1- استشهاد «(...) نكتةٌ أخرى تقرّب الموضوع أكثر. في المغرب، عندنا تجار معروفون بنوع البخل، وهم من عرق معين؛ لن أقوله، حتى لا أتهم بالعنصرية في المغرب. يقولون إن أحدهم، من خوفه من المساعدين معه في المتجر أن يسرقوه، ومن حرصه على ماله، وضع مرآة في قعر درج النقود. فإذا فتحه نظر في المرآة حتى يتأكد أنه هو الذي يفتح الدرج وليس غيره. [الجمهور لم ينفجر ضحكا]. ما وجه الإضحاك في النكتتين؟ إن النكتتين معا تخرقان مفهوما بدهيا، هو أن الهوية مطابقة شعوريا للذات ... وكذلك في الهويات الجماعية، التي هي ليست أقل بداهة وليست أقل رسوخا في الفطرة والشعور والوجدان والثقافة والعقلية والذهنية ... ولهذا نقيض الهوية هو المسخ. من هنا كان المسخ عقوبة إلهية ... سواء ذهبنا مع المفسرين الذين قالوا إن المسخ إلى القردة والخنازير كان مسخا حسيا أو كان مسخا معنويا ...» (أبو زيد المقري الإدريسي في محاضرته بالسعودية ). 2- صاحب الكلام وطبيعة المقام الاستشهاد السابق مقتطفات تم تفريغها وتدوينها حرفيا (بما في ذلك من ركاكة عربية) من الشريط المشار إلى موقعه؛ وهو تسجيل سمعي بصري لمحاضرة ألقاها النائب البرلماني المغربي، والفاعل السياسي الحزبي، والفقيه الداعية الإسلامي في حركة من حركات الدعوة، ابو زيد المقري الإدريسي، في ندوة بالمملكة العربية السعودية بعنوان «هويتنا وأثر منطلقها على الواقع». 3- سيميولوجيا ما ورَد في نص الاستشهاد كما يتضح ذلك من الاستماع إلى الشريط كاملا، يتمثل مضمون الشق الأول الذي تم إيراده موصول الجمل في نص الاستشهاد في أمرين اثنين هما: (أ) تقديم تمهيدي لنكتة سردية، ثم (ب) النكتة السردية ذاتها. فأما التقديم فقد اتخذ طابع حُكم قيمي مطلق ومصَرّ على تبنيه في حق مكون جهوي وثقافي من مكونات الأمة المغربية، حاضرٍ بشريا وثقافيا وتاريخيا أكثر من غيره في كل ربوع الوطن، ألا وهو قول المحاضر: «في المغرب، عندنا تجار معروفون بنوع البخل، وهم من عرق معين»؛ وأما الإصرار والوعي بطبيعة ما تم الحكم به، فيتمثل في احتياط المحاضر احتياطا واعيا، حيث قال في ما يعتقد أنه تحصين له على مستوى الجانب الشكلي للقانون في ما يتعلق بتعيين ذلك «العرق» باسمه: «لن أقوله، حتى لا أتهَم بالعنصرية في المغرب «. أما النكتة في حد ذاتها من هذا الشق الأول، فمعروفة عند بعض العامة في مقامات اللغو والتندر الفولكلوري، ولها دلالاتها الثقافية العادية في تلك المقامات؛ لكنها تكتسب معان أخرى في المقام الخاص الذي ساقها فيه المسؤول السياسي والممثل البرلماني، وهو يحاضر خارج الوطن. ولقد انعكس هذا المقام الجديد بالفعل على رد فعل الجمهور على مزحة البرلماني المحاضر - وهذا هو الشق الثاني من مضمون المحاضرة. فلقد خاب ظن المحاضر بسبب ما لاحظه من ترفّع الجمهور عن الانفجار السفيه بالقهقهة كما يحصل في مجالس الخِلاّنيات والإخونيات أو لدى العامة من السفهاء والسوقة، سواء أكان ذلك الترفع حفاظا من ذلك الجمهور، فردا فردا، على آيات النخوة والنبل، أو على هيبة وجدية المقام، أم كان ذلك صادرا عن تقزز واحتقار من ذلك الجمهور لنائب «ممثل لشعبه» في المؤسسة التشريعية لوطنه، يتحول فجأة إلى مؤنس مهرج يتخذ من أبناء ذلك الشعب موضوع تشنيع وسخرية وأضحوكة يروّح بها على مستضيفيه خارج وطنه، في ما كان يَعتقِد ربما أنه («La Voix de son Maitre») مطلوب ومنتظر منه كمقابل لينال رضى أولئك المستضيفين. فلذلك انبرى البرلماني المحاضر، الذي تقمص وظيفة مؤنس عمومي عالمي، يشرحُ لجمهوره الذي أخلف الضحك، مفسرا له «ما هو وجه الإضحاك» (الذي لم يقع) في النكتة القدحية التي ساقها في حق بني وطنه. وأما الدلالات الجهورية الجديدة التي تكتسبها النكتة الفولكلورية من مقام سَوقها الجديد، مقام محاضرة «أكاديمية» بعنوان يدور حول الهوية الإسلامية، فهو تقديم المحاضر لما أسماه ب»الانفصام بين الشعور والهوية» الذي يتجلى، حسب رأيه، في ذلك التاجر البخيل الذي هو «من عرق معين»، كنموذج لبقية أوجه ما يعتبره نفس المحاضر خروجا عن الفطرة في باب «الهويات الفردية والجماعية» التي فطر الله الناس عليها، والتي يكون عقابها الإلهي هو المسخ إلى قردة وخنازير، في إحالة واضحة إلى ما ورد في القرآن عن بني إسرائيل. 4 - الدلالات العامة ل»حادثة تهمة الإفك» الجديدة إن للحديث الذي ورد على لسان السيد المقري الإدريسي دلالات متعددة في باب المسؤولية. هناك (أ) مسؤولية سياسية رسمية فردية باعتبار المعني بالأمر فاعلا سياسيا ونائبا برلمانيا، و (ب) مسؤولية سياسية حزبية باعتبار ذلك الفاعل السياسي منتميا إلى منظمة سياسية هي التي زكته، وقدمته للمواطنين للتصويت عليه كممثل بناء على قيم شعاراتها ومضامين برنامجها؛ ثم هناك (ج) مسؤولية سياسية-أخلاقية للهيئة التشريعية التي ينتمي إليها النائب البرلماني، والتي يتعين أن تبرئ ذمتها حيال هذه الحادثة بتفعيل ما تقتضيه قواعد أخلاقياتها ، وكذا سمعتها ومسؤولياتها كهيئة ممثلة لمواطنين وليس ل»عرق» دون آخر، بحيث يحلّ لعضو من أعضائها القدح الموصوف في المحافل الدولية في بقية ما يعتبره «عرقا معينا». وأخيرا هناك (د) مسؤولية قانونية تخص الشخص المدني نفسه، أي صاحب النازلة. كما أن للحادثة (ه) دلالات جوهرية في ما يتعلق بتحديد صفة «الفقيه» التي يحمل المعني قبعتها تنظيميا من خلال انتمائه إلى حركة من الحركات الدعوية ، وانخراطه في العمل الدعوي، لأن الأمر يتعلق بمصداقية ماهية ووظيفة «طبقة الفقهاء والعلماء» سواء أكانوا جمعويين، أم كانوا ينتمون إلى هيئات مؤسسية كتلك التي كانت قد أصدرت بيانا تقول فيه « علماء المغرب يمارسون رقابة دائمة على أنفسهم أولا وعلى أحوال غيرهم ثانيا» (بيان صدر خلال فترة النقاش حول الدستور سنة 2011) . 5 - تعليق على الحادثة ودلالاتها وردود الفعل إزاءها في الوقت الذي تم فيه التأكيد على الدور الجديد للديبلوماسية الرسمية والديبلوماسية الموازية التي على رأسها الديبلوماسية البرلمانية من أجل تسويق الصورة الجديدة للمغرب الجديد، بعد إنجازاته في أبواب الإنصاف والمصالحة السياسية والثقافية التي كرسها الدستور الجديد ، والتدبير الجديد لممارسة السلطات، وبعد الزلة الثقافية لبرلماني سابق لم يجد في زاده الثقافي ما يمثل به لحال مشروع مدينة اعتبر إنجازه فاشلا، سوى أن يقول عن تلك المدينة تحت قبة البرلمان «ما تصلح غير لشي شلح يبيع فيها الزريعة»، ها هو برلماني آخر يخطو خطوات عملاقة إلى الأمام بتصديره لتلك الثقافة وترويجها خارج الوطن، ويعطي بذلك منطلقا منها، مفهومه الخاص للديبلوماسية البرلمانية في المحافل الدولية (ندوة «أكاديمية» دولية خارج الوطن) يسوّق من خلاله ويبيع صورة المغرب في المحافل الدولية. ليست هناك إذن مبالغة إذا ما قيل بأن بعض ممثلينا البرلمانيين يعملون على تطبيع الميز الإثني والعرقي ، وعلى إضفاء الطابع الرسمي عليه كسياسة دولة، في الوقت الذي أصبحت فيه تلك الثقافة متجاوزة على صعيد متوسط الثقافة الشعبية، التي تعرف على الأقل المقامات الخاصة بتلك الفولكلوريات العشائرية. إن رفع تلك القيم الثقافية إلى مستوى المؤسسات الرسمية، وتصديرها إلى الخارج، لهو تهديد جدي خطير لأسس التماسك الوطني بالمملكة المغربية، وفعل غير مسؤول يعمل على نسف ما تحقق دستوريا وفكريا وثقافيا من تقدم في اتجاه تدعيم أسس دولة وطنية ديموقراطية حديثة. فالذي يعطي لأقوال السيد المقري دلالتها الخاصة، التي تخرجها من إطار الفولكلوريات، بالرغم من أن هذه الفولكلوريات نفسها غير موزعة توزيعا متعادلا، والذي يدرج تلك الأقوال في دائرة المسؤولية السياسية هو أن صاحبها مسؤول سياسي، وممثل من ممثلي الشعب المغربي في مؤسساته الحزبية والرسمية، وأن حديثه لم يكن لغوا مباحا في إطار إخواني بين خلان على مائدة استراحة، بل كان من على منبر محاضرة «أكاديمية» حول الهوية، وذلك في بلد أجنبي وأمام جمهور متعدد الجنسيات. فكلامه يشكل، باعتبار صفة القائل، وباعتبار المقام، يشكل وجها كارثيا وخيانيا من أشكال بيع صورة بلده خارج بلده، وأمام القوم من مختلف الجنسيات. من هذا المنطلق، وبهذا الاعتبار، ما صدر عن السيد المقري الإدريسي أمر كارثي، إلا أن ما هو أشد كارثية منه هو أن يكون هناك من « يضم صوته» ويلتمس التخريجات عن طريق سوسيولوجيا النكتة الفولكلورية، التي هي هامشية هنا مبدئيا (وليس مقاميا وغائية استعمال) بالقياس إلى حكم «العرق المعين ... ولن أقوله لكي لا أتهم بالعنصرية في المغرب»، وذلك لينصر أخاه ظالما أو مظلوما في مثل هذه الأمور، رافعا بذلك الأمر من مستوى مسؤولية شخص إلى مستوى تبنّ من طرف تيار أو جماعة أو هيئة. 6 - الأسس التي تنبني عليها استفادة دلالات « محاضرة» السيد المقري دلالات ما تفيده محاضرة السيد المقري مستفادة بالبداهة وبالحس المشترك العام لكل ممتلك لملكة اللغة وإشارياتها، وإلا لما شكلت تلك المحاضرة وجها من أوجه نشر بذور الفتنة في أوساط الجمهور. غير أنه من المفيد على المستوى الفكري توضيح ميكانزمات أسس حصول الدلالات. يقول عالم الاتصال والسيميولوجيا، مارشال ماك-لوهان («The medium is the message» أي «الخطاب، إنما هو القناة»؛ انظر هنا)، أي أن القناة بمفهومها الواسع أي، كل العناصر المحدِّدة للمنبر والهيئة والمقام) هي التي تحدد الأبعاد الكاملة لمكونات الخطاب، منطوقا كان أم مكتوبا، مصورا كان أم مسموعا أم سمعيا-بصريا. وبهذا الاعتبار، فزيادة على المكونات اللغوية لما ورد في محاضرة السيد المقري، وما يفيده المنطق الداخلي لتلك المكونات من أحكام، وشواهد ، وتوظيف للشواهد والأحكام كمقدمات ونتائج، هناك عنصر المقام بمفهومه الواسع الذي من بين عناصره، بالإضافة إلى ما تم ذكره أعلاه، هناك عنصر اللهجة في المسموع، والحركيات في البصري، مما يؤطر به مرسلُ الخطاب خطابَه (المحاضر في هذه الحالة). ويكفي الاقتصار في التمثيل، في هذا الباب، على حركيات المحاضر في المسلك الذي قال فيه عن التجار المعروفين بالبخل: «وهم من عرق معين؛ لن أقوله، حتى لا أتهم بالعنصرية في المغرب «. فقد أطر ذلك المقول بأن رسَم شزْرا غمزةً نكاية بعينه ودعمها بحركة محيلة على «الغير» بإبهامه، وكذا بابتسامة شماتة وتحدّ إزاء ذلك الغير، على مستوى الجانب الشكلي لملفوظ خطابه في علاقته بالسياسة والقانون، ذلك الغير الذي قد يستقبله في المغرب بالمطالبة بتقديم الحساب؛ وهو الجانب الشكلي بالضبط الذي تشبث به اليوم أولئك الذين ينصرون أخاهم ظالما في تصريحاتهم المخجلة والمستغبية للحس المشترك العام بعد حصول تلك المطالبة. 7 - خلاصة دعوات الفتنة تصدر اليوم من أوساط السياسيين والنواب والفقهاء والعلماء، ما عدا إذا ما قام كل طرف معني من هذه الأطراف بالتبرؤ من مما صدر عن السيد المقري الإدريسي. وبخصوص طبقة الفقهاء والعلماء على الأخص - بما أن صفة الفقيه هي الصفة الدائمة التي ينتحلها المعني بالأمر ويضع قبعتها على رأسه، وبها يكتسب صفات أخرى - فإنه، ما لم يحصل مثل ذلك التبرؤ من تلك الأطراف، يمكن أن يقال إن المغرب لم يعد ذلك البلد الآمن الأمين الذي يجري حليبا وعسلا كما كنا نتغنى بذلك («عشقت فيك السمر يا أرض أجدادي ... ففيك طاب المقام وطاب إنشادي ... أهوى ثلوج الجبل ذابت لآليها ... أهوى عيون العسل أهوى سواقيها»)؛ بل لقد أصبح هذا البلد مريضا بعلمائه وفقهائه، الذين يدّعون حمل ونشر كلمة الله؛ سواء منهم موقظو الفتنة والمنكر، الناطقون بهجر القول ظهرا وجهارا، أم الذين «يضمون صوتهم» إلى صوت الفقيه البرلماني، ملتمسين لقوله تخريجات واهية مستغبية لذكاء الناس (سوسيولوجيا النكتة ما بين تطوان وفاس ومراكش)، وذلك نصرة منهم لموقظي الفتنة وهم ظالمون، أم تلك البقية من سائر من يلتزمون الصمت أفرادا وهيئات حينما يقدّرون أن الظرفية تقتضي التزام ما هو «لائق سياسيا» في باب تفعيل شعار [«علماء المغرب يمارسون رقابة دائمة على أنفسهم أولا وعلى أحوال غيرهم ثانيا»]. فهل كلمة الله تقضي فعلا بالحكم على «العرق المعين» من «أعراق» المغرب الذي فضل المحاضر عدم الكشف عن اسمه بكون ذلك «العرق» نموذجا من نماذج الانفصام الهوياتي الجماعي «ما بين الهوية والشعور»، ذلك النموذج الذي يستلزم لعنة الله المتمثلة في المسخ إلى قردة وخنازير كما جاء في سياق توظيف نكتة «التاجر البخيل من عرق معين» في محاضرة العالم الفقيه المقري الإدريسي؟ وذلك ليس فقط باعتبار تلك الفئة من ذلك «العرق»، الكادة، الفعالة والمشغلة لنفسها بنفسها عبر ربوع الوطن ومن سافلة الاقتصاد إلى عاليته باعثة فيه أسباب الرواج والازدهار ، ومقربة إلى المواطنين حاجياتهم صباح مساء على مدى عقود وفي ظروف لا تشتكي منها، لا بالمسيرات ولا بالامتناع عن أداء الضرائب ولا بالانخراط في المجموعات المدمرة، ولكن أيضا سائر سوس العالمة، المتعايشة والمتعددة الثقافة عبر التاريخ، من وكَّاك بن زلّو، وعبد الله بن ياسين، والمهدي بن تومرت وغيرهم في عصرهم، إلى بقية العلماء والصالحين والأولياء بمختلف مللهم، رجالا ونساء، من الهوزالي ولالة تاعلاّت، ولالة عزيزة، ودافيد بن باروخ، إلى بقية أهل العلم والصلاح والتصوف، من يعقوب بويفركان، والطاهر الإفراني، إلى الدرقاوي، والأدوزي، والمختار السوسي، وسيدي الحاج الحبيب، ومحمد العثماني، وغيرهم مما لا تتسع له لائحة، بل وكذلك بعض زملاء الفقيه الداعية والزعيم السياسي والبرلماني، السيد المقري الإدريسي، الذين هم من ذلك «العرق المعين»، والذين هم على رأس التنظيم السياسي الذي وضع ذلك الفقيه حيث هو. أفيصدق على كل هؤلاء حكم ذلك العالم الفقيه ومضمون ما يستفاد من التوظيف التحليلي الاجتهادي الذي وظف به النكتة الفولكلورية المعروفة، في مقام من مقامات الجد والدعوة والسياسة والدبلوماسية البرلمانية؟ أستاذ باحث متخصص في اللسانيات