ألقى الأستاذ أحمد الخمليشي، مدير دار الحديث الحسنية، هذا العرْض، شفهيّا، ضمْن فعاليات اليوم الدراسي الذي نظّمه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بمقر الحزب بالرباط، السبت الماضي، حول محور «الدين والمجتمع». في هذا العرض، يعود الأستاذ الخمليشي إلى قراءة كلمتيْ الاجتهاد والفتوى في الإسلام، وكذا علاقة الدين بالمجتمع والسياسة ومسألة فصل الدين عن الدولة، آخذا بعيْن الاعتبار السياق العربي الإسلامي وخصوصية مجتمعاته. في البداية، إنّ النقاشات المتعلقة بالدين والمجتمع والديمقراطية والحداثة، تدور حوْل كلمات واسعة الدلالة، متشعّبة التفسيرات. ولذلك سأقتصر في تدخلي على الكلمة الأولى المتعلقة بالدين. فكثيرا ما نتحدث عن الدين ونربط به الكثير من الأحكام والنتائج، بينما الواقع يطلب منا في اعتقادي تفسير الدين قبل أنْ نتحدّث عنه باعتباره عقيدة. فتفسير الدين متشعّب وواسع جدا. وأفضّل أن آتي بمثاليْن من هذا الطرف وذاك: الطرف الأول، تفسير لابن عربي، الصوفي الأندلسي المعروف، المدفون بدمشق، يقول لقد كنتُ قبلَ اليوم أنكِرُ صاحبي إذا لم يكنْ ديني إلى دينِه داني لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طائفٍ وألواح توراة ومصحفُ قرآنِ أدين بدين الحبِّ أنّى توجّهت ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني هذا نموذج لتفسير الدين بهذا التسامح، وبهذه الرؤية الشمولية لمفهوم الدين. وإذا انتقلنا إلى الجهة المقابلة، يمكن أن أورد مثالا من كتاب للشيخ القرضاوي، كتاب «فقه الأولويات»، حيث يقول:»إنّ جهادَ الكفّار والإلْحاد والعلمانيّة والتحلّل، وما يسندها من قوات داخلية وخارجيّة، هو الآن فريضة العصر، وواجب اليوم». بطبيعة الحال القرضاوي يتجاوز هنا التطرّف والتشدّد. مشكلتنا إذنْ هي مشكلة التفسير. وسبب ذلك أنّ المجتمعات الإنسانية، منذ أن عاشت مع الدين منذ آلاف وآلاف السنين، تكونت لديها ثقافة تتميز ببعض الخصائص، في مقدمتها عدم الاعتراف بالآخر باعتباره كافرا، فكل معتقِد لمعتقَد يعتبر نفسه هو المؤمن وما عاداه كفّارا وما تستبع كلمة «كفْر». الناطقون باسم الدين ومبدون الرأي في أحكامه هم طائفة خاصة، وبالتالي فإنّ الدين ليس مفتوحا للجميع. ووظيفتها التبليغ والإلزام، وليس إبداء الرأي. هكذا كانت الأديان وما تزال سواء أكانت سماوية أمْ غير سماويّة. كذلك ما تنطق به هذه الطائفة المختصّة والمنفردة بتفسير الدين يُنقل ولا يُتعقّل. هناك استناد السلطة السياسية إلى الدين لبناء شرعيتها، وآثار ذلك معروفة عبر التاريخ عند المسلمين وعند غيرهم. والمجتمع الإسلامي ورث الكثير من هذه العناصر، أوّلا لأنها مسيرة إنسانية تاريخية، وثانيا لأن الكثير ممّن دخلوا إلى الإسلام دخلوا من هذه الثقافة المتوارثة عبر آلاف السنين. نسمع كثيرا ونقرأ أنه لا رجال دين في الإسلام، لكن بيان أحكامك الشريعة والتقرير بشأنها قاصر على المجتهد، بعبارة قديمة، وعلى العلماء بعبارة حديثة. وإلزام الأمّة بالتقليد، وللأسف نجد عددا من المفكرين الذين لهم وزنهم في الثقافة الإسلامية وفي الفكر الإسلامي ساروا على هذا النهج، ربما أشير هنا إلى الإمام الغزالي رحمه الله عندما يدافع عن كوْن التقليد هو واجب شرعيّ، وأن التقليد ليس تنازلا عن الحقّ في فهم الدين ولكن إجماع الأمة فرض أن يكون هناك مجتهد ومقلّد، وربما حتى ابن رشد رحمه الله، مع عقلانيته، لم يستطع أن يخرج من هذه الثقافة التي كانت تحيط بالفكر الإسلامي في هذا المجال فيما يتعلق بالتعامل مع نصوص الشريعة. ونتيجة لهذا الموروث نجد الأحكام التي قرّرها الفقهاء للتعامل مع المُسلم وغير المسلم داخل المجْتمع الإسلامي وخارجه. كذلك من هذه الآثار اندماج الأحكام الاجتهادية مع الأحْكام المُقرّرة في نُصوص الوحْي، فأصبحت كلّها تُنقل ولا تُعقل، ولا سيّما بعد إعلان انتهاء الاجتهاد في القرْن الرّابع الهجري، وفرْض ما سُميّ بالتقليد المذهبيّ الذي ما يزال سائدا إلى اليوم. من هذا الموروث كذلك، هو أنّ علاقة الفقه بالسلطة السياسيّة لمْ تكنْ على ما يُرام في الكثير من الحالات، ولكن في ذات الوقت أكد الفقه أنّ وظيفة هذه السلطة هي حراسة الدّين، وأنها تكتسبُ شرعيّتها من السّهر على تطبيق أحكام الشريعة كما هي مدوّنه في المَراجع الفقْهيّة. وبذلك اختلط الدين بالحياة اليومية واندمج مع أداء السُّلطة السياسية. ونتائج هذا معروفة في العلم الإسلاميّ وفي غيْره. والآن، تغيّر الكثير من أحوال العالم الإسلامي، الإنسان وأفكاره، وحول التعايش بين مختلف الإيديولوجيات والعقائد. هذه المجتمعات الآن في حاجة إلى الأخذ بمبدأ التسامح ومبدأ التعايش. إنها نتيجة للموروث، ونتيجة للثقافة، لأنّ هذا أمر مرتبط بالثقافة وليس بالمعرفة. لأنّ المعرفة لها مفاصلها، ويمكن أن تراجع، لكنّ الثقافة مشكلها أنّها توجه الشخص وتفرض عليه أن يسلك سلوكا معيّنا دونما استعمال عقله، ودون مراجعة، ودون استماع إلى الرّأي المقابل أو التسامح معه، هذا هو المشكل. مشكلتنا مشكلة ثقافيّة، قبل أنْ يكون معرفيّا. لا يكفي أن نقول بأنّ هناك جهلا، وإنما هناك ثقافة متأصّلة تفرض نفسها على توجّه الإنسان من حيث هو أسير لها، من حيث لا يشعر. لذلك في هذا المستجدّ الواقع الإنسانيّ العالمي العام، يمكن أن نلاحظ في المجتمعات الإسلامية من ينادي بإقامة سلطة سياسية وظيفتها تطبيق الشريعة طوْعا أو كرْها. طبعا عندما نتلفّظ بكلمة «شريعة» فإننا نقصدُ بها نصوص الوحْي وكلّ تفسيراتها الثابتة في المراجع الفقهية المختلفة على مسافة 13 قرنا. ربّما هناك توجّه آخر يدْعو إلى فصْل الدين عن الدّوْلة، باعتبار الدين شأنا خاصا وفرديّا، والدّولة مهمّتها تدبير الشؤون العامّة لمواطنيها، وذلك بصرْف النظر عن عقائدهم وعن أفكارهم وأوضاعهم الاجتماعيّة المختلفة، كما نجد مَنْ ينادي بفصل الدّين عن السياسة، لاختلافهما طبيعة وأهْدافا. هذه التوجّهات قد تبدو جميعها معقولة، على الأقلّ في نظر من يقدّمها، لأنه يؤسّسها على ثوابت منطقيّة، وعلى براهين فكريّة في كلّ الأحوال، لأنّ تطبيقَ الشّريعة في مجْتمع مُسْلم، مثلاً، هو مثل تطبيق الاشْتراكيّة لمُجتمع شيوعيّ، المذهب الفرديّ بالنسبة للرّأسْمالية. هذا أمْر طبيعيّ لا يجادلُ فيه أحدٌ، لكن، كما يقالُ، عندما نأتي إلى التفاصيل، يكون هناك مشكل. غير أنّ السُّؤال المطْروح هو: ماذا نقْصد بالشريعة؟ لأننا بحكم ثقافتنا، وبحُكْم المسيرة التاريخيّة، أصبحتْ كلّ الأحكام الاجتهاديّة مندمجة ومُختلطة مع أحكام نصوص الوحْي دون تمييز فيما بينها. وهذه الأحكامُ الاجتهاديّة أُنتجتْ، بطبيعة الحال، في واقع معيّن، وفي ظرْف حضاريّ مُحدد، وفي تصوّرات وتعايُش مختلف بين الشعوب. واليوم، نجد أنها اكتسبت القَدَاسَة واندَمجتْ في الشريعة. عندما نعود إلى هذا سنجد أنّ المطالبة بتطْبيق الشّريعة هو بمثابة شعار عام ربما لا مؤاخذة عليه، ولكن يحتضن ما يمْكن أنْ يؤدّي إلى نتائج غيْر مقبولة. وبالأخصّ أنّ هذه الأحكامَ، بالإضافة إلى ما هو مُثبَت في مراجع الفقه، نجد الآن ما يُسمى بالفتاوى، هي في الواقع قديمة، وليس مقتصرة على هذا الزّمن. الآنَ انتشرتْ كثيرا وسهُل توْصيلها إلى أكبر عدد من النّاس في مجموع أرجاء الأرْض. هذه الفتاوىَ التي ما نزال نعيش على ثقافة اكتسبناها من أجدادنا، وهي أنّ المفتي ترجمان عن الله، مثلما قال القرافي رحمه الله أن المفتي مثل ترجمان القاضي مع الأعاجم، على اعتبار أن المتقاضين لم يكونوا يعرفون اللغة العربية، ولذلك كان القاضي يحكم، والترجمان يبلّغ ما يريد أن يقوله القاضي للمتقاضين، ولذلك عليه أن يحافظ على المعاني الدقيقة لكل ما نطق به القاضي، ويقول إن المفتي هو بمثابة الترجمان. فما ينطق به هو ترجمة لكلام الله. هذه الثقافة التي ما تزال منتشرة، ليس بين المفتين فقط، بل منتشرة، وهذا هو الأهمّ، بين المتلقين. بمعنى أن المتلقي عندما يتلق فتوى باسم الدين يعتقد أن هذا كلام الدين وكلام الشريعة، وليس مجرّد رأي ينطق بعه المفتي. فعندما نسْتحضرُ هذا الواقع، وعندما نستحْضر كذلك أنّ واقع المجتمع الإنساني كله، ومنه بطبيعة الحال المجتمع الإسلامي قطعت فيه المعرفة أشواطا كبيرة، وبرزت علاقات اجتماعية كثيرة، أصبح الآن مجرّد الدعوة إليها تطبيق الشريعة هو الحلّ مجرد الاكتفاء بعنوان عامّ بقصد إقناع من لا يريد التفاصيل وليس لديه الاستعداد، وكذلك ممن لا يزال، وهذا هو وضع أغلبية المسلمين، وهي اعتقاده أن ما يتلقاه هي أحكام الشريعة وليس شيئا آخر وليس منسوبا إلى المفتي أو الفقيه أو الخطيب. لذلك، يبدو الوقوف مع هذه المقولة وتحليلها وما يمكن أن تؤدي إليه من نتائج سلبية عندما نتحدّث عن تطبيق الشريعة. بالنسبة للفكرة الثانية المتعلّقة بالدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، ربّما نقول إن له مبرّراته من التاريخ ومن الحاضر المعيش، لكن في رأيي الشخصي الأمر ليس بهذه السهولة. وذلك من جانبيْن: الجانب الأوّل يصعب، في رأيي الشخصيّ، أن نقول إن أحكام الدين وقيمه جميعها ليست بعيدة عن عمل المجتمع، ولا سيما بالنسبة للمجتمع الذي يدين أغلبه بالدين الإسلاميّ، ونحصرها في الشؤون الخاصّة. هذا جانب، الجانب الثاني، وهذا يخصّنا نحن في العالم الإسلامي بصورة خاصة، وهو أننا عندما نقول إنه يجب فصل الدين عن الدولة، ما هي النتيجة؟ النتيجة هي الفوضى العارمة في تناول الدّين، لماذا؟ بالنسبة للغرب، كانت الهيئة المُكلفة بشؤون الدين هي الكنيسة. والكنيسة منظمة، ولها تراتبيتها ونظامها وكيفية تناول شؤون الدين فيها، وما عدا هؤلاء الذين يوجدون في هذه المؤسسات، لا شرعية لهم ولا صلاحية لهمْ في الكلام باسم الدين. لذلك عندما تمّ عزل الكنيسة في الغرب، هدأت الأمور، لماذا؟ لأنّه لم يكن في إمكان أيّ مسيحيّ أنْ يتولى الكلام باسم المسيحية ويستمع إليه الناس بأنه يعبّر عن المسيحيّة، لأنّ هنالك ثقافة، هنالك واقعا، هنالك اعتقادا بأن الذين يتكلمون باسْم الدين هم هؤلاء الطائفة، وهذه الطائفة توجد داخل أسوارها، بينما نحن لسْنا كذلك. أيّ واحد منا ومن غيرنا له الحقّ في أن يتحدّث باسم الدين، ويصدر الفتاوى. نتصوّر مثلا، دع المساجد لا تتدخل فيها الدولة، والدولة لا علاقة لها بالسياسة. فإذا فصلنا الدين عن الدولة ماذا سيحدث؟ الذي سيحدث هو الحادث الآن في العديد من الدول الإسلامية. الآن في مصر ذاتها، هناك مساجد للسلفيين ومساجد للإخوان المسلمين ومساجد لتيارات أخرى الخ، لأننا نحن في المجتمع الّإسلامي، نجد أنّ كل واحد منّا يمكن أن يكون له مشروع للحديث باسْم الإسْلام، بحيث أنّ المتلقّي يتلقاه بصفته حكما إسلاميا، وليس مجرّد رأي شخصي. فمشكلُ فصْل الدّين عن الدوْلة في اعتقادي يعرّض الدين للضرر من حيث يؤدّي إلى الفوضى، وإلى التفكّك الاجتماعيّ الذي لا قبل لنا به. أما بالنسبة للطرف الثالث الذي يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، فإنّ الأمْر هنا كذلك يبدو منطقيا، غير أنه يلزم في الوقت نفسه التفريق بين الخلفية التي يستند إليها السياسي، والتسليم بأنها تبقى آراء سياسية قابلة للنقاش وليست قطعية أو كأساس حكم ديني منزّل، بغض النظر أكانت هذه الخلفية دينية أو ذات أية مرجعية أخرى،وبين من يبني مشروعه على الدين ويؤسس شرعيته عليه. إنّ ما يجب أن تتوجه إليه الهمم والعزائم، اليوم في بلادنا هو إصلاح الدولة لتكون مبنيّة على مؤسسات لها انعكاس للرأي العام، وهذا هو المدى المرغوب فيه، وحتى لا تستبد الدولة بالدين، وهذا هو الضمانة الحقيقية للابتعاد عن الاستبداد بفضل بناء الدولة على مؤسسات ذات مصداقية.