أحمر الكتاب يناديني. أين ذهب الذي جذبني ؟ هل هو كتاب أم مطر أم ضوء أم سماء؟ هل هو امرأة غجرية هيفاء تسكنني وأسكنها ؟ هل قرأته أم قرأني ؟ له الغموض والفتنة. له مكان في هذا الداخل الذي لا اسم له. له نوارس ذهبت إلى بحار بعيدة جدا. له هذا اللذيذ الذي يعذبني. له دائي العضال. الكتابة بلغة متمنعة منذ قرون. هل هو كتاب أم ذكرى ؟ كان موضوعا على طاولة، في معرض صغير، فأغواني. على الغلاف كائنات مرسومة بالأسود، وأحمر واهن كمريض بالتيه. أكثر من ثلاثين سنة مرت على ذلك الانخطاف.لا أتذكر عنوانه، ولكني أتذكر الندى ونهدين منتصبين وبحيرة ومسائي. هل هو كتاب أم حلم ؟ لوحة أم نسيان؟ حبسة أم هذيان؟ أين أنت يا شقيقي في الخيال والسفر وشتات الذاكرة والحنان؟ هل أجدك في مكتبة أو سوق قديم أو عرس أو جنازة أو موسم ورد أو على شاطئ مهجور؟ أنت صديق الصبا الذي هاجر إلى الشمال. أنت صديق الجموح الكاسر الذي التهم الحياة فمات. أنت الفراشة التي تمنعت على أصابعي وأنفاسي وتشردت. أنت الغياب وما تبقى لي من حطب. في «دار الشباب» دعوتني إلى الغروب والمغامرة والكأس وفاتح ماي وقراءة المجهول وركوب القطارات والفرح بالشمس. قرب «كاريان الشرقاوي» دعوتني إلى مصاحبة القمر والشجر في ليل لذيذ. دعوتني إلى الافتتان بالسواد والأزرق والبرتقالي ووداعة الحمام. دعوتني إلى قوس قزح ونور البرتقال في بلاد جسدي. هل أجدك على سجادة أو على حبل غسيل أو في أنين أوتار أو شلالات دموع القمح؟ هل أنت في مقبرة أو «مازغان» أو مدينة النوارس والرياح. في البدء كان دم التفاح، وكان وجهي غابات تعوي وقبورا بيضاء ومارستانات لا يحتمل أنينها. كنتُ موشوما بالملح والغزالات ونار الدراويش في ليل ذهب إلى مهرجان التراب. كنت صاعدا إلى التيه الباهظ، وجسدي يرتعد من خوف القرون. أبواب مشرعة على الحب والكآبة والنساء والصداقات والسفر والبوح ووجوه خطفتني أسرارها. آتيا من السنابل وحكايات المقاومة وفراديس الشاوية ولحم الكمنجة في أصيافها. للسفر هيأت جنوني وخوفي ومائة عام من الحب والندوب والوشوم ورائحة احتراق الشجر على جسدي المكوي بلوعات المهابيل والمجنونات في قرى دليلها القناديل وولائم البكاء. وجدتك وحيدا مثلي أيها الكتاب. صاعدا من الملاجئ والمخيمات وليالي البرد الطويلة وكنت مثلك خاسرا وهشا وخائفا من الأب والجنود والنشيد الوطني والانقلابات والمعلمين و»الفتوات». كنت بلا دليل في مدينة تبتلع الصغار والهائمين وبائعي النعناع والفلاحين والمفلسين. كنتُ أبحث عن أمي والبحر والطمأنينة، فوجدتك مثلي شاردا في «دار الشباب». كنتَ البدر والمطر والأعشاب والأخوة، شريعتي في مملكة رمتني إلى الارتجاف وحيوانات المجهول. كنتُ طفلا بلا أحباب ولعب. هيأتني حياة الشظف للعراء وملوحة البكاء وقشعريرة النايات الموغلة في قرون العبيد. في البدء كان التيه وعنف المدرسة والأسواق والأزقة والكوخ الضيق، والسماء لم تكن زرقاء. بكرمك أيها الصديق دعوتني إلى ضيافة الزيتون. إلى أغنيات المطر والصفصاف دعوتني أيها الكريم الآتي من أقصى الشرق. شرق النساء العسليات والحرير والرجال الأشاوس. إلى الأناشيد والشعر والبنادق وساحات الهتاف المقاوم دعوتني أيها الحامل لأسرار الثورة والكتابة والأبيض والأسود. إلى القصص والسجائر السوداء والقهوة وسرقة الكتب ومشاهدة الأفلام في النادي، دعوتني أيها القبس في ليل جثم على أنفاسي منذ العقود السحيقة في شريعة السيف المخيف. إلى البحر في الغسق وملح أقصى الجنوب سرتُ وراء النداء. كتب ونساء وهتافات وصباحات وموانئ وقصائد وحانات ونوارس وحزن كثير. ورد في شارع الزرقطوني. شهداء في الرباط. غناء أطلسي في فاس. «غيوان» في الحي. أخوة في قلعة مكونة وأنين قطعة كبد في ليل الصحراء. ضحكات عالية. صباحات خضراء. جنازات حارة. معازل مرضى. تبغ أشقر .ورد مغسول بدموع آلهة. خبز خارج من فرن قديم. زعتر سيدات الشاوية. وشوم على أجساد بضة. إلى متاهة اللغات قدتني. ألوان وحمام وياسمين وروائح جنات. جسد الحدائق. أرض الموسيقى. وجوه الغياب. صداقة الليوث. موتى وسيمون بالرفض وكرم السماء. زرقة المساءات التي عذبتني بالعبور. ما نسيتك يا كتاب الجنون والحب والمغامرات الخاسرة. إليك ملح دمي وخبز إخوتي يا شقيقي في المحن. إليك رياحين روحي يا ذكرى ثلاثين سنة من الشوق إلى المدى الأزرق. ما نسيتك يا معلمي. قل لنوارس الصويرة أنني آت في موسم الرياح. قل لها أن تهيئ سماءنا للأخوة والسهر والحمى وكؤوس المستحيل. قل لها ما يقوله الغروب لمريديه أيها الشقيق.