عندما نستحضر اسم المهدي بن بركة في التاريخ السياسي المغربي، نستحضر شخصية نابغة من أبناء هذا الوطن، شخصية متفوقة بفكرها ومصداقيتها، ليس على المستوى الوطني فحسب بل والدولي كذلك. لقد كان من أكبر العارفين بعمق لمجمل القضايا السياسية الوطنية والدولية في زمانه. لقد تموقع فكريا في مجمل هذه القضايا بوعي تاريخي ومعرفي كبير. وشاء القدر أن تكون فطنته الفكرية الراقية، وإرادته الإنسانية، وطموحاته السياسية النضالية الصادقة أكبر بكثير من السقف المسموح به في التفكير والممارسة جنوبا، فاختطف المهدي، وضاع الحلم الجنوبي. ولا زال التاريخ الدولي إلى يومنا هذا يئن من مرض عضال يعرقل وينقص من قيمة كل النظريات الإنسانية المتراكمة حول الكونية بسبب إجهاض المشروع النهضوي لدول العالم الثالث في مهده. إن هذه العملية الإجهاضية التي تعرض لها فكر الخمسينات باغتيال زعماء الجنوب وعلى رأسهم بن بركة، جعل ميكانزمات اشتغال العالم مختلة نتيجة تغيير مجرى التاريخ بلغة العنف والقوة والدسيسة والغدر. لقد اختل شرط الإنسانية في العلاقات الدولية واهتزت أركان وأسس المشروع الإنساني الكوني منذ ذلك الوقت. وعليه، فالنهضة من جديد في الفكر الدولي، وفي العلاقات بين الشمال والجنوب، لن يكتب لها الانطلاقة على أسس إنسانية ثابتة ومرسخة أمميا إلا عبر الكشف عن حقيقة مصير بن بركة، رئيس اللجنة التحضيرية لمؤتمر القارات الثلاث. من خلال الكتابات المختلفة، تأكد بالملموس للأجيال المتعاقبة بعد الستينات أن بن بركة لم يكن يدافع عن نزعات وطموحات شخصية، بل كان يدافع بكل ما لديه من قوة، إلى جانب رواد الحركة الوطنية الحداثيين، لتقوية التضامن بين شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية عبر النضال من أجل الاستقلال الوطني الهادف لتحقيق التحرر والديمقراطية والتقدم الاجتماعي. لقد كان رهانه هو بناء نموذج مشروع تحرري يهدف إلى خلق الآليات لحشد الطاقات الشعبية للدول المستعمرة أو حديثة الاستقلال وتحويلها إلى مقومات ذاتية تصنع المستقبل بدون وصاية مصلحية مكبلة من الدول القوية. طموحه البارز كان هو تحويل هذه الوصاية إلى تفاوض تعاوني أساسه بناء مجتمع إنساني كوني جديد أساسه الحرية والاعتراف بذات وهوية الشعوب المستعمرة. وعليه، فاغتيال بن بركة اغتيال سياسي بامتياز، وهو في نفس الوقت اغتيال في المهد لفكر قوي بدأ يتجدر بوثيرة قوية في روح النسيج المجتمعي لدول العالم الثالث، فكر تقدمي بأفكار مبتكرة وخلاقة، وازته أنشطة ميدانية مكثفة. هذه القوة الفكرية وامتداداتها الميدانية، والتي أبرزت مؤشرات ترسخها في حياة شعوب دول العالم الثالث في زمن قياسي، أربكت حسابات أطماع الدول الكبرى (الاستعمارية) وعلى رأسها فرنسا إلى درجة اختل الحوار والتفاوض الدولي وحل محله منطق الاغتيال. هذه القيمة الفكرية الإبداعية، وتأثيراتها العميقة في نفوس الشعوب المضطهدة، ونفوس حماة حقوق الإنسان، جعلت من قضية اغتيال المهدي قضية دولية معقدة، وحق كشف مصيره حقا ليس مغربيا صرفا، بل حقا لشعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بصفة خاصة، ولشعوب العالم بصفة عامة. ونظرا لتجدر هذه القضية كونيا، أصبحت الأجيال المتعاقبة تحس أنه مهما تطورت الآليات الدولية والإيديولوجيات السياسية والحقوق المكتسبة، يبقى فكر المهدي حيا ومؤثرا وحاضرا في صلب المتغيرات الدولية بما في ذلك مرتكزات وأهداف منظمة القارات الثلاث. إن فكره، بمنطلقاته ومرجعياته ومحتواه، سيبقى حيا ومرجعا في العلاقات الدولية بالرغم من تطور تأثيرات الإيديولوجية الليبرالية وما تطمح إليه من ترسيخ لقيم العولمة كحركة بديلة تتحكم في حركية الغنى ما بين الشمال والجنوب. وأعتقد هنا، أن الأزمات المتكررة التي تعرفها المنظومة الدولية اقتصاديا وسياسيا وثقافيا تحتاج إلى تجديد مفهوم الزعامات الفكرية والسياسية وإحياء روح السياسة في الأوساط الشعبية عبر العالم. فهذا التوجه، الذي فرض نفسه بسبب النكسات العالمية المتكررة، أبان عن قيمة فكر المهدي كمنتوج سياسي استثنائي في تاريخ الإنسانية في القرن الواحد والعشرين. يحتاج عالم اليوم، كما دعا إلى ذلك المهدي، إلى روح نضالية جديدة تنبعث من خلالها الطاقة السياسية الشعبية لدول الجنوب بشكل تكون قادرة على المقاومة السياسية للآليات الجديدة لخرق سيادات وثقافات الأمم، وتحد من أشكال السيطرة المفضوحة بمنطقها التجاري الصرف (اقتصاد السوق) سواء كان مصدرها غربيا أو صهيونيا. لقد تبين مع مرور الأيام أن حاجة شعوب العالم الثالث (أو الدول النامية) إلى فكر المهدي ازدادت حدتها. إن توسيع الهوة بين الطبقات الاجتماعية والزيادة من حدة الفقر والتهميش زمن العولمة الدروينية التي لا تؤمن إلا بالقوي تفرض انبثاق قيم تضامنية جديدة تأثر في طبيعة العلاقات المصلحية ما بين الشمال والجنوب، بحيث يصبح من واجب الدول المتطورة الإسهام الجدي في تطوير العلاقات جنوب-جنوب، ومن تم رفع وثيرة حركية الرأسمال المالي والتكنولوجي والسلع والخدمات في المعمور عبر المنطقة الحضارية المتوسطية. إنه الرهان الوحيد لتحقيق الكرامة الدولية للشعوب "الثالثية" أو النامية، ومواجهة الظلم والتعسف والطغيان. إن هذا الرهان ليس مطلبا، بل واجبا يتحمل المنتظم الدولي مسؤولية تحقيقه، إنصافا للزعماء المغتالين وعلى رأسهم المهدي. فلا يمكن للتاريخ أن ينسى أرواح كل من الفلسطيني محمود الهمشري، والجزائري علي المسيلي، ودولسي سبتمبر ممثلة المؤتمر الوطني الإفريقي، والأستاذ راجاوي، وباتريس لومومبا، وفيليكس موميي، وأميلكا كبرال، وتشي غيفارا، وسلفادور أليدي،...إلخ. واليوم، ونحن نعيش زمن مغرب العهد الجديد، بطموحات بناء الدولة العصرية المندمجة في محيطها الجهوي والدولي، يبقى الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة في ملف الشهيد بن بركة من أولوية الأولويات للطي النهائي لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فما حققه المغرب وما يتطلع إليه جلالة الملك محمد السادس من انبثاق لعولمة عادلة ومنصفة ومشاركة تضمن تنمية متوازنة تلعب فيها الأطلسية جنوب-جنوب دورا رياديا في تقريب التجمعات الإفريقية من مثيلاتها في أمريكا اللاتينية (دعوة جلالته إلى ما سماه ب"التنوع البيولوجي للعولمة" في المؤتمر الثالث للسياسة العالمية بمراكش الذي انطلقت أشغاله يوم السبت 16 أكتوبر 2010)، تعد محفزات قوية تفرض تسليط الضوء على ملف المهدي بشكل تام ونهائي إنصافا لقضايا الجنوب العالقة. فما دعا إليه ملك البلاد في المؤتمر السالف الذكر بشأن إعطاء الأهمية البالغة للبعد المحلي وللتعقيدات التي تحاصر الحياة الحقيقية للملايير من بني الإنسان لتفادي طابع التوحش على العولمة، يؤكد اليوم أن حق معرفة الحقيقة في ملف المهدي حق راسخ تتشبث به، إضافة إلى عائلته الصغيرة وعائلته الكبيرة (المغرب دولة وشعبا)، كل شعوب العالم الثالث. وعليه، ونظرا لهذا الإجماع، لن يهدئ باب المطالبين بهذا الحق إلا بطرح قضيته بكل شفافية ومن تم إقرار العدالة وجبر الضرر. نقول هذا، لأنه تبين اليوم أن اغتيال بن بركة لم يكن إلا اغتيالا لأصول فكر التضامن الدولي بين الشعوب. إنه الفكر الذي كان لا يستسيغ تطور السياسات الدولة المختلفة بدون قيم تضامنية راسخة تحقق التوازن الاقتصادي والبيئي في مجموع تراب الكرة الأرضية. لقد تأكد كذلك أن البعد الإنساني لمشروع المهدي في العلاقات بين الشعوب، كوعي سياسي مبكر تجاوز الوعي المرحلي الدولي آنذاك، أصبح اليوم من ضمن المطالب الأساسية للشعوب زمن العولمة الضالة العمياء. وهنا يقول بشير بن بركة في كتاب "المهدي بن بركة، الموروث المشترك: من منظمة القارات الثلاث إلى حركة العولمة البديلة" (2005): "واليوم، بعد مضي أربعين سنة، فإن التحديات الجديدة التي تفرضها العولمة تتطلب مقارنة وتفكيرا مختلفين بخصوص نفس الإشكاليات، أي ضرورة بلورة أشكال جديدة للتضامن بين الشعوب، وإعادة النظر في المبادلات شمال-جنوب، وإعادة اكتساح مجال العمل الاجتماعي المفعم بروح الوطنية". وأضاف :"ودون محاولة كتابة التاريخ، يحق لنا أن نتساءل كيف، كانت ستصبح حالة العالم (أو العالم الثالث على الأقل) بدون الدعم اللامشروط الذي قدمته القوى الغربية للقوى الأكثر رجعية والأكثر فسادا ضدا على القوى الداعية للتقدم والديمقراطية؟، كيف كانت ستصبح حالة العالم (أو العالم الثالث على الأقل) بدون كل الاغتيالات السياسية التي أبادت المثقفين والمناضلين الحاملين لمشاريع مستقبلية؟، من المؤكد أن الحركة الاجتماعية ونضالات الشعوب هي المحرك الرئيسي للتغيرات التاريخية، لكن كانت هناك دوما، في لحظات حاسمة من التاريخ، شخصيات تاريخية استطاعت أن تجسد الطموحات الشعبية، وكانت حاملة لمشعل آمال جيل بكامله". واعتبارا لما سبق، نختم هذا المقال بالقول أن الكشف عن حقيقة اغتيال بن بركة، كمطلب حقوقي وطني ودولي، يستدعي إرادة سياسية دولية مستعجلة لرفع السرية على الأرشيفات المتوفرة في فرنسا، والمغرب، وإسرائيل، والولايات المتحدةالأمريكية. أما بخصوص مستقبل وطنه، فبالرغم مما حققته البلاد من تراكمات جد إيجابية، يبقى المطلب الأساسي للمهدي الذي حال دون عودته برضاه إلى المغرب، والمعنون بالعبارة التالية :"نشارك في الحكومة، شريطة التوفر على السلطات التي ستمكننا من تطبيق برنامجنا السياسي"، ذا راهنية كبيرة (سلطة ملكية قوية بحكومة وبرلمان قويين وقضاء مستقل). إن هذا المطلب، أصبح اليوم من أهم العناوين التي تميز الأجندة السياسية المغربية، وبتحقيقه، وكشف حقيقة اغتيال الشهيد، سينصف فكره، وسيصحح ويرمم بشكل نهائي ما تكسر من لبنات أساسية في مسار التاريخ المغربي. وعلى المستوى الدولي، لقد اتضح اليوم أن إضعاف حركة التحرر أو تدميرها لم يخدم الكونية الإنسانية في شيء، بل أساء إليها أشد إساءة. فاغتيال القيادات السياسية ضدا في حركات التحرر تمخض عنه وضع دولي بتهديدات لا زمن ولا مكان لها (الجرائم الاقتصادية، الإرهاب، الفقر، التهميش،...)، وأبان على ضرورة التفكير من جديد على أسس جديدة ينبثق من خلالها مجتمعا كونيا بمؤسسات عادلة وبقيم تضامنية قوية. إنه الطريق الوحيد لترسيخ ثقافة الحقوق والحيلولة دون السقوط في حالة الرد على العنف بعنف الدولة الخارج على المواثيق الدولية الخاصة بالحقوق الأساسية للإنسان.