بهمّ تربوي وفكري في آن، ما يني المفكر والأستاذ الجامعي رضوان سليم يؤسس لمقاربة عميقة وهادئة لظواهر تنبجس في فضائنا الفكري والسياسي والتاريخي، لتفسير السلوكيات العدمية العنيفة تارة أو تلك التي تتوسّل ردّ الفعل السياسي طريقا لها تارة أخرى. يأتينا رضوان سليم من قارة ردّ الفعل الفلسفي ليحاول أن يفكّر معنا وفي أفقنا، هذه الظواهر التي قد تستدعينا تارة كمتلقين لها، أو قد تستفزنا وتثير فينا الرغبة الملحاحَ في طرح الأسئلة التي لا بدّ منها حول تاريخنا هنا والآن، حول الوقائع والأحداث التي نعيشها أو حول مآلها. لنحاول إذن الإنصات لباحث جامعي يفكر زمننا التاريخي وزمننا الراهن، عبر أحداث انحفرت عميقا في حاضرنا مثل 16 ماي في (ظلال الهباء - 2006 ) ووقائع وأحداث طاعنة في امتدادها الزمني كما في (الثورة الديمقراطية ? 2013) كتابه الأخير. نحن هنا أمام فكر يُفكر بأناة ودعة في قضايا حارقة فلنحاول أن نسائله أيضا بهدوء ودعة. الأستاذ رضوان سليم، انطلاقا من أي وضع اعتباري تتدخلون نظريا في حقل راهنية سياسية ما زالت مفتوحة على الكثير من الوقائع والأحداث... هل تتدخلون كمفكر نقدي مسلح بأدوات ومفاهيم نظرية جدلية مستلهمة من حقل الفكر الماركسي؟ هل تتدخلون كأستاذ جامعي للفلسفة؟ أم هل تتدخلون فقط كشخص مسكون بحِس المواطنة؟ بل أتدخل كمثقف يقدم شهادة. ففي اعتقادي أن وظيفة المثقف اليوم أن يكون شاهدا على عصره. أما التدخل في سير الأحداث التاريخية، فلم يعد بمقدور فرد أو جماعة التأثير فيه. لقد غيّر الإرهاب موازين القوى، ومن ثم فإن العنف الأصولي الإسلامي فرض وضعا جديدا هو الهباء Le chaos أي العدم قبل خلق الكون. وهكذا فإن السؤال اليوم هو كيف يمكن للمثقف أن يكون شاهدا على العدم وليس على الوجود. مع الأسف، لم ينتبه العرب إلى أن السماء قد سقطت على رؤوسهم، بل يعتقدون، نتيجة استلابهم الديني الأصولي، أنهم يحملون السماء على أكتافهم. وهو الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من الخراب. أن تكون شاهدا على العدم ليس مهمة بسيطة، فهي وصف لبناء مفاهيمي يتهدّم، ونسق فكري يتحطّم، وكيان وجداني يدمّر؛ وهذا الوصف هو مقدمة ضرورية للتفكير مستقبلا في إعادة تأسيس الأفكار والمفاهيم والتصورات. المرحلة التاريخية الراهنة هي شرخ تاريخي عميق، شرخ سياسي تجلى في سقوط الدولة الوطنية، شرخ ديني تجلى في حروب دينية بين قوميات ومذاهب وطوائف وجماعات دينية، وشرخ ثقافي تجلى في انحطاط الفكرة الثقافية العربية، وشرخ اجتماعي تجلى في الانقسام الاجتماعي والتقسيم الترابي والحرب المدنية، وشرخ جمالي تجلى في بؤس الذوق الفني. يعكس الشرخ التاريخي سقوط النظام العربي في كليته، بل يمكن القول بوضوح، لقد خرج العرب من التاريخ. وإن دور المثقف هو أن يوضح ذلك، أن يفهمه وأن يفسره بهدف الاستعداد في حقبة لاحقة لإعادة التأسيس على قواعد جديدة، صلبة ومختلفة. اشرتم في سؤالكم إلى أن الأحداث والوقائع راهنية وما زالت مفتوحة على آفاق مجهولة؛ في اعتقادي، وقد أكدت ذلك منذ ماي 2003 ، أن أفقها الوحيد هو المأساة. لأن الوعي المسكون بالموت والعدم هو وعي مأساوي لا يمكنه أن يبدع ثورة أو يؤسس ديموقراطية. فمن المهم إذن أن نحصر اهتمامنا وتفكيرنا في المأساة، بهدف تجاوز العنف، والانتصار في نهاية المطاف على العدم. هذا هو الأفق الوحيد المفتوح أمامنا الآن. طرحتم، الأستاذ رضوان سليم، بصدد دواعي تأليفكم لكتاب «ظلال الهباء» بأن السؤال الذي كان كامنا خلفه هو الإشكالية النظرية التالية: لماذا سقط الوعي في العدم...؟ ثم قلتم بأنه من الضروري أن نسأل أولا: ما هو الوعي؟ هل من الضروري بدءا أن نختار نوعا من المقاربة المفاهيمية لأحداث مادية رهيبة مثل 16 ماي، ألا ترون، في هذا السياق، أن المقاربة التاريخانية الموضوعية قد تكون محدودة النتائج؟ هل من الضروري أن نفسّر نظريا ما قد لا يكون قابلا للتفسير؟ ألا نسقط هنا في تصور مفارق يريد شرح الواقع بالفكر؟ كانت صدمة 11 سبتمبر 2001 قوية على الوعي الغربي بصفة عامة، صدمة شبيهة بالمحرقة النازية لليهود في أوروبا. وهكذا لم تكن نتائجها على صعيد الواقع فقط، بل بصفة خاصة على صعيد الوعي. لقد عملت الولاياتالمتحدةالأمريكية، بجميع الوسائل الحربية، الفكرية، الإعلامية، الديبلوماسية؛ على تغيير وجه العالم، بينما تجاهل الوعي العربي بصفة عامة، عمق وخطورة الأعمال الإرهابية ل 11 سبتمبر. ليس هذا فقط، بل تجاهل العرب خطورة الإرهاب على المجتمعات العربية نفسها. وهكذا سقطت السماء على رؤوسهم. في كتابي «ظلال الهباء» سعيت إلى تكوين مفهوم 16 ماي في أبعاده التاريخية، السياسية والدينية، أي أزمنة الوعي المغربي وهي تواجه صدمة الإرهاب الأصولي الإسلامي. ذلك أنه يسعى إل تفكيك الدولة الوطنية وتفكيك الإسلام الكلي. ومع الأسف فهذا ما حدث بعد ذلك في البلدان العربية. وهذا واقع أصبح يدركه بوضوح المثقفون والسياسيون وكذلك الشعوب. ولكن المهم في الفكرة، هو قدرتها على التوقع، فلا يجب السقوط في تحليل الواقع بالواقع، بل الواقع بالأفكار. الحياة السياسية الدينية هي حياة معقدة، مستلبة ولكنها فاعلة بديناميكية مع الواقع التاريخي والاجتماعي، ومن ثم، تحتاج إلى تنظيم عقلاني. إن العمل الإرهابي ل16 ماي قابل للتفسير، بل للحكم والتقويم، فهو نابع من فكرة دينية، والأخطر في ذلك، من شعور ديني عميق، وهذا أمر لا يمكن تجاهله بالإشارة إلى عوامل الفقر الاجتماعية أو الإحباط النفسي أو التنظيم الإرهابي. فجوهر المشكل هو الحياة السياسية الدينية للمجتمع من جهة، والأفراد من جهة ثانية. يقتضي تجاوز هذه الوضعية، إعادة التفكير في الإسلام في السيرورة الديمقراطية، وهذا غير ممكن دون الخروج من مدى الجماعات الدينية، والرجوع إلى الإسلام الكلي، وهذا عمل نظري وفكري غير مرهون بالواقع، لأن الواقع الحالي يتسم بالعنف والفوضى والعدم والموت اليومي العبثي الذي يعلن احتضار الدين نفسه. تتحدثون في «الثورة الديمقراطية» عن علاقة الحقيقة بالسلطة. إذا كانت هذه العلاقة بديهية منذ تحليلات فوكو، فالسؤال الذي يطرح انطلاقا من قولكم «أضاعت الحقيقة حقيقتها» هو: هل للحقيقة فعلا حقيقة؟ تاريخ الحقيقة هو نفسه تاريخ الفلسفة منذ أفلاطون إلى ميشيل فوكو. فقد انتقد هذا الأخير الرؤية الميتافيزيقية والأنثروبلوجية للحقيقة، فهي في نظره ليست طبيعة إنسانية معطاة، بل هي حالة لموازين القوى بين أنظمة السلطة وأنظمة المعرفة. وهذه الحالة هي بهدف السلطة والهيمنة، لكنها أيضا معركة للحرية والمقاومة. إنه يتجاوز بذلك فكرة الطبيعة الإنسانية عند أفلاطون، والبداهة عند ديكارت واسبينوزا، والتشيّؤ عند ماركس؛ بهدف تكوين شبكة أو نسق أو استراتيجية للحقيقة. لكن المظهر الذي يهمني بالدرجة الأولى، للحقيقة هو المظهر اللاعقلاني الذي يتجلى اليوم عربيا، في العنف والشر والموت، والذي يجد تعبيره الوحشي في الإرهاب الأصولي الإسلامي. السؤال العربي اليوم هو: لماذا سقط الوعي في العدم؟ أي في العنف والشر والموت، وبعبارة واحدة، في الهباء Le chaos . الحقيقة هي مجال الخطاب والتمثلات، فهي ليست معطى واقعي بل هي بحث مستمر، مجهود فكري، هي مشروع لإعطاء معنى، لإضفاء معنى على العدم العربي. إن مأساة الوعي العربي هي أنه نسي تاريخه، ويتطلع في المستقبل إلى تغيير العالم، بينما لا يستطيع هو نفسه تحرير ذاته من استلابه وضياعه، وبالتالي، فإن المشكل الرئيسي الذي يؤرق الوعي العربي اليوم، ليس مشكل التاريخ بل مشكل الزمان، فالأمة العربية الواعية بذاتها اليوم، هي اليوم أمة مستلبة وغريبة عن ذاتها. قلتم في كتابكم الأخير هذا أن «الديمقراطية نظام فاسد سياسيا وأخلاقيا ليس نتيجة انعدام كفاءة القادة، بل أيضا بسبب جهل الشعب...». هل يمكن القول انطلاقا من هذا بأن هناك شعوبا قد لا تكون في مستوى الاضطلاع بالديمقراطية كتجربة سياسية وتاريخية؟ علما أنكم أحلتم على موقف أفلاطون القائل بأن شر المدينة ينشأ من حكم الشعب أي الدستور الفاسد؟ هذا ليس قولي، بل هو موقف الفيلسوف أفلاطون من الديموقراطية الأثينية، ففي نظره، النظام الديمقراطي هو منبع للفوضى، لأنه يسمح لقادة غير أكفاء وديماغوجيين بتسخير مجلس المواطنين للتعبير عن الأهواء والمصالح من جهة، ولبلوغ طموحهم في المجد من جهة ثانية. بينما يفترض الحكم معرفة الحقيقي والالتزام بالعادل. فغاية الحكم هي تجسيد الحقيقة والعدالة. كان هدف أفلاطون تجاوز وضعيتين متناقضتين، الملكية الاستبدادية الفارسية من جهة، والدمقراطية الفوضوية الأثينية من جهة ثانية. لقد انتبه أفلاطون إلى قيمة القوانين في الحياة السياسية، وهكذا ألف محاورة «القوانين» في مرحلة الشيخوخة (حوالي ثمانين سنة)، إذ تخضع الحكومة لمبدأ الحق الذي يعني الحقيقة والعدل الإلهي والعدالة البشرية في نفس الوقت. فالقانون هو أسمى من الدمقراطية ومن الاستبداد معا. كتبتم بأن «ثورة الملك والشعب برزت كتعبير حميم عن انصهار الحرية والمأساة»، ألا ترون بأن هذا الحدث هو جزء من السرد المخزني الذي تفسر عبره لحظة غامضة من التاريخ السياسي المغربي المعاصر؟ أولا الثورة هي حدث تاريخي استثنائي، ولذلك لم يعرف تاريخ البشرية إلا عددا قليلا من الثورات. ثانيا، لسنا نحن من نحدد ما هي الثورة، بل مجرى التاريخ وسيره وكذلك منطقه. وثالثا هناك خصائص تتميز بها الثورة عن غيرها من الأحداث التاريخية كالتمرد أو الانتفاضة أو الاعتصام أو غيرها. وأهم هذه الخصائص هي إحداث القطيعة التاريخية مع النظام القديم وبناء نظام جديد، ثم توفرها على نظرية جديدة تعيد تكوين الوعي التاريخي لدى الفرد والمجتمع، بالإضافة إلى قيادة ثورية تضع برامج مرحلية وترسم أهداف استراتيجية. وهكذا فمن قرأ تاريخ المغرب المعاصر بموضوعية وعمق سيدرك لا محالة القيمة التاريخية والنظرية والسياسية لثورة الملك والشعب؛ فقد جسدت انهيار المغرب القديم وميلاد المغرب الجديد، أي المغرب الذي نحياه اليوم كمواطنين. فقد سقط النظام الاستعماري رغم تعداد جيشه وعتاده، وتهاوى النظام «المخزني» رغم طغيان باشواته وقياده، وتلاشى النهج الديني «الطرقي» رغم دجل شيوخه وأوليائه. وبسقوط تلك الأنظمة فقد المغرب القديم دعائم وجوده ودوامه. لم تنبثق ثورة الملك والشعب من عدم، بل من مسلسل ثوري انطلق مع الثورة الريفية سنة 1921 ، ومن نضال سياسي بدأ مع مقاومة الظهير البربري (1930) وتكوين النظام السياسي وصياغة النظرية الوطنية كعقيدة إيديولوجية، والإسلام الكلي السلفي المغربي، في مواجهة هرطقة الجماعات الدينية و»الطرقية». لقد كانت لديها استراتيجية واضحة هي بناء النظام الملكي الدستوري الديمقراطي بعد تحقيق الاستقلال الوطني. ويمكن القول أنها حققت اكتمال النضال من أجل الحرية والمساواة. الحرية من خلال الحريات الفردية والجماعية، والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات. لا يمكن الحكم على الثورة ذاتها من خلال الحكم على مسارها بعد ذلك. فما عرفه المغرب من أحداث بعد نشوة الاستقلال الوطني، يرجع إلى موازين قوى جديدة وإلى أزمة الانتقال الديمقراطي بين الاختيار الثوري والتوافق التاريخي، وهي الأزمة التي أدت إلى نشوء الثورة المضادة، والتي كان من أبرز مظاهرها، سنوات الرصاص. ألا تؤكد النظرية الانقسامية انعدام وجود شعور وطني لدى لمغاربة؟ جواب: هذا الموقف عبرت عنه التاريخيات الكولونيالية التي نفت وجود شعور وطني لدى المغاربة، مؤكدة على التناقض الدائم بين استبداد «المخزن» وعنفه من جهة، وفوضى القبائل وتمردها من جهة ثانية؛ متجاهلة السيرورة التاريخية المغربية التي تبرهن على وجود هذا الشعور. يختلف الشعور الوطني المغربي عن الوعي الوطني الأوروبي، فهو لم ينشأ كانعكاس لتطور البنيات الاقتصادية الرأسمالية، بل كنتاج وعي بالمصير المشترك لأمة تاريخية. يؤكد المؤرخ المغربي جرمان عياش، وجود هذا الشعور لدى السلطان والقبائل على السواء، رغم غياب الشروط المادية لتكوينه، بل يبرهن بواسطة الوثائق التاريخية، على حضور حركة وطنية مكتملة الملامح منذ القرن التاسع عشر. وبفضل هذ الشعور أمكن تجنب خطر الإبادة الجماعية للمغاربة. وهو يظهر بوضوح لدى السلطان والقبائل أثناء مواجهة الغزو الأجنبي، ذلك أنه ظهر تنافس قوي بين الإمبرياليات الأوربية بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830)، ضاعفت من ضغطها على المغرب: ضغط عسكري، سياسي ومالي، بصفة مستمرة، متصاعدة وعنيفة بهدف سيطرتها على التراب الوطني وهيمنتها على اقتصاده وموارده الطبيعية. يتجلى هذا الشعور في الإحساس بالواجب لدى السلطان الذي يوجه نداء الجهاد إلى القبائل، وفي التعبئة التلقائية لدى هذه الأخيرة. نلاحظ في هذا الصدد، وجود تكامل بين وظائف السلطان وأدوار القبائل، كما يؤكد الشعور الوطني بطلان الأطروحة الانفصالية التي تفسر مقاومة القبائل الريفية والصحراوية للغزو الأجنبي بنزعتها الاستقلالية. فرد فعلها القوي والفوري، في مختلف الحقب التاريخية، على المس بالتراب الوطني أو بالسيادة الوطنية؛ يبرهن على تدفق شعورها الوطني، فهو شعور منغرس في تراب الوطن وفي مجرى الزمن. نلاحظ كذلك أن هذا الشعور هو شعور تحرري في مواجهة الغزو الأجنبي أو الاستبداد «المخزني»، فهو تحرري وثوري يرفض الخضوع ويناضل من أجل الحرية. إنه نفس الشعور الذي اكتمل كوعي تاريخي بعد نهاية الثورة الريفية (1926)، والذي منح الحركة الوطنية بعد ذلك، الهيمنة الإيديولوجية والسياسية على المجتمع المغربي في كليته. لم تترك التجربة الماركسية الثورية لسنوات السبعينات (خصوصا في الوسط الطلابي) غير إرث الرماد... ما رأيكم؟ تعبير الرماد ينطبق على تكوين الوعي الديمقراطي، فهذا الأخير لا ينشأ من تمجيد العنف بل من الوفاء للضحايا. الرماد ينطبق على المحرقة النازية لليهود في أوروبا، فهي التي شكلت الديمقراطية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، بل هي التي تكون في القوانين الزجرية المعادية للسامية؛ النواة الصلبة للديمقراطية المعاصرة. كانت النازية الألمانية تتوفر على الشرعية الانتخابية، بل إن أدولف هتلر نظم ثلاثة استفتاءات شعبية حصل خلالها على موافقة بأغلبية ساحقة، لكنه أقام شرعيته الانتخابية على الإبادة الجماعية لليهود والشيوعيين، لكن الديمقراطية المعاصرة تأسست على أنقاض النازيين. نفس الأمر يحصل اليوم مع الأعمال الإرهابية ل 11 سبتمبر 2001 من خلال تكوين مفهوم جديد يمثل صلب الحياة الديمقراطية المعاصرة وهو «الحرب على الإرهاب» أو «الحرب العادلة». فضحايا 11 سبتمبر هم الذين يشكلون اليوم الوعي الديمقراطي المعاصر. وهذه الحرب على الإرهاب هي نفسها التي تغذي الإرهاب الأصولي الإسلامي، ولكنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى سقوط النظام العربي جميعه، وإلى تفكيك الحياة الدينية الإسلامية. فهذه العملية الجدلية هي التي تخلق الديناميكية الاجتماعية التي قد تنتج ثورة ديمقراطية كنقيض للدولة الوطنية الشمولية وللأصولية الإسلامية؛ وهذا ما يفترض إعادة تأسيس مستمرة لمفهوم الديمقراطية. أما بالنسبة للوعي الديمقراطي المغربي المعاصر، فهو نتاج ضحايا سنوات الرصاص وإرهاب 16 ماي، وهو وحده الذي يمكنه تجاوز الزمن المأساوي والانتقال إلى الديمقراطية وإلى الإسلام الكلي. وهكذا فإن ما نعتبره رمادا، أو ما نحكم عليه بأنه أصبح رمادا، مثل تلك الحركة الماركسية الثورية والمأساوية لجيل السبعينات؛ فهي التي تمنح وعينا اليوم ذلك الشعور الدافق، الثوري والمأساوي في الآن نفسه، بالحياة السياسية الدينية الديمقراطية. هل يمكن أن نصفي حساباتنا مع سنوات الرصاص بدون الإنصاف العادل والحقيقي للضحايا، وتفعيل كل الإجراءات العملية من أجل ذلك؟ هل تكفي الشهادة، أيا كانت قيمتها، لتحقيق المصالحة مع الماضي التاريخي؟ إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، أول مبادرة فريدة في تاريخ المغرب، بل في التاريخ العربي الإسلامي جميعه. تُخضع ماضي الدولة لتقويم نقدي بهدف إعادة النظر في الوظيفة الإيديولوجية للتاريخ الرسمي وفق رؤية جديدة تدمج التغيير الثوري من جهة، وتتحرر من العبء المأساوي من جهة ثانية. فهي انطلاق، لأول مرة في التاريخ العربي الإسلامي، من مأساة الضحايا بدل تمجيد عنف الجلادين. إنها أول انتصار سياسي وثقافي على غواية الجلاد. هذا الاعتراف وحده، هو الذي يمنح الشهادة معنى ويعطي لدورها في تحقيق المصالحة قيمة. الشهادة على الماضي والزمن القاتم لسنوات الرصاص، يرفع المعاناة الفردية بالمأساة ويتجاوز عبء الماضي المأساوي بواسطة قيمة الصفح. الشهادة هي إحياء للذاكرة، بل هي اللبنة الأولى في تكوين ذاكرة ديمقراطية منسجمة مع التاريخ الوطني. فالذاكرة الديمقراطية تعمل من أجل رثاء الذكرى. أما المصالحة مع الماضي المأساوي فهي في الآن نفسه مصالحة الضحية الفرد مع ماضيه المأساوي، فهي لا تعني سوى الضحايا، أي المصالحة مع الذاكرة الجريحة. وهكذا يختلف مفهوم الإنصاف عن مفهوم العدالة. فمفهوم الإنصاف يهم الفرد الضحية بينما يرتبط مفهوم العدالة بالمجتمع. مفهوم الإنصاف ينطلق من شهادات الضحايا على الاختطاف، التعذيب، الاحتجاز والاعتقال التعسفي، فهي سير ذاتية لكنها تؤدي من خلال الشهادة من جهة، والاعتراف من جهة ثانية؛ إلى تطهير الذاكرة الجماعية. لكن المجتمع بمشاركته حدادهم الفردي يمكنه فتح صفحة جديدة لأفق مختلف. وهكذا لا يمكن طي صفحة الماضي من دون فتح صفحة جديدة بالضرورة. هل لدى المجتمع المغربي الوسائل الضرورية لتحقيق تلك الطفرة؟ ذلك هو السؤال. ألا يقود انصهار الثورة والمأساة إلى الانتحار التاريخي؟ بل بخلاف ذلك، فإن انصهار الثورة والمأساة هو الذي يصنع التاريخ، التاريخ المغربي يتجلى في وحدة الثورة والمأساة؛ فقد استمدت الحرية المغربية حقيقتها الوجودية من التضحية، فهي التي جعلت الحرية ممكنة. التضحية كفعل ثوري، والضحايا كزمن مأساوي. لقد تجاهلت التاريخيات المغربية المسلسل الثوري وأغفلت الزمن المأساوي، في حين أن جوهر التاريخ المغربي هو في وحدة بل انصهار الثورة والمأساة. فهو ثمرة الحرية كقيمة وجودية والمساواة كقيمة اجتماعية، لكن هذا التطلع يصطدم بعوائق سياسية، دينية وثقافية، ما يؤدي إلى نشأة الزمن القاتم المأساوي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تجربة سنوات الرصاص،والعمل الإرهابي ل16 ماي، فالمأساة أو الشعور المأساوي هو الذي يضفي على التجربتين هالة وجودية وأخلاقية بشرط أن ينطلق من معاناة الضحايا لا السقوط في غواية الجلادين والإرهابيين. الثورة الريفية والثورة الصحراوية وثورة الملك والشعب وثورة المثقفين الثوريين جميعها، ذات بعد ثوري وزمن مأساوي، لكنها تؤدي في نهاية المطاف إلى صنع التاريخ المغربي، إلى ترسيخ سيرورته التاريخية الثورية والمأساوية في الآن ذاته. التاريخ المغربي لا يخشى الثورة ولا يخاف المأساة، بل هو مسلسل ثوري ومأساوي في نفس الوقت. إن أخطر ما يهدد أمة هو النسيان أو تزييف الماضي وتشويه التاريخ، وهكذا فمن واجبنا قراءة هذا الماضي بفخر واعتزاز، أن نمجد الأبطال الذين صنعوا هذا التاريخ، وأن نرثي الضحايا الذين صنعوا المأساة. المسلسل الثوري والزمن المأساوي هما اليوم أيضا في صلب الحياة السياسية الدينية المغربية، فلنعمل سياسيا ودينيا وثقافيا وفنيا على تحقيق عصر جديد لهذه الحياة، بدل سلوك طرق العدم والهباء والخراب الذي سيدمر الحياة السياسية ويقضي على الحياة الدينية. لننصت بإمعان لصوت التاريخ لنجلي مجراه ونتحرر من عبء المعاناة. يظل عنوان كتابكم «الثورة الديمقراطية» بالنظر إلى محتويات فصول الكتاب غامضا. كيف تفسرون ذلك؟ محتويات الكتاب هي نصوص تؤرخ للوعي المغربي المعاصر، تهدف إلى تفسير مساره الثوري ومسلسله المأساوي. موضوع الكتاب إذن هو الوعي، فأنا أعتقد أن تملك الوعي يمثل اليوم حجر الزاروية في الشرخ التاريخي الراهن. أما بالنسبة للديمقراطية فهي لم تنشأ أبدا كمفهوم بل كتمثلات للوعي. فقد تأسس في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، على الكلمة والصورة والمثال، ما يضلل الجمهور الذي يشوه بجهله الحقيقة والفضيلة معا. هذه الديمقراطية تكونت كرد فعل على سياق تاريخي وحل لمشكل واقعي: عنف الطغاة الذين ألحقوا الخراب بالمدن اليونانية من جهة، وعنف الفرس، رمز الحكم المطلق والاستبداد الشرقي من جهة ثانية. ولذلك فقد ولدت الديمقراطية من رحم الحرب، فالواجب الأول للمواطن الأثيني هو الدفاع عن المدينة. أما الخاصية الثانية فهي ارتباط الديمقراطية بالتوسع الأمبريالي. فالديمقراطية توفر الاستراتيجيات العسكرية التي تسمح لأثينا ببسط هيمنتها العسكرية على المدن اليونانية. ما يحدث اليوم في العالم العربي لا يختلف كثيرا عن هذا الواقع التاريخي، فنشر الديمقراطية تحكمه الحرب من جهة والتوسع الأمبريالي من جهة أخرى. وهكذا فالأمة التي يمكنها مقاومة الحرب والتوسع الأمبريالي، يمكنها تجاوز أزمة الحياة السياسية والحياة الدينية، وبالتالي الانتصار في معركة الحرية. أما الأمة التي تخضع للإرهاب وتخشى الروح الثورية وترهب التحول التاريخي، فستسقط في العدم والهباء. المغرب يتوفر على ثورة ديمقراطية حقيقية تتجلى في تقديم حلول ديمقراطية للقضايا السياسية مثل الصحراء الغربية، الهوية الثقافية الأمازيغية، إمارة المؤمنين، حقوق النساء، المسألة الدستورية، التحديث، التلاحم الاجتماعي، التربية، الثقافة والفن، السلوك المدني وغيرها، وبالتالي فهذه الحلول الديمقراطية للمشاكل السياسية هي ثورة ديمقراطية حقيقية يمكن أن تلعب دورا محركا في تحقيق التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي، والأهم منهما أن تجسد الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات، وهي غاية كل ثورة ديمقراطية.