كل عيد وطني هو مناسبة تجعل الإنسان يفكر في البلد الذي ينتسب إليه.التفكير في الذي كان في الماضي البعيد والقريب، ، والتفكير في ما هو حاصل الآن ، والتفكير أيضا في المآل، وانتظارات المستقبل . تاريخ كل شعب عبارة عن سيرورة من الأحداث السارة كالانتصارات الساحقة على الأعداء ، أو الهزائم المأساوية .من هذه الأحداث سلبا وإيجابا تستلهم الأجيال الدروس والعبر من أجل مواصلة البناء الحضاري، الذي ساهمت فيه كل الأجيال السابقة قدر إمكانياتها ، واستطاعتها في عالم يموج بالصراعات والتربصات التي تجعل القوي يستبد بالضعيف ، ويستبيح أرضه ، وكل ما يملك . هذه القاعدة الكونية في تاريخ الشعوب لا يشذ عنها بلدنا مغربنا العزيز. هذا البلد الذي كان محطة أطماع الغير منذ فجر التاريخ ، والشعوب الغازية التي توالت علينا عديدة ، حدَّ تعب العد والإحصاء،بدءا بالفنيقيين،وانتهاء بالاستعمارين الغاشمين الفرنسي والإسباني ، لكن برغم إصرار هذه الشعوب على امتلاكنا ، فإننا دائما نستطيع أن نطردها بعد أن نلقن لها درسا هو أن أسياد هذه الأرض أحرار ، ويكفي أن نذكر أن معنى كلمة أمازيغ تعني الإنسان الحر. أقول هذا بعيدا عن شبهة الشوفينية ، لأن الإنسان الأول الذي استوطن هذه الأرض الطيبة هم الأمازيغ الأحرار،الذين طردوا أعتى الإمبراطوريات، كالإمبراطورية الرومانية على سبيل التمثيل لا الحصر. لما جاء العرب شاهرين راية الإسلام تآلف العرقان العربي والأمازيغي ، وشكلا قوة ضارية ، لأن العربي بدوره مشهود له بالشجاعة والبسالة في القتال، ويكفي أن فيهم فرسان أشداء من قبيل عنترة بن شداد ، وسيف بن ذي يزن ، والإمام علي ، والقعقاع بن عمر التميمي وغيرهم من الفرسان الذين تحولوا إلى أساطير في الذاكرة الجماعية يروي فصول خوارقها الأجداد للأحفاد. أقول انصهر الشعبان العربي والأمازيغي في شعب واحد ، وشكلا قوة ضارية عبرت مضيق جبل طارق لتفتح الأندلس بقيادة قائد عظيم هو طارق بن زياد ، وبعد ه في سياق آخر عبر قائد لا يقل عظمة عن سلفه ، وهو يوسف بن تاشفين الذي هزم شر هزيمة ملك قشتالة ألفونسو السادس في معركة الزلاقة المؤخر لها في الكتاب الذهبي لأمجاد المغرب ب 23 أكتوبر 1086 م . كان المغاربة الأحرار مرة أخرى ، وعلى غرار ما كان ، وما سيكون ، كما سيأتي في هذه الورقة على موعد مع محطة أخرى مجيدة في سجلهم الحافل بالأمجاد . هذه المحطة تعتبر منعطفا هاما في تاريخ المغرب ، إذ اعتبر، ولمدة طويل بلدا مهابا ، وسيادته لا تُمس ، لأن رجالاته محاربون أشداء . هذه المحطة الفاصلة هي معركة وادي المخازن ، أو معركة الملوك الثلاثة المؤرخة بحبر من ذهب ب4 غشت 1578 . هذه المعركة باعتراف الخصوم جعلت المغرب سيدا من سادة الأمم ، وظل لعدة قرون بعيدا عن أطماع الأمم ، والإمبراطوريات المجاورة ، لأن المغرب كان بدوره إمبراطورية شاسعة تمتد من جنوبفرنسا شمالا إلى نهر السنيغال جنوبا . هذا بعض من الذي كان من الملاحم المغربية ، لكن في العصور الحديثة،والتي يؤرخ لها كونيا بالقرون السابع عشر والثامن ، والتاسع عشر حدثت أشياء في «غيابنا» ، كما حدث لممالك مصر ، وهم يواجهون بسيوف صدئة مدافع نابليون بونابارت . أشياء تتعلق بالثورات العلمية، والأنوار، والثورة الصناعية ، وغيرها من الوثبات المعرفية ، التي تخلفنا عنها كثيرا ، لذلك خسرنا أكثر من معركة بدءا بمعركة إسلي في منتصف القرن التاسع عشر [ 14 غشت 1844 ] ، ثم بعدها مباشرة حرب تطوان سنة 1860 . هذا المنعطف الخطير أسرع وثيرة الأطماع الغربية ، وتهديد سيادتنا من جديد ، خاصة أن المغرب حباه الله بخيرات كثيرة ، ويحتل مكانا استراتيجيا ، وموقعا جغرافيا استثنائيا يحسد عليه . عقدت مفاوضات أفضت إلى استعمارنا ، بعد أن دخل المحتل بعتاده الثقيل ، وعاث فسادا في الأرواح والممتلكات ، كما لو أنه كان ينتقم لهزائمه القديمة . في هذه المرحة العصيبة برغم العتاد الحربي المتفوق للعدو انتفض المغاربة الأحرار ليخلدوا ملاحم تدرس في الأكاديمية العسكرية في العالم بأسره عرفانا ببطولة شعب لا يقهر. معارك الاستقلال والكرامة في المدن والقرى والمداشر والسهل والجبل كثيرة . ولأن الحيز لا يسمح بكذا تفاصيل ، أكتفي بثلاث محطات أنارت تاريخنا برغم الليل البهيم للاستعمار ، ثلاث ملاحم بالشمال ، والريف تحديد ، والثانية في الوسط بعاصمة زيان مدينة خنيفرة بالأطلس المتوسط ، والثالثة في الجنوب بجبل صاغرو بالأطلس الصغير . هذه المعارك حسب التسلسل الزمني هي معركة لهري سنة 1914 بقيادة موحى أحمو الزياني . الثانية هي معركة أنوال بزعامة عبد الكريم الخطابي ، وذلك سنة 1921 . الثالثة معركة بوغافر، وبطلها عَسُّو باسْلام . هذه المعارك الطاحنة كبدت العدو خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد ، بحيث قتل فيها الضباط بالعشرات بما فيهم الجنرالات ، أما الجنود من مختلف الرتب فهم بالمئات . بعد الظهير البربري تغيرت استراتيجية التعامل مع العدو ، الذي استطاع في النهاية أن يتفوق علينا في ساحة القتال . بدأ نضال آخر ، ويتجلي في التربية والتكوين في المدارس الوطنية ، التي كانت تعمل بالأساس على نشر الوعي الوطني وضرورة التحرر من الاحتلال ، ومن هذه المدارس تخرجت أجيال كان لها الفضل في ظهور أجيال أخذت المقاومة على عاتقها ، وظلت تؤلم المعمر أشد الألم إلى أن أقر في النهاية بالانسحاب من غير رجعة، أو كما يقول المثل المغربي البليغ « بَلْما وْ شْطَّابة حتى لْقاعْ لَبْحَرْ «. هذه المبادرة صاحبها الفعل السياسي من خلال تشكيل أول حزب يطالب بالطرق السلمية بالحق في الاستقلال لأنه حق من حقوق الشعوب المعترف بها دوليا . كانت المعركة على قدم وساق في عدة واجهات ؛ عمليات فدائية هنا وهناك ، ومظاهرات سلمية ، ثم التفاوض من أجل إقناع المنتظم الدولي بعدالة قضيتنا . بهذه المرجعيات التي لا أدعي حصرها وفي هذا السياق جاءت وثيقة الاستقلال التي نحتفي بذكراها اليوم ، وهي محطة استثنائية في تاريخ المغرب المعاصر؛ إذ تمخضت عنها أحداث سرعت وثير الحصول على الاستقلال ، فتحية احترام وتقدير وإجلال لكل أولائك الذين ضحوا بالغالي والنفيس ، بل وبأرواحهم من أجل أن ننعم نحن أبناء اليوم بالحرية والاستقلال .