تتبنى العولمة اليوم حسب قول «برنار بادي» في كتابه القيم « ديبلوماسية حقوق الإنسان « منطلقات تصورية، ميتا سيادية تسمح بالتدخل العسكري والإنساني كواقع مشروع بكل ما قد يؤدي إليه من انتهاكات وخروقات، وكمثال على ذلك ما يجري في الساحة العراقية والأراضي الفلسطينية، إذ لم يعد حق التدخل سلبيا أو مخجلا، بل أصبح ضمن الواجبات . إن منظومة حقوق الإنسان من الوجهة الأخلاقية والحقوقية والسياسية في ظل العولمة أصبحت في مأزق كبير، إذ لم يعد مشكل هذه المنظومة هو مدى مشروعيتها التاريخية والقانونية أو طابعها الدولي الذي تأخذه، بل يتمثل مشكلها في جدواها الفكرية والقانونية والسياسية، وفي طبيعة إعمالها من خلال المواثيق الدولية المقارنة، ومن حيث مدى القدرة على الالتزام بمقتضياتها، أو عدم القدرة على الالتزام بها بالنسبة لكل الدول متقدمة كانت أو متخلفة، فالمتحكمون في النظام العولمي الجديد أصبحت سياستهم الدولية قائمة على معايير اللامبالاة، وعدم احترام الحدود السياسية للدول والانتماءات الوطنية، وأصبح البعد الوطني أقل عمقا وأهمية من الأبعاد الدولية. حتى أنه يمكن القول في ظل هذه الأوضاع المتوترة، أن الوضع الدولي أصبح أخطر مما كان عليه خلال الحرب الباردة، فقد أدى انقسام العالم آنذاك إلى معسكرين غربي وشرقي إلى وجود قراءتين متقابلتين ومتباينتين في الآن ذاته لمنظومة حقوق الإنسان، وهكذا لجأ كل معسكر إلى الدفاع عن رؤيته الفلسفية وأسلوب حكم نظامه السياسي ومصالحه الخاصة، فدول أروبا الشرقية الاشتراكية أمعنت في التمسك بالحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي، ودول الغرب الرأسمالي دافعت عن الحريات الفردية الكلاسيكية والحقوق المدنية والسياسية، ليصل كل من المعسكرين في النهاية إلى تقديم تبريره المرتبط بالتجاوزات التي تنتهك عبرها حقوق الإنسان والسيادات الوطنية للدول الفقيرة والنامية. وقد أشار الحقوقي الفرنسي « ألبرتو إيكي « في كتابه «ثورة حقوق الإنسان « «la révolution des droits de l homme» ، إلى كون اللحظة الراهنة التي نعيشها اليوم، وما تعرفه ظروفها من تعقيدات وتطورات غير متوقعة لتشكل بالفعل تحديا أمام الفكر الحقوقي، مما يتطلب يقظة مستمرة وجهودا متعاونة لمواجهة هذه التحديات التي تقف كحجر عثرة في وجه منظومة حقوق الإنسان، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: - تحديات مفاهيمية ونظرية، مثل ( مفهوم الثقافة - الحضارة - القيم- صراع أم حوار الحضارات .... ). - تحديات سياسية من جراء ضعف السياسات الوطنية للعديد من الدول التي من المفروض أن تعزز منظومتها الحقوقية. - تحديات ذات طابع قانوني، وذلك باللجوء إلى فرض الجزاءات الدولية الأحادية المصدر، كالحصارات والاحتلالات، تحت ذريعة الحماية والقانون الدوليين، مع الهيمنة على إجراء (الفيتو) من طرف الدول الكبرى، والذي هو «حق» يتطلب في الواقع مراجعته بشكل جذري وعادل. وبسبب ذلك، فإن العالم أصبح يتطلع إلى دمقرطة العلاقات الدولية والسعي وراء إقامة علاقات متوازنة ومتكافئة بين الدول الغنية والمصنعة وبين دول الجنوب النامية، قبل تحقيق الديمقراطية داخل البلد الواحد، واستبعاد جميع النزعات الهيمنية والاستعلائية، كما أن العالم اليوم يجد نفسه في حاجة حقيقية إلى نظام عالمي جديد تعزز فيه حقوق الإنسان وتحترم فيه سيادة الدول، وذلك هو المقصود لدى الحركات المناهضة للعولمة في جانبها السلبي، بمقولة: «عولمة ذات وجه إنساني»، ولدى المثقفين والأكاديميين، مثل محمد أركون الذي يرى أن بعض الدول وخاصة الكبرى منها، تجد نفسها متجاذبة بين رغبتها في احترام حقوق الإنسان من جهة، وبين الخوف من افتضاح أمرها عندما تنتهك حقوق الإنسان انتهاكا صارخا. إن حقوق الإنسان كما تمارس اليوم، هي على وشك أن تصبح متجاوزة، وذلك تأسيسا على التحليلات والمؤاخذات المتقدمة، وسنتطرق في ما يأتي إلى بعض الثغرات التي يمكنها أن تحد من ألق وتوهج حقوق الإنسان: 1 - أن خرق حقوق الإنسان من طرف دولة في الجنوب ( الأطراف )، سلوك مستهجن منتقد، يحاسب عليه، وقد يتقرر في حقها عقاب دولي، في حين إذا انتهكت الحقوق من طرف دولة في الشمال ( المركز)، فإنه يوجد فورا لهذا السلوك مبررات كثيرة، باعتباره يدخل في الأمور العادية، أو يأتي في إطار الحفاظ على السلام والأمن الدولي، أو كونه مجرد هفوة أو زلة فقط، مما نتج عنه تعسفات خطيرة، وانتهاج سياسة دولية تعتمد الكيل بمكيالين، وفي هذا الصدد يذهب العديد من مفكري الجنوب إلى أن القوة الاقتصادية والتقدم التكنولوجي الذي يتبجح به الغرب، قد ينقلب عليه يوما كما ينقلب السحر على الساحر، ويتهاوى ادعاء «فوكوياما « القائل بنهاية التاريخ. 2 - أن تاريخ مفهوم حقوق الإنسان، كان عرضة لتحريفات هي أشبه ما تكون بخيانة للأصول، بحيث تم إنزال حقوق الإنسان من برجها المثالي، إلى حضيض المنافع والمصالح الذاتية الضيقة. 3 - تتمثل في الإيهام بأن حقوق الإنسان تترجم روحا جماعية مستمدة من طبيعة الإنسان ككائن اجتماعي، وهي نظرة فلسفية أنوارية فيها جانب هام من الصحة، غير أنها في الواقع تبقى حقوقا فردية ذاتية ممنوحة من الأقوى إلى الأضعف الذي يلتمسها ويناضل من أجل تحقيقها. وبالرغم من هذه العيوب المذكورة (النواقص )، فإننا نثمن الجوهر الكوني والفريد للمنظومة الحقوقية، وفي الوقت نفسه، عدم انسياقنا أو تأثرنا ببعض الباحثين الذين يعتبرون حقوق الإنسان غربية المصدر، وكنموذج على ذلك، كتاب « حقوق الإنسان - دراسة النص وتحديات الواقع « وهو المؤلف السابع من سلسلة الدراسات الحضارية، لمجموعة من الكتاب، وبصريح العبارة فإن حقوق الإنسان هي حصيلة مساهمات حضارية متنوعة، تدعمها في العمق المقتضيات والمضامين الإنسانية التي وردت في الديانات الثلاثة المقدسة، إضافة إلى التعاقب المتواصل للمراحل الإنسانية الحضارية والثقافية التي بوأت هذه الفكرة النبيلة درجة سامية داخل التاريخ، إذ ساهمت وثائق حقوق الإنسان في تعميق الوعي الاجتماعي الذي ساعد المواطنين في بداية القرن العشرين على الاستفادة من الحريات السياسية وبعدها الوصول إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . لقد حلت اليوم كلمة «ثقافة» محل كلمة «إيديولوجيا»، على الأقل في مجال تأطير مثل هذه المفاهيم، فأصبحنا نقول «ثقافة التسامح» و «ثقافة حقوق الإنسان» ، بدل «إيديولوجيا التسامح» و «إيديولوجيا حقوق الإنسان» ، مما جعل الكتاب والمثقفين وجميع « المتكلمين والمتحاورين « اليوم يعرضون عن لفظ « إيديولوجيا « ، ويقبلون إقبالا منقطع النظير، على الأقل على لفظ «ثقافة» ، وليس ثمة شك في أن تراجع الماركسية وسقوط الاتحاد السوفياتي كان له الدور الأكبر في تراجع مفهوم «الإيديولوجيا» الذي ظل طوال تاريخه مصطلحا ماركسيا بالدرجة الأولى، فالحرب الباردة بين المعسكرين كانت «إيديولوجية» أكثر منها سياسية أو عسكرية. ولكنه ليس العامل الوحيد لحصول مثل هذا التحول، بل إن الجنس البشري الآن في تطور يؤهله للانتقال من مرحلة التصنيع خاصة، إلى الموجة الثالثة، أو الجيل الجديد الثالث، جيل المعرفة العلمية والإعلام، بحيث يتم الآن التأسيس تاريخيا لجبهة ثقافية هي المؤهلة في بداية الألفية الثالثة من القرن الواحد والعشرين لتمنح لحقوق الإنسان معناها الجديد، ليس فقط سياسيا واقتصاديا واجتماعيا أو تضامنيا، ولكن وهذا هو المهم حتى أخلاقيا وقيميا، مرد ذلك إلى الارتباط الذي سيكون قويا ووثيقا بين حقوق الإنسان والثقافة كما يقول «هابرماس»، وسوف لا يتحدث أي واحد عن ضرورة التجانس/الدمج والاندماج في نموذج ثقافي يعقوبي أوحد ووحيد، وإنما سينصب الاهتمام على تعايش متوافق بين أنماط ثقافية مختلفة ومتنوعة، مما سيغني ولا ريب القيم الثقافية والحضارية. ونخلص في الختام إلى القول، إن كونية حقوق الإنسان تساهم في إخراج العقل الغربي من دائرة الحس القومي، والذي يؤدي إلى نقله من التعصب الأعمى لسياسة حكومته إلى دائرة الحس الإنساني الواسعة، ومن المثير الذي يدعو إلى الاستغراب، فإن مبادئ حقوق الإنسان في النهاية لا تدعي بأن حقوق الإنسان للمواطن الغربي هي التي يجب فقط أن تحترم، بل على العكس فهي تدافع عن احترام حقوق الإنسان لجميع البشر، ونحن عندما ندافع عن هذه الحقوق، فإننا بالدرجة الأولى ندافع عن أنفسنا وقيمنا التي نحن ما أحوجنا إليها في زمن العولمة المزلزل، العاصف والجديد.