيء حتى تترك الأمور تسير بشكل عادي داخل المجتمع. إذن المرأة وهي تكتب تحجز ما ينبغي حجزه، على اعتبار أن هناك ثقافة عامة للصمت. ومعروف أن المرأة مناضلة ومقاومة لجل تيارات الحياة وكل هذه المفارقات كانت الشيء الذي ساعدني لأتمكن من الكتابة وتجسيد الوقائع التي مررت منها في الاعتقال. وما أريد تبليغه هو أن المرأة التي يعتبرها المجتمع جنسا لطيفا وضعيفا ولا تشارك ضمن المسائل الكبرى، أنا أقول العكس، بحيث كان هذا هاجسي الأول وإرادتي في التبليغ للناس وكل ما كنت أتصوره عن المحن التي تؤدي بالمرء الى الاحتكاك بالواقع الملموس. وباختصار، أقول الشهادة كانت شجاعة للمرأة وقدرتها على المواجهة والمطلوب. في تلك المرحلة من الاعتقال، يواجه الإنسان حياة بدون حياة، لأن بالسجن ليست هناك حياة أو يمكن القول، كانت حياة مختصرة في الزمان والمكان، فضاءات محددة نرى دائماً نفس الوجوه، مما يؤدي بنا إلى دروس الحياة المهمة، وهي امتحان صعب ودقيق للغاية وكتابته صعبة ولغته مفقودة، لأنه من خلال المسلسل، هناك مراحل التعذيب وإن كان فهذا المسلسل كله تعذيب ولا يوجد شيء أصعب من فقدان الحرية. ويبقى الاختصار هو الحل الوحيد للخروج من القوقعة، ذلك عبر المحبة والأصدقاء واللحظات الفريدة التي يجري استخراجها بصمت، وكان البقاء دائماً للأقوى والأصلح. { ما هو دور الذاكرة في السجن والكتابة؟ السجين يعيش في الخيال ولا يعيش الواقع، لأن الفضاء محدود، ويعتبر الخيال عنصرا أساسيا للنجاح في الامتحان. الخيال ينتج الحب والعيش والتعايش. الخيال المنتج الأول للكتابة،والسجن يؤهل للخيال الذي من بعده تكون الكتابة، لأن الانسان مهما يكتب الأحداث التي مرت إلا وهو يعيش الخيال بصورة مجسدة في ذاكرته. إذن قدرة الخيال لمنح الإنسان تجاوز التجربة بصنع أشياء مفرحة بعلاقة مع الذاكرة التي يعيش بها الإنسان في السجن. يعيش الإنسان تحت التعذيب بالذاكرة. بمعنى آخر، تمني النفس بالذاكرة والذاكرة هي النقطة الأساسية في محنة السجن وفي علاقة الأدب السجني بالكتابة، أدب السجون يصنعه أولا الخيال، هذا لا يعني أنه لا يستمد مادته من الواقع. والخيال يبقى هو المرتب للصور ليعطي الرواية أو الكتابة. إذن الخيال له دور المحرر والمغذي وصانع الكتابة والمزين، ومن ليس لديه الخيال والذاكرة، يصاب بالجنون داخل السجن. الخيال يرتب الأفكار والتفكير في الأقارب والعلاقات والذكريات الجميلة ويرتب المحبة والحب والأشياء الثمينة والأشياء غير الثمينة، والتي بدون معنى أيضاً. المتخيل السجني هو تشييد في الخصوصية وبناء الخطاب الأدبي، مما سيؤشر على وجود تحولات إيجابية تمس الأشكال والتيمات وعلاقة اللغة بالخيال. الكتابة في المتخيل السجني تتخذ من الذات نقطة ارتكاز لها، ذلك أن وسائل التشخيص للذات والعالم تضفيان على الكتابة طابع البوح والاعتراف. المتخيل السجني وجد طريقة لابتداع فسحات للكتابة، سواء ما تراكم على المستوى الكمي من نصوص أم على المستوى الكيفي المتمثل في تنوع التجربة. الخيال داخل السجن هو صديقه الأساسي والركيزة الأساسية وصانع الأشياء الجميلة والمتنفس الوحيد والوسيلة لصنع الأدب. سأعطي مثالا ب «خديجة مروازي«« كتبت رواية متخيلة عن السجناء داخل السجن وخارجه، انطلاقاً من علاقتها بهم. أعتبر من هذا المنطلق، وضوح الخيال ممكن أن كتابتي في الخيال ضعيفة بعض الشيء، لأنني أعتمد على الشهادة. وعند كتابتي الرواية، سيكون الخيال نافعاً بالنسبة لي. سيعطي لكتابتي كيفية العيش والتعايش بالفترة السجنية وكيفية التعامل مع الوضع عند انتهاء العقوبة والخروج من التعذيب والتوجه إلى الحرية ومساعدة الخيال على نسيان كل ما مررت به ومساعدته لي في إعادة ترتيب أفكاري وإعطائي فرصة أخرى لرؤية الحياة من جانب مختلف. وتبقى الكتابات الأدبية منحصرة في الروايات والقصص التي تتحدث عن الحياة السجنية وتتضمن عادة معاناة السجين وممارسات الجلاد، ورغم طابعها الأدبي وعدم تقيدها بالواقع للسجينة، لكن درجة نجاح الرواية أو القصة تتوقف على مدى معرفة الكاتب بالواقع السجني، سواء من خلال تجربة عاشها أو من خلال جمع أكبر عدد ممكن من الروايات السجنية والأحاديث السجنية. وهناك نوع آخر من الكتابات السجنية تكمن في المذكرات الشخصية التي يحبذ أصحابها في العادة عدم تناول القضية السجنية بصفة عامة، ويركزون على تجربتهم الخاصة، ورغم ندرتها ورغم طابعها الشخصي،إلا أنها قادرة على إثراء الكتابات السجنية، لأنها تخرج من طابعها الشخصي وتصبح عبارة عن شهادات حية. { ما هو الفرق بين كتابك »»حديث العتمة»« وبين الشهادات التي صدرت بالاشتراك مع كاتب آخر؟ أولا، هناك كتاب »»حديث العتمة«« ثم كتاب »أطلسيات« ثم هناك كتاب ثالث بالاشتراك مع شهادات أخرى. الكتاب الأول «حديث العتمة» هو كتاب أعتبره أداة معرفية لإماطة اللثام عن ظاهرة الاعتقال السياسي بالمؤنث ثم مواجهة النساء في الاعتقال السياسي بشجاعة وقوة وقدرة وتميز المعاناة التي عرفتها النساء، وهو الشيء الذي كان باختيار منهن. بمعنى آخر، نحن الجيل الذي اختار أن يكون امرأة مناضلة، بالتالي هناك احتمال الاعتقال السياسي موجود دائماً نصب عيني. الإصدار الثاني بعد كتاب «»حديث العتمة»« هو نوع من الاحتفاء والتكريم لمجموعة من النساء لم يكن صانعات القرار والاختيار في أن تكون لهن هذه الصفة تحت عنوان: »أطلسيات«. الإصدار يضاف إلى نصوص سيرة سجنية مغربية. الكتاب المشترك مع يوسف مداد هو عبارة عن تحقيق حول واقعة التمرد المسلح التي شهدتها بلدة »خنيفرة« في جبال الأطلس مطلع السبعينيات وعرفت في الذاكرة السياسية المغربية ب «»أحداث مولاي بوعزة««. وباعتبار أن المرأة أو الزوجة والأخت والأم، فهن تعرضن للاعتقال السياسي وكان لهن دور متميز في هذه الصفة أبانت عن حنكة ودراية وصبر وقدرة وإبداع في مواجهة الاعتقال السياسي. إذن أرد لهم الاعتبار وأميز بينهم وبين النساء اللائي كان لهن الاختيار في تجسيد دور سياسي.